لستَ أنت!
بقلم : بلقيس بابو
***
كل شيء بميعاد، فقد نلتحق بعمل جديد، أو نسافر لغرض معين، أونُدعى لحضور حفل ما، وكثيرا ما لا نعرف أننا نسير نحو قدر محتوم.
تلك حالنا ونحن نسبح في أمواج العالم الأزرق تمهيدا لحدث، لمنشور ، لكلمة بل ربما للقاء يُظهر أفضل ما فينا ..وقد يكشف عن أسوإ ما نتستر عليه.
كما أن هناك أشخاصا نقابلهم صدفة يمنحون لوجودنا معناه الأصح أو الأدق أو الأجمل، وقد يضفون على حياتنا نكهة، أو ربما يغيرون مصيرنا إلى الأبد.
هذا ما عاشته -هي الأخرى- بالأمس، أحست برغبة كبيرة في العزلة وتخصيص وقتٍ أطولَ للتأمل؛ لكنها فقدت القدرة على الخروج من دوامة التفكير واتخاذ أي قرار وتمنَّت لو أنها تتحول فجأة إلى مخلوق ذي أجنحة..
فمنذ أن تعارفا في دهاليز عالم افتراضي وهي تقاوم الخوف من أن يحل هذا اليوم.. يوم اللقاء الفعلي ، وجها لوجه، على حقيقتيهما، لا كما صورتهما لغة الرسائل، رسائل حلم جميل في عالم وردي جميل.
لكن ماذا لو ظلَّا كما كانا، حبيبين في عالم خيالي مجهول، يستمتع كل منهما بصورة كوَّنها عن الآخر ، افتراضا لاحقيقة؟!.
قبل يومين كانت تود أن تبوح له بالكثير، تتلهف للقاء تخبره فيه أنها افتقدته كثيرا وأن شوقها إليه يكبر كلَّ يوم.
لكن ها هي الآن تعجز عن الكلام وتخونها القدرة على التعبير؛ فالتوتر يشل جوارحها؛ والخوف يستبد بها.
تشعر كأنها موجة عالية، تختفي عند الشاطئ.
تشعر اليوم أنها ممزقة تائهة، إنه مصدر سعادتها التعيسة.
كم تتوق للحظات في بيت على بُعد أقدام من البحر ، تتوسطه غرفة نوم بها نافذة كبيرة يمكن من خلالها رؤية البحر بكل عظمته والاستمتاع بسمفونيات أمواجه.
تهبُّ رياح غربية، يزرع صفيرها الرعب في قلبها بينما بداخلها صوتٌ يهمس: “إنه آتٍ دونما أدنى شك”.
هل تراه يذكر ذاك البيت على التَّل، ذاك الذي شيداه بقطع من أحلامهما ؟! ستنتظره هناك ، ستنتظر طيلة الوقت الذي يلزم … تزينت بكل ألوان الزينة من أجله، ستختار الموسيقى التي يحبها ، ستكون هناك من أجله ولأجله فقط …
سوف تنتظر وصوله مهما كان؛ ستفتح له الباب قبل أن يطرقها وتسرع لتلقي بنفسها بين ذراعيه،
سوف تضيء له ألف شمعة ، ولن يكون ذلك كافياً، ماذا لو منحتها السماء نجومها لليلة واحدة؟؟..
وقبل وصوله تغمض عينيها حتى يعمّ الحلم ويسود الأمل أركان هذا الفضاء الخشبي البسيط. هي تعرف شكله وملامحه من خلال الصور التي كان يبعثها، ترى كيف سيبدو حقيقة؟!.
أتكفي الصور لتعيش أحلامها نوما و يقظة؟ أم لا بد من أن تحس بدفء صوته، وأن تلمس يده، وتمتع النظر بحسنه وجماله ورشاقته، وابتسامته؟ مثلما ظهر عليها في آخر صورة له..
فقد تبادلا من الرسائل ما لا يحصى، و تشاركا من الأسرار العديد، باحت له وباح لها بمشاعر لا حدود لها …
ترن إشارة وصول رسالة منه على الهاتف، تفتحها بلهفة، قد حطَّتْ طائرته بالمطار منذ نصف ساعة ، وهو يستقل سيارة الأجرة متجها صوب مكان الموعد.
يخفق قلبها بسرعة ، تشعر برهبة غريبة، من كونها ستراه حقّا، وجها لوجه وأنها ستقابله ، ستلقي بالخجل جانبا وتعانقه، بعد مدّة طويلة تواصلا بها على بعد آلاف الأميال ؛ تتوالى رسائله وتشتعل نيران الشوق.
“أنا قريب..قريب جدا …”
تقول آخر رسالة.
ثم نقرة على الباب تهز قلبها، تقفز من مكانها،
- من؟ من الطارق؟
وتفتح الباب..
-من أنت !!!؟… من أنت سيدي ؟ماذا تريد ؟ - أنا حبيبك، أنا هو، وصلت منذ قليل ، ألم تصلك رسائلي؟ أنا من كنتِ بانتظاري؟ أليس كذلك.؟
- ولكنك.. أنت، لست أنت ؟ لست الشخص الذي أعرف..
خانتها الكلمات، ظلة فاغرة فاها من هول الدهشة: - أنا لا أعرفك ؟ لست من أرسل لي صوره؟ .. أنت ، لست أنت… من تكون يا ترى؟؟؟؟
- دعيني أدخل وسأشرح لكِ…
-تدخل؟؟؟ …أبدا!!
لا يمكن أن تدخل، أنا لا أعرف من تكون. - الحقيقة، أرغمتني ظروف قاهرة على إخفاء صوري الحقيقية..
و لكن أرجو أن تفهميني! أرجوكِ اتركي لي فرصة كي أوضح الأمر..
-توضح؟؟! أي أمر ستوضح؟ أكاذيبك؟؟ خداعك؟ أي مكر هذا؟؟
ألم تع بأنك مارست كذبا وتدليسا طيلة المدة التي عرفتك فيها؟ أنا لا أعرفك ، أنت شخص غريب عنِّي أنت مجرد كذبة كبيرة …
-أرجوك، اسمعيني! نعم أخفيت صورتي، ..ولكنني لم أكذب في باقي الأشياء.. فأنا أحبك حقا ، سأوضح لك كل شيء، أرجوك ..
-إليك عني أيها المخادع..
ثم أقفلتْ الباب بقوة في وجهه، كما لو أنه لن يُفتح بعدها أبدا…
خرجتْ تهرول من الباب الخلفي المؤدِّي إلى الشاطئ ، مضطربة، يهزها الشعور بالندم، وهي تلعن اليوم الذي صدَّقت فيه شخصا صوريا في عالم افتراضي…
جَثَتْ فوق رمال الشاطئ منهارة، كلما حفرت حفرة كبيرة ردمتها الأمواج الصغيرة المتلاحقة، اختلط على محياها العرق بالدموع، وفكرت في حفرة كبيرة كبيرة جدا بما يكفي لدفن سذاجتها وغبائها، وتعلقها الساذج بوهم تردد بالليل والنهار، ثم تردم الكل بركام من التراب والحجارة، وتزين القبر بصدفات ملونة جمعتها من الشاطئ ، ثم ترحل مسرعة لتُدركَ ما بقي من يومها، وتُطفئ الشموع في ذكرى ميلادها الجديدة..
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي