سأنصف أمي.
الساعة السادسة والنصف صباحاً:
تقرع طبول عقارب الساعة. غرفة النوم كعادتها مظلمة، حتى قبس نور يكاد ألا يدخل من شبابيكها، كأن الظلام بكل سوداويته قرّر أن يستقرّ هنا، في هذا العالم العفن الذي يتشكل حولي. على الحائط المقابل لسريري، ضوء خافِت… هو النور يحاول التسلل دائماً هارباً إلى رحاب المقهورين هنا، وكأن أكثر الأحضان المشتهاة هي تلك الموجوعة…أقلّب الأوراق التي رقدت منذ فترة تحت الغبار، وروائح العفن تفوح منها.
شيء ما ينقر رأسي بقوة، أقاومه وأدفعه بعيداً…على الزمن الذي ينام في صدورنا ويوحشها أن يتخدّرا طويلاً… فلماذا يعودان؟
الساعة السابعة صباحاً:
آخذ ورقة، بقلمي الأسود أشطب تعاريفهم التقليدية، ملزمةً بكلمات مضرّجة بالألم أكتب:
“هنا قرروا كل شيء، وهنا انتهى كل شيء وانتهينا.”
استيقظت يومها على صراخ أنثوي، صراخ يختنق ما بين الحلق والفم، كأنها حجارة تعرقل الممرّ. كان جسده الضخم الواقف في الباب، يأخذ حيّزاً كبيراً من المشهد، لم أرَ غيره. لم تتغير وقفته هذه ومشاعر الرعب التي يزرعها فيّ من يوم ولدت، فكيف للوحوش أن تنجب أطفالاً؟
لكنها أمي لم تكن تضع رأسي في حجرها لتهدىء دقات قلبي. حاولت عبثاً أن أبحث عنها،فلم تفلح رائحة عطرها الياسميي بل رائحة الدم.
صراخ، ثم جسد ضخم، ثم دم، ثم لا شيء.
الساعة السابعة والنصف:
يومها فقط كنت أبلغ العشر سنوات، اليوم أطوي الورقة الخامسة والعشرين من هذا العدّ التنازلي. خمسة عشر عاماً مرّوا على هذا الانقلاب،
بغربة ويتم تعيش هنا صغيرة، نامت على همس الملائكة واستيقظت على فقد جعلها كائن غير سويّ، هزمته الأوجاع. أعيد الورقة لمكانها، لقد تضاعف عدد الأوراق التي خطّيت عليها سكراتي الموجعة.
أضع كل هذه الأوراق بكيس النايلون دفعة واحدة، وآخرها التي كتبتها ليلاً، بعد ما استقرّت الوحدة بي، واستعدت سيناريو الألم كله.
الساعة الثامنة:
أحمل حقائبي، سترتي، وثوبي، وأخرج من المنزل. لكلّ منّا عالم خاصّ به، لكلّ منّا عوالم مزدوجة. لا أحد يدري بحقيقتها…أدخل إلى بهو النقابة، في الغد كنت أحلم بأن أكتب كتاباً، كان حلمي يتجلّى في”الأدب”…واليوم أصبح رسمياً محامية… بعض الأحلام أيضاً تشكّلها الأوجاع… تجعلنا أقوياء متمسكين بحبال التمرد على الألم…تكتبنا مجدداً…تصنعنا من خلال إحدى القضايا…لنخطها هي مجدداً على كتب العمر…
الساعة الثامنة والنصف صباحاً:
نهشتني أوجاع السنين، تعدّت عليّ المحاماة، قسراً زُرعت فيّ، لم أقرّر أن ألبس ذاك الثوب، أو أن أقدم الشواهد يوماً.
أدخل قاعة المحكمة للمرة الأولى ،وأم كلثوم تدخل معي، في رأسينا كلمتين:”أمّي …وأبي”.ليالي شهر أمشير الباردة،أتت بها إلى هنا،لتحتفل وحدها في الفرح الذي ألغي،وضمير والدها الحاضر بكيانه كله، جعلها تغنّي في قاعة خالية، وضمير أبي الميت،جعلني أكلّم كراسي المحكمة، خمسون كرسي ولا إنسان حقيقي يجلس عليها، كراسي تسمعني، بعضها يبكي، وبعضها تتطربه أم كلثوم. حتى صاحب الأسى هذا غائب، وحده صدى الصوت حاضر:”أنا المحامية “سما”،خلافاً لكل جلساتكم السابقة، ولّيت نفسي بلا استشارة عن قضية، قضية صنعتني بعنف، وجعلتني بقوة أقف اليوم لأضع حداً لمهزلة عشت بها لأنهي علاقة أبوايَ السامة بغيابهم. لعلّكم تسمعونني بحجم القهر الذي أرّق مضجعي، فالموت ينهي الكثير، حتى الإنسان لكنّ الحب الذي تحرم منه يمسي موجعاً يجعلك تُظهر أنيابك، ومخالبك الحادّة دفاعاً عن حبّك” ولأنني صغيرة أخذو منها فستانها الزهري ولأن الطفل هو صنيعة أمه بكل ما فيها قلباً وقالباً، فأستحضر بذلك الطرف الأول،أمّي، تشبه آلهة هذا الزمن بكل جبروتها قاومت ودافعت. أذكر صرخاتها في وجه الطغيان، لم أكن لأفهم كلماتها لكن حدّة صوتها تشير لذلك في كل مرة تحاول أن تحرّر معصميها من القيود التي فرضت لكن وحش ما ينكد على كل هذا ويبتره. إلّا صوت واحد عجز عن إطفائهوفكانت تصرخ من خلفه :أنتِ أملي.
أمّا عن الشواهد فبعضها يكون قضية بما فيها، أفتح كيس النايلون:”هذه الشواهد كلها،هذه الأوراق التي خطيت عليها كل آلامي،والمحاماة هي الشاهد ووفاء عهد حبي لأمي.
الساعة التاسعة صباحاً:
للمرة الأولى أشعر أن صوتي قد اخترق كل المسامع أن أمي هناك سمعته، وأن بعض الكلمات لها أثرها.أخرج من هناك محملة براحة السنين التي ستأتي وأدخل باب آخر فيه الطرف الثاني من القضية.
لقد حان موعد زيارة اليوم، شابَ شعره كثيراً وإزداد جسده هزالةً ونحالةً. أقف أمامه بكل جراح الماضي لا يذكرني، لا يعرف من هي تلك التي تواجهه.
سما التي أسقطتها من علياء طيرانها،اليوم تعاود قوّة أجنحتها وتقف مجدداً لإنهاء قضية لم تمت فيها، حتى اليوم ذا لكنها اليوم تنده الله وتبعث برسالة لعله يوصلها لأمها: كنتِ حلمي في هذا العمر،وأمسيتِ قضيتي الوحيدة،حاربت فيكِ السنين، لعلّي اليوم أكون أملك وحقك الذي أخذته عنوة من الحياة بغيابكِ.
الساعة العاشرة:
أذهب إلى المطبعة، علينا تعديل نسخة الكتاب: “الموت لا يعيد أحد…والجنون يجعلك جثة هامدة…عندما تفقد عقلك يوازي ذلك فقدان نفسك…فالأموات لا يعودون…ومن يتلبسهم الجنون لا على الرب أن يحييهم…ونحن نحيا ما بينهما…نتأرجح بين كفوف العذاب…يوم نُشفى…سنتركهم للأقدار…لا علينا بهم”.
-مريم أبو خضر
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي