من نافذتي يجذبني المنظر الرائع لشجيرات الصنوبر الباسقة بأطرافها المتجمدة والساقطة كقطع كريستالية مدببة وقاسية ، الشتاء اللندني قاس في هذا الوقت عادة من فصل الشتاء ، الطقس بارد إلى حد كبير ومتقلب جدا ما بين شتاء غزير و ثلج خفيف ، افكر بصوت عال قائلة الليلة ستكون قاسية هي الأخرى.
، أنهض من فراشي الدافئ واقنع نفسي بأنني ممتلئة نشاطاً وحيوية، هكذا يجب ان ابدأ يومي فغداً هو الأول من رمضان، وبرنامجنا العائلي اليومي مزدحم ومكتظ، فصباحا لدي ارتباطات مع مجموعة من السيدات الدبلوماسيات وأظن أنني سأعتذر منهن فانا مشغولة مساء بالاحتفال بقدوم الشهر الفضيل وتناول السّحور مع مجموعة من اصدقائنا العرب في بلاد الضباب ، وأنا لم أتسوق بعد استعدادا لهذه المناسبة الدينية المهمة
بسبب ازدحام برنامجي باللقاءات الرسمية سابقا بمرافقة زوجي و التي علينا حضورها لكونه ملحقاً عسكريا .
اعتذرت من سكرتيرة نادي السيدات عن الموعد مع زوجات الملحقين العسكريين ، وخرجت للتسوق ، برفقة ابني محمد ذو التسع سنوات والذي أصر على مرافقتي ، فبالأمس اقترب مني قائلا ونحن نزين البيت بزينة رمضان
، ماما بدي أصوم الشهر معكم ، سعدت كثيرا ، قبلته ،شجعته قائلة نعم لقد كبرت وعليك الصيام معنا وتحدتث معه كعادة الأمهات عن الصيام و عدد ساعاته وعدد أيامه والالتزام به ، وعن الصلاة وعيد الفطر ولماذا نصوم وغير ذلك مما يناسب تفكير طفل في التاسعة من عمرة ، واخبرته أنني سأذهب غدا للتسوق وعلية كتابة الحلويات التي يرغبها كمكافئة له . فأجابني( ماما بكره بدي ارافقك ) صمتت قليلا فكيف سيتغيب عن المدرسة ، وما هو عذري عندما أحادث مربية الصف ولكنني وافقت على غيابه وفي الصباح تحدثت تلفونيا مع مربية الصف واخبرتها أن محمد سيتغيب اليوم بسبب مرافقته لي ليشهد تحضرياتنا للشهر الفضيل الذي له خصوصيته ، عاداته وتقاليده عند العائلات العربية بشكل عام فأحببت أن يشاركني في مشواري اليوم ويتعلم كيفية الاستعداد لشهر الصيام فوافقت المعلمة بكل سرور .
ننطلق من المنزل صباحا ، برد شديد والجنرال تجمد يلف كل شيء، الممر الطويل ، الأشجار ، وعلى بعض مسارب المياه، يقول لنا السائق حين خروجنا من الممر الطويل هناك تجمد انتبهوا ، ويوجه سؤالا للصغير ( ليه مو رايح المدرسة اليوم ، لتكون مريض) فيجيبه مختصرا توقعات السائق
- أنا صائم غداً
فيضحك السائق مجاملاً الصبي - تقبل الله منا ومنكم . اكملنا تسوّقنا من التمور وقمر الدين ، الجوز ، الزبيب ، جوز الهند ، السميد الطحين، الطحينة، معلبات الفول ،الحمص والكثير من احتياجتنا التي أخذت منا ساعات من البحث والتنقيب محاولين الحصول عليها والتي كانت شحيحة في ذلك الوقت في الأسواق الإنجليزية، وكان لا بد لنا من الطواف على العديد من المحلات العربية المتفرقة والمتباعدة كثيراً في لندن ليتسنى لنا الحصول على مبتغانا
دخلنا المنزل انا منهكة و والصغير يطير طيرانا للمطبخ حاملا كيس حلوياته ، سمعته وهو يتجاذب أطراف الحديث مع الطباخ، ويؤكد له انه سوف يصوم غداً، فسأله الطباخ عن الطبق الذي يفضله حتى يُحضّره له مكافأة على صيامه، فأجابه بسيل من الأطباق التي يحبها
- منسف، ملوخية، ورق دوالي، سباحيتي
ضج المطبخ بضحك الطباخ ومساعدته، ويجيبانه بصوت واحد (الك تختار صنف واحد فقط) لم يعجب الرد الصغير ولكنهما اصرا على اختيار طبق واحد فهناك الكثير من الأطباق ستكون على المائدة التي سيكون مجتمعاعليها مجموعة من الأصدقاء في الأول من رمضان كالعادة فأجابهما سريعا : ورق دوالي
أتجول في المنزل، الذي انتشرت في جنباته زينة رمضان، للتأكد من ترتيب كل شيء، فالمنزل كبير، ويحتاج إلى جهد كبير، ليخبرني الطباخ أنه جهز لوازم السّحور، وأن كل شيء جاهز لاستقبال الضيوف، لاحقا وفي المساء كان الفرح عاما فالشهر الفضيل مختلف عن جميع الأشهر له جماليات وطقوسه ،
مساء اجتمعت عائلتي الصغيرة وعدة عائلات أردنية وعربية للاحتفال بمقدم رمضان،صلينا التراويح، وجلسنا نحكي ذكرياتنا مع الأيام الرمضانية والعادات في البلاد العربية، وهي متقاربة إلى حد ما، فصديقة مصرية تتحدث عن فوانيس رمضان،وعن فرح الصغار بها، وأخرى كويتية تتحدث عن القرقيعان، وقد كانت الأحاديث جميلة وطيبة، ولم تخلُ من بعض الأحاديث الدينية والإنسانية، حتى الوصول إلى ما سوف تُعِدُّ كل عائلة على مائدة الإفطار في الأول من رمضان
في الصباح أتصل بالأصدقاء، مباركة لهم بالشهر الفضيل، ثم أتصل بأبي وأمي في الوطن ، وما بين دموع امي ودعوات ابي تمنيت لهما رمضاناً مباركاً
كان الإمساك عن الطعام في تمام الساعة السادسة صباحاً والإفطار عند الساعة الرابعة والنصف مساءً، فالوقت شتاء والنهار قصيرا في حين كان وقت عودة ابني من مدرسته حوالي الساعة الرابعة ، اي قبل موعد الإفطار بنصف ساعة فما بين خلع ملابس المدرسة والاستحمام يكون قد حل وقت الافطار .
وصل الصغير إلى المنزل فرحاً، يتقافز ويتراكض في جنبات المنزل لينثر السعادة على كل من فيه، وبينما أحاول متابعة ترتيبات الإفطار خلال دقائق ما قبل الآذان، يلاحقني مثل عصفور مغرد
- ماما ماما، أنا لا أزال صائماً
أفرح به، وأقبِّله، فيستطرد:
- ماما، اليوم احتفلت المدرسة بشهر رمضان، واحتفلت بي لأنني صائم ، فسألته وكيف ذلك
، فأجابني: - عندما قرع جرس المدرسة واصطففنا، خرج مدير المدرسة وأخبر الطلاب أن اليوم هو الأول من رمضان، شهر الصيام عند المسلمين، وأن محمد هو الطالب المسلم الوحيد في المدرسة، وطلب مني الخروج إلى الإذاعة المدرسية، والتحدث عن شهر الصيام لمدة لا تزيد عن عشر دقائق
فاجأني كلام الصغير، فسألته: - وماذا فعلت يا محمد
- قلت لهم أن كل بلادنا العربية، صائمون، الصغار والكبار، وأنا صائم، وماما صائمة وبابا صائم، ولا نأكل شيئاً طوال النهار حتى الساعة الرابعة والنصف، وأخبرتهم أننا نصلي، وأن أصدقاءنا وأصحابنا وأقاربنا يفطرون معنا أحياناً، وأننا نصنع القطائف، ونسهر قليلاً بعد الإفطار، وبعد ذلك توقظني أمي على السحور قبل الساعة السادسة صباحاً بقليل، لأشرب بعض الماء وأتناول البيض وبعض المأكولات الخفيفة، ومن ثم ننوي الصيام ونمتنع عن الطعام والشراب حتى وقت المغرب وبعد الانتهاء من صيام الشهر سيأتي عيد الفطر المبارك هدية لنا لكونها صمنا الشهر الفضيل .
فرحتُ بذلك الأسلوب البسيط الذي تحدث به الطفل عن شهر رمضان، وكتبتُ للمدير رسالة أشكره فيها على قيامه بالتنويه لشهر رمضان، وعلى احترامه لديننا الحنيف، كان يوماً جميلاً لطفلي الذي جلس معنا هادئا مطيعا مع ضيوفنا الاعزاء عندما أخبرتهم أن موعد تناول الطعام قد حان حسب التوقيت المحلي لمدينة لندن ، فمد يدة الصغيرة وتناول تمرة واحدة قائلا بسم الله الرحمن الرحيم صمنا لوجه الله وافطرنا لوجهه تعالى ، قبلته بقوة قائلة صغيري الصائم البطل ، وهو يتملل، م جائعا يمد يدة لورق العنب قائلا ماما ما بدي شوربه ،تبسمت له فهو جائع بعد صيام يوم طويل شاق بالنسبة له .
باختصار، كان يوماً رمضانياً لندنياً بامتياز لولدي الصغير ولي وللأصدقاء .
وكل عام وأنتم بألف خير ، رمضان مبارك.
من مجموعتي القصصية ( لوحات حالمة في ذاكرة غيمة جنوبية )
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي