قتلتْني
انتهت الحكاية؛ أنا الآن في الأربعين ، وما كان غاب، والموجود صار موجوعًا، كتفاي تؤلمانني، أشعر، وكأنّ جسمي ينفصل عنّي، وكأنّ الوحدة التي أعيشها لا تكفي، كي أشعر أيضًا بأنّ أعضاء جسمي كلّها تعيش وحدتها، فتتقطّع أوصالها، وتعيش هي الأخرى غربة؛ يدي تجافي يدي، وكتفي يجافي رقبتي…
أشعر برغبة في البكاء، أخاف من هذه الدائرة المفرغة التي أدور فيها، لا أهل، لا أقارب، لا أصدقاء، وحدة مظلمة مطبقة. أعيش أيّامي ترافقني ذاكرة متعبة، ذاكرة أنهكتها صور الراحلين، وحكايات تئنّ تحت ركام الذكريات تجعلني شتاتًا. أهرب من نفسي، لا أجد حضنًا إلّا ذاكرتي، أحاول أن أتوسّدها لكنها تصدر أصواتًا تعذّبني، فتكون عذابًا فوق عذاب. أريد أن أهرب من هذه الذاكرة، وأعود إلى نفسي لكنّني لا أجد ذاتي، فأنا ما عدت أنا. أنا الآن تشكّلني الذكريات، وهي صارت ذاتي، أهرب منها وأعود إليها صاغرة منصاعة، وكأنّ الحاضر مات ليحيا الماضي، لكنّه ماضٍ قاتل؛ يقتلني، يضيّق الخناق على عنقي يشدّ ويشدّ، وأنا أتأوّه، أحاول الصراخ لكنّ صوتي يرتدّ إلى داخلي لينمو ويكبرويتضخّم، ويسهم هو الآخر في قتلي.
هكذا هي حياتي: دائرة محكمة، لا خلاص من عذاباتها؛ حتّى في ساعات النوم تبتعد ذاتي، وترافقني الكوابيس، وتصير هي عالمي المضني. أسمع ضجيجًا عاليًا، صوت جبال، جبال تسير مسرعة. الجبال تسير؟! لا، هي لا تسير، أنا من يسير بين جبلين. لكن ما هذا الصوت الضخم الذي يصدر؟ هو ضجيج الجبال، وهي تسير، تحاول أن تطحنني، وتذيبني فيها فأغيب وأتلاشى، وكأنّني ما كنت ولا جئت إلى هذا العالم البائس. أحاول أن أهرب فأركض، لكن الضجيج يزداد، وتزداد معه وتيرة حركة الجبال، فتهوج، وتسير بسرعة جنونيّة، ويعلو الصوت العملاق. أنا خائفة، خائفة كثيرًا، ترتعد فرائصي، ترتجف أوصالي، ينقطع نفَسي، آه، لا أقوى على التنفّس، أستيقظ مذعورة، أفتح عينيّ، أجد نفسي مبللة بالدموع، وفراشي مبلّلا بالماء.
لا يريحني الاستيقاظ من النوم، ولا يواسيني اكتشافي أن ما مرّ ما هو إلّا حلم مزعج، فأنا أعيش هذه الدّوّامة، دوّامة لا فكاك منها.
أفكّر بطريقة أتخلص فيها من ذاكرتي، ومن تلك الكوابيس، فلا تسندني ذاتي اليائسة الضعيفة. أتمنّى أن أنام ليلة واحدة من دون كوابيس، وأن أستيقظ ذات صباح من دون ذاكرة، وتحطّ بي الرحال في أرض جديدة مستوية ، لا جبال فيها ولا زمجرة رعود.
أتمنّى أن أحظى بالبدائل، لكنّ الحياة عوّدتني أن أحظى بالبدائل المخيّبة لأحلامي. هكذا هي الحياة، نرجو شيئًا فنجد شيئًا آخر. وأنا أريد الخلاص، وها هي الحياة تعطيني بديلها: أتوه في طرقات ذاكرتي، والجبال تأخذني في المتاهة، فأقضي ليلي أركض، والجبال تلحق بي، وتزمجر، وأضيع في الطرقات، وينهكني الذعر لا التعب.
كانت جدتي تقول: إنّ سبب عذاباتنا هو الذاكرة، وأنا أحاول الهرب منها بالنوم، لكنّ الجبال الليليّة احتلّت مكانًا جديدًا في الذاكرة ، وما عدت أعرف السبيل إلى الخلاص.
عبثًا، أحاول الوصول إلى شارع الأمان، أنا أنزلق نحو الأسفل، نحو الضياع. بدأ ذلك عندما تسلّمت ذاكرتي زمام الأمور، فصرت أسيرة دائرتها، تكتب حياتي، حتى الكلام ما عاد فعلي، بل صارت ذاكرتي هي التي تتكلم، وكلامها متقطّع غير مترابط، فيزيد من تقطّع أوصالي، وغربة أعضائي، فلا تواصل بين روحي وجسدي، كأنّهما غريبين لا لغة مشتركة بينهما، يعيشان في انفصال، وعقلي لا يعمل، خدّرته ذاكرتي الشقيّة الملعونة.
أتثاءب، أريد أن أنام. لا، لا، لا أريد أن أنام. النوم يعني جبروت الجبال، وصغر قامتي، وضياع نفسي، ووحدتي. لكنّ الآن يراودني سؤال: لماذا لا ألتقي بأحد في طريقي وأنا في أزقّة الكوابيس؟ لو كانت الأحلام فعلًا إراديًّا لأوجدت صديقًا ينقذني من تلك المتاهة! أشعر بأنني أشبه النعامة؛ أطمر في النوم رأسي هاربة من نهاري فيستأسد ليلي، ولا يبقى مني صباحًا إلّا خواء. عليّ أن أجد طريقة أنقذ فيها نفسي: لا أب، لا أم، لا أخ، لا أخت، لا عائلة، لا زوج، لا حبيب، لا صديق. كلّهم رحلوا، وخلّفوا دمارًا في حياتي، دمارًا شيّدت منه الذاكرة بنايات شاهقة ترصد سعادتي، وتعطّل عقارب ساعتي، وتمنعني من العبور. لذا سأقتلع الذاكرة، سأحاربها، سأقتل من فيها، لن تكون رصاصات رحمة، ستكون رصاصات فيها تشفّ، وحقد دفين عليهم جميعًا، لأنهم تركوني وحيدة، تركوني في عطش دائم لهم ولذكراهم.
أرجوكم جميعًا
أرجو كلّ من يقرأ عذابات روحي أن يسعفني بأداة قتل تميت سكان الذاكرة، ذاكرة جنت بحق صاحبها.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي