النوستالجيا(الشّوق و الحنين) و جمالية التصوير في نصّ :
الكاتب الإعلامي سعدالله بركات” على جناح الشوق “
بقلم د. آسية بديع يوسف *
يغمسُ المبدع يراعه في محبرةٍ وجدانية فيأتي لنا بهذه الّلغة المطواعة المعاني، رقراقةً منسابةً هامسةً بعيدةً عن الحشو و الدخيل و رسخ أفكاره الذاتية تجلياً وفناً
و يعدُّ المنهجُ النفسي الحنين للماضي و الأمكنة ذا أساسٍ سيكولوجي يطلق عليه مصطلح ( النوستولجيا _الحنين إلى ماضٍ مثالي) وابتكره طالب الطب ( يوهانس هوفر) غالباً يشعر المبدع بالأمان النفسي و الراحة و الاطمئنان بالعيش في الماضي الذي يألف أحداثه و أشخاصه بينما يشعر بالخوف و التوجس من المستقبل فيحكم عليه أحكاماً خاطئةً نتيجةَ تصوراتٍ ذهنيةٍ لأحداثٍ مؤلمةٍ لم تقع له و إنما وقعت لغيره فيتصور أنه لابدّ أن سيواجهها يوماً ما، و الغريب أنه لا يعيش اللحظة الراهنة فتنسحب منه لحظات السعادة من غير أن يستشعرها و تمرّ سريعاً.
لكن الأستاذ سعد الله بركات يستشعر سعادة اللحظة عند عودته إلى الشام و تحديداً إلى صدد مربع الطفولة و الشباب و يوّصف مشاعره مازجاً بين معجمي الطبيعة و الحبّ ليمنح المتلقي الفرصة ليتفاعل و ينفعل وتجربته الشعرية، و لعل التغيرات التي حدثت في حياة المبدع أتاحت له معالجة المشكلات بسهولةٍ مقارنةً بحجم التغيرات المتسارعة في هذا العصر والتي نجم عنها ظاهرة (الاغتراب) النفسي وصعوبة التكيف، و النوستولجيا آلية دفاع له أساس سيكولوجي يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية و المزاج وخاصّةً عند مواجهة صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة فالحنين مهمٌ للصحة العقلية و النفسية وله فوائد جسدية و عاطفية فهو أسلوبٌ ناجحٌ في محاربةِ الاكتئاب وقتياً و يعزز الثقة بالنفس و النضج الاجتماعي إذ يمدُّ المبدع بالراحة والسعادة.
سمات الحنين في نص أ. سعد الله بركات :
#سهولة الألفاظ والمعاني إذ تخلو من التعقيد ولا تنقص من فصاحة اللغة و الكلم.
#صدق العاطفة و غزارة المشاعر و الأحاسيس و الإفراط في التعبير.
# التجربة الذاتية حيّة و كاملة في النص لما عبر عنه من تجربةٍ حقيقية عاناها المبدع وتفاعل معها و عايشها و استولت على إحساسه ووجدانه فعبر عنها في عباراتٍ جميلة عذبة وصور في غاية الصدق و الإبداع.
**مزجَ المبدع بين معجمي الطبيعة و الحنين فتغنى بجمال دمشق و معالمها فهناك صلة عميقة بين الحنين و دمشق و صدد مما حدا المبدع إلى التمازج و التداخل بينهما، لقد سحرت طبيعة البلاد عقله و دفعته إلى التغني بجمالها و روعتها و ربوعها حيث ملاعب الصبا وموطن الذكريات و ألهبت الغربة مشاعره فحن و أشتاق إلى الربوع و إلى أمه التسعينية التي فقدها فمهما كبر الإنسان يعود طفلاً عند فقدان الأمّ نبع الحنان
و التلاحم بين النص و مبدعه أتاح لنا اكتشاف المحتوى الوجداني العاطفي في البُنى الّلغوية للنصّ و نظراً لرغبته الملّحة في إخبار المتلقي عن مكنوناتِه وأحاسيسه وظّف أسلوبي الخبر و الإنشاء مثل قوله في مقدمة النص :كطفلٍ يحبو في أسلوبٍ خبري ابتدائي فقد غلب الطابع الخبري و قليل من الأسلوب الإنشائي الطلبي في مناداته يا شام.. يا صدد في إنشاء طلبي نداء، و قوله ما عساني أن أقول:في إنشاء استفهام خرج إلى معنى الإنكار
*و أحسن المبدع استخدام الصور البيانية التي تنوّعت بين التشبيه و الاستعارات و المجاز
ومنها الصور البيانية الأخاذة بأسلوبٍ جميل التوصيف مثل قوله:
كطفلٍ يحبو إلى ظلّ أمه، و كعصفورٍ يرنو إلى عشه حاذفاً المشبه و مصرحاً بالأداة و المشبه به ووجه الشبه في تشبيه تام جعلاً نفسه المشبه.
وقوله:
مثل قطرة ماءٍ تعشق تشبيه تام
و استعارة مكنية في تعشق.
يشدني الحنين استعارة مكنية حذف الإنسان و كنى عنه بفعل الشدّ، عبق شوارعكِ مجاز في تراسل الحواس ما بين الرائحة العبق و المكان الشارع.
ساحاتك تغفو جعل الساحات تغفو كإنسان، كتف قاسيون استعارة مكنية إذ جعل قاسيون انساناً له كتف.
تقصُّ حكايات الحضارة أيضاً استعارة مكنية، تزنّر البيوت استعارة تصريحية، شرفة تعانق استعارة مكنية، تقبلها شمس الصباح استعارة مكنية، يا صدد استعارة مكنية ، أجنحة الشوق استعارة تصريحية.
و قد وفق المبدع في تحميل الصور البيانية و الألفاظ طاقات شعورية عالية الصدق خاصّة عندما اعترف بحزنه و ألمه الممض لفقد والدته فعاد طفلاً يضفي أحاسيسه و حزنه على الأشياء فتصبح أشد حساسيةً و حزناً.
د. آسية بديع يوسف – شاعرة سورية
* * *
“على جناح الشوق “
كتب الإعلامي سعدالله بركات *
*كطفل يحبو إلى ظلّ أمه ، كعصفور يرنو إلى عشّه ، ومثل زنبقة عطشى ، أعود بظلي إليك ياشامة الدنيا وشامها .
مثل قطرة ماء تتعشق ذرّات الثرى ، يشدّني الحنين عاجلا إليك ياشام ، إلى عبق شوارعك والأزقة ، إلى ساحاتك وهي تغفو على كتف قاسيون فتستنهض معه بأسمائها التاريخ بسمو شموخه .
إلى صروحك والأوابد ، تقص حكايات الحضارة وأبجديتها التليدة ، وكل ماتراه عيني لايغنيني عن كنوزك والدرر.
الخضرة على مد النظر والغابات تزنر البيوت بنضارة يجددها خير السماء ، لكنها لاتعادل في ناظري بعضا من نضارة أشجار الربوة وتغريد أوراقها على إيقاع خفقات بردى وخريره ، وهو يخفّ ليروي حقول المشتهى في غوطتك وأشجار المشمش والياسمين.
وقهوة الصباح شهية هنا ، ولكن ليس بشهية رشفة على شرفة تعانق صرح قاسيون ، لتنفتح مع خيوط الفجر الأولى – قبل أن تقبّلها شمس الصباح- على آفاق مديدة من سهول ووهاد ، وما تختزله الربوع وتشي به من خيرات و ما تحتضنه من ذكريات.
أشتاق إليك يا صدد ، فما غادرتك مرّة ،إلا وعددت الأيام والساعات ،وتراني هذه المرّة أعدّها بالدقائق والثواني ، فعلى أجنحة الشوق تلتهب المشاعر والأماني.
على أجنحة الشوق أحملك أيقونة بين الضلوع ، وأطوف بها مع الذكرى فأمخر عباب السماء ، وأعود إليك على جناح شوق لمسامرة جار ..صديق ..أوقريب .. أصابحه أو يماسيني ، أفرح له أو يواسيني ، وعلى جناح توق لكأس من المتة في فيء عرائش العنب وقد ربيتها يوما بيوم ، سيظلّ يحملني إليك على أمل أن أستظلّ بها إلى جانب بيت ابتنيناه ، لبنة لبنة على مرّ سنين ، وأمّا عن وداع الوالدة التسعينية – وقد رحلت بلا وداع كما أبو كمال وأعزاء – ، فما عساني… ما عساني أن أقول؟ !!!!…..غير ما قال شوقي :
..
بِهِمَا فِي الدُّمُوعِ سِيرِي وَأَرْسِي نَفَسِي مِرْجَلٌ، وَقَلْبِي شِرَاعٌ))
__________
* الخاطرة كتبت في تموز 2012 مع بداية الاغتراب ،وتراكم عليها سنون…وشجون …
…
.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي