العرب بين جلد الذات وتمجيد الآخر
***
ما أكثر الذين يتخذون من صفحات التواصل الاجتماعي منبرًا دائمًا لنقد دول عربية بعينها، وكأنهم أوصياء على الحقيقة، أو رسلًا للإصلاح، في حين أن واقعهم الشخصي أو المجتمعي قد يكون أحوج للنقد والمراجعة. الغريب أن كثيرًا منهم من المتعلمين، بل من المثقفين، ممن يعرف تمامًا أن لا أحد في تلك الدول المعنية يقرأ ما يكتبونه أو يعيره انتباهًا، فما الغاية إذن من هذا الصوت العالي الذي لا يسمعه أحد؟
والأدهى من ذلك، أن كثيرًا من هؤلاء يجهدون أنفسهم في إبراز أسوأ ما في مجتمعاتهم، وكأن العرب لا يُقبل منهم إلا الكمال، بينما تُصوَّر أمريكا والغرب على أنهم النماذج الفاضلة، والحلول الجاهزة لكل الأزمات. هذا التمجيد الأعمى للآخر، المقابل لجلد الذات المستمر، لا يدل على وعي، بل على أزمة عميقة في النظرة إلى النفس والواقع.
ولعل أخطر ما يختبئ خلف هذا الخطاب هو الدافع الطائفي، أو التكوين النفسي المأزوم، أو الجهل بالتاريخ والجغرافيا والسياسة، حيث تتحول وسائل التعبير إلى وسيلة لتصفية الحسابات أو تفريغ العقد، لا إلى أدوات إصلاح أو بناء. إن من لم ينجح في بناء ذاته بناءً سويًا، لا يُنتظر منه أن يسهم في بناء وطن أو نهضة شعب.
فالمجتمعات لا تُبنى بكثرة التشكي والتباكي، بل بالفعل والهمة والرؤية.
أستمع إلى إبراهيم طوقان (1905 – 1941)، في قصيدة خالدة تخاطب هؤلاء الذين لا يرون إلا العجز والخيبة:
كفكف دموعك ليس ينفعك البكاء و لا العويلُ
و انهض و لا تشكُ الزمان فما شكا إلا الكسولُ
و اسلك بهمتك السبيل و لا تقل كيف السبيل؟
ما ضلَّ ذو أملٍ سعى يوماً و حكمته الدليلُ
كلا .. و لا خاب امرؤ يوماً و مقصدهُ نبيلُ
أفنيت يا مسكين عمرك بالتأوّه و الحَزَنْ
وقعدت مكتوف اليدين تقول: حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنت، فمن يقوم به إذن؟
كم قلت : أمراض البلاد و أنت من أمراضها
و الشؤم علّتها فهل فتشت عن أعراضها؟
يا من حملت الفأس تهدمها على أنقاضها
اقعد فما أنت الذي يسعى إلى إنهاضها
وانظر بعينيك الذئاب تعبٌ في أحواضها
أضحى التشاؤم في حديثك بالغريزة و السليقة
مثل الغرابِ نعى الديار و أسمع الدنيا نعيقه
تلك الحقيقة و المريض القلب تجرحه الحقيقة
أمل يلوح بريقه فاستهدِ يا هذا بريقه
ما ضاقَ عيشُكَ لو سعيتَ له .. و لو لم تَشكِ ضيقهُ
تلك القصيدة ليست فقط نصيحة شعرية، بل دعوة للاستفاقة. دعوة لكي نُقلع عن الدوران في فلك العجز، ونتحرر من لعنة المقارنة، ونتوجه بصدق نحو إصلاح أنفسنا ومجتمعاتنا، فذاك هو السبيل الوحيد للنهوض الحقيقي.