سمفونية أطفال الصقيع
في المسرح العالمي الكبير، جلس العازفون على مقاعدهم الدافئة “يدوزنون” آلاتهم اللامعة، ينتظرون الإشارة.
وقف المايسترو في الوسط، وبأناقته المعهودة ألقى التحية على جماهير غفيرة.. وللأوركسترا رفع عصاه معلنا بدء الأمسية.
همست ريح الشمال الباردة، آتية أنا بين أوتار الأرواح الهائمة في دروب الهجرة من الجنوب، وأنين بزق أرهقه الغدر فلاذ، لسنين، بصمت الغربان في الحقول المحروقة. الناي يلامس بشفتيه الجروح في أجساد نهشتها حروب الطمع والجهل والاستعباد المعهود، حروب التعصب الأعمى والذهب الأسود.
صدح الساكسفون تعالوا… تعالوا الى خيام التيه في صحارى الجليد…رافقوا غربتنا عن ديارنا، دورنا، سهولنا التي نست سواعدنا واشتاقت لملح عرقنا.. وأحواض الورد الزاهي تلملم الندى على اوراقها الخضراء… تعالوا معنا نؤجج لوعة اشواقنا في المدفأة الرمادية الباردة… هلموا نتسامر ضحكا مع طقطقة الحطب في “وجاق” الذكريات المجبولة بتراب أجدادنا نروي لأطفالنا بريق الحياة، حلوها ومرها، فتغفو عيون البراءة في دفء أحضاننا.
قرعت الطبول.
الرحلة شاقة ومتعبة.
دهاليز الحروب المتنقلة بجزمتها العفنة محت كل أسمائهم. باتوا بين ليلة وضحاها مجرد ارقام هلاميّة في أروقة الأمم المتحدة.
أيقنت مفاتيح البيانو الأثري دهشة الجموع، رصدت حشريّتهم ودفعتهم بعزفها الحزين لولوج غابة من الوحشة الغريبة.
ارتفعت أصوات اطفال الصقيع تحت ثقل الثلوج… نحن هنا، آتون بجلابيب القهر من الحزام الممتد من فلسطين الى سوريا والعراق ولبنان واليمن الحزين، نرنم بشفاهنا المتشققة آيات توبة عن جريمة لم نقترفها، ونبتهل خاشعين.. لعل من اتخمتهم موائد البذخ وفحش الحرارة في أجسادهم، والذين “ضمنوا” الجنة بِصَلاتهم وصومهم ينصتون لأجنحة الملائكة ترفرف فوق هاماتنا.
توحدت كل الآلات بمعزوفة الرحيل الأخير… لم تعد تشعر بجسدها الذي لفه شال البرد المميت، كل اطرافها تتنقض وتعلن نهاية السمفونية.
تسمرت الجماهير في مكانها، طال البرد اناملهم وانهمر التصفيق بدموع تغسل عار جريمة هذا التاريخ.
صورة للمصور الفلسطيني فادي ع ثابت
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي