صفقة
قصة قصيرة
صديقة علي
يؤلمني أن أقرأ قلقها، بصمتها وارتجاف يديها، لا شك أنها في موقف شديد الصعوبة، ولا تُحسد، عليه
عيناها تنطقان بالقهر وبالخذلان:
- قليل الذوق أخوك لم يأت بعد، هاتفته… وهو لا يكترث.
ويصدف أن يسمعها أبي… فيهمس بشفتين بيضاوين وبوهن شديد: - لا عليك… هذا الولد العاق لا أنتظر منه شيئاً.
تمسد يدي بحنو دافئ، وترجوني أن أراجع الأمر بعيداً عن العواطف. - ما زلت في أول شبابك… دعنا نبحث عن حلّ آخر.
- أمّي، قلت لك ألف مرة هذا هو الحل الوحيد.
فتهزّ رأسها مستسلمة:
-أجل، أجل… لكن التكاليف، كيف نتدبرها؟ الله لا يرضى… أستغفر الله.
يصعب على أمي أن تقولها رغم كل قساوة أخي واستهتاره المُذل.
كان يكبرني بخمس سنوات… لا يطيق المدرسة؛ لكنّه يستغني عن نقود أبي باستمرار؛ و هذا لايريح أبي وكثيراً ما كان يثير قلقه وسخطه، لكنه وفي لحظات صفاء يناديه بالتاجر الصغير؛ فأخي لم يترك شيئاً لم يبعه ويتربح به حتى مجلات الأطفال التي كانت بحوزتي، أما أنا فقد كنت أحظى برضا والدي ومحبته الغامرة، يناديني لأقف أمام ضيوفه وأصدح بقصيدة للمتنبي، فأشعر بالفخر في نظراته التي لا يحيدها عني، وما أن أدخل غرفتي؛ حتى يباغتني أخي بساقه الممدودة فأتعثر بها وأسقط على وجهي… وآن يسمع أبي بكائي ينهال عليه بالضرب وكثيرا ما ردَّد:
لا أصدق أنك من صلبي وكأن الله يعاقبني بك.
عندما اقترب موعد العملية… كان عليّ أن أستدين مبلغاً كبيراً، وكانت أمي تتابع اتصالاتي بكل لهفة، وإذ أُقفلت الأبواب جميعها في وجهي، قالتها مستسلمة: - أمر الله، لا حول ولا قوة لنا.
تدخّلُ أخي المفاجئ قلبَ كل التوقعات، بعد غياب سنوات عاد بوجهه ذاته وبغروره ذاته… وبتبجحه بغناه المفاجئ.
في بهو المشفى يروح ويجيء كالطاووس، يغدق علينا بكل أصناف الطعام والشراب والأدوية.
عادت العافية تُلوّن وجه أبي؛ فينحسر الشحوب عنه، وبسمة أمي تشرق بخجل، مشوبة بحزن دفين. راح أخي يتصدر الجلسة في بيتنا الذي يكتظّ بالزوار، يسهب بالحديث عن مشاريعه الرابحة، وعلاقاته الواسعة مع كبار التجار وأهم مسؤولي الدولة.
كانت أمي قد نهتني بحزم عن مقابلته.
-إذا لم يقم لي اعتباراً، فكيف سيلبيك؟
كنت أطمئنها: - أعرف كيف أتفاهم معه.
على مقهى رصيف تلاقينا كغريبين، استقبلني بابتسامته الصفراء: - ماذا يريد مدلل والديه؟
- أتيت إليك بصفقة.
يقهقه وهو يلتفت يميناً ويساراً: - صفقة! ومنذ متى كان الجامعي المثقف يفهم بالصفقات؟
- أتنازل لك عن البيت.
و بازدراء يقول: - وهل مات حبيبك؟
- بعيد الشر عنه لكنه على وشك… إن لم تتدخل.
- إذاً؟
- لا يمكنك الرفض، لم يتيسر بيعه، وأنت أولى به، وهذا كان حلمك.
- مقابل؟
- العملية.
وبنشوة المنتصر عدل من جلسته وقال: - اتفقنا.
- ليس بعد.
- ثم ماذا؟
- أن تبقي الأمر سراً بيني وبينك، وخصوصاً عن أمي، إلى أن يأخذ الله أمانته، ولسوف أتركه لك في حينه وعندها أقم مشروعك.
- سأكون أكرم منك، ومن والدك وأهبك شقة صغيرة في البناء الذي سأقيمه.
- شهم، لا شك أنك شهم. المهم العملية الآن.
-أتسخر؟ أجل أنا شهم، بل أكرم منك ومن والدك، وهل شهامته اقتضت أن يهبك البيت ويحرمني منه؟
-ها هي أخبارنا التي تهمك قد وصلت إليك، غريب أمرك، ألم يصلك مرض والدك؟.
أنزوي وأوجاعي على أريكة جانبية، وكان أخي يشرح للضيوف، كيف سيقيم بناءً شاهقاً مكان بيتنا البائس. رمقته أمي بريبة وأحدّت بنظرها اللائم إليّ: - كان حدسي يقول لي إن كرمه المفاجئ ليس على خير، هذا ابني وأعرفه، الله يسامحك، لقد فعلتها إذاً.
لم يكترث أبي لآلامي، ولا بما كان يخطط له أخي، بل كان يتابعه بعينين يملؤهما الاعتزاز والامتنان ويعيد أمام زواره الجملة ذاتها: - الله يرضى عليه، لولاه ما استطعت إجراء العملية… لقد كانت باهظة التكاليف.
لم تكن آلامي المبرحة بسبب جرح في خاصرتي فقط؛ بل ما يحزّ في نفسي هو تجاهل أبي لي، وما زلت أنتظر من دمائه، أن تذكّره بي، وهي تتدفق في كليتي التي تسكنه.
صديقة علي
29/4/2022
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي