السيرة الذّاتيّة والأدبية لنسرين مصطفى كما روتها :
نسرين بدر غضبان من مواليد 1975. حاصلة على لقب ثان في اللغة العربية
معالجة شعورية ونفسية عن طريق الأدب
( بيبليوترابيا) .
أعشق الشّعر وتورطت فيه منذ كنت طفلة صغيرة، لكني لم أشأ أن أنشر قصائدي حتّى تأكدت أنّي أكتب الشعر لا الإنشاء. ديواني الأوّل ( كلام على فم غزال) صدر عام 2020 عن دار جدل لصاحبها الأديب والشاعر مرزوق الحلبي. الديوان وقع باسم نسرين مصطفى، لم أشأ أن يوقع باسم عائلتي الأصليّة أو عائلة زوجي، كثورة مني على العائلية المتفشية في مجتمعي.
أكتب القصائد النثريّة فهو اللون الأقرب إلى شخصي ، لأني أكره كل ما يحدّني بما في ذلك القافية. أحاول أن أكتب بلغة تميّزني ، لطالما كانت اللغة هي ملاذي الأوّل والأخير.
أنشر قصائدي عبر موقع جدل، على صفحتي الخاصّة على الفيسبوك، مجلة أزهار الحروف، مجلة سوناتا للثقافة والفنون.
نسرين مصطفى حرفيش الجليل
“كلام على فم غزال” لنسرين مصطفى بين العام والخاصّ
تخطت قصيدة النّثر إشكالات كثيرة، فلم يعد شعراء النّثر في الوطن العربيّ يرتبطون بالغربِ كالجيل الأول الّذي ارتبط بأساتذته في الغربة تأثرًا إيجابيا يقوم على الانتقاع مما كتبه الغرب، والآن أصبحت قصيدة النّثر مألوفة وتشكل دلالة قاطعة على أنّها منجز لا يستهان به ولا يهمل. أصبحت القطيعة المعرفية الّتي حكى عنها “ميشيل فوكو” تضيق بفعل التكنولوجيا.
تقول “سوزان برنار” : ” لقصيدة النثر ثلاث خصائص، الأولى: الوحدة العضوية فقصيدة النثر كل غير قابل للتجزئة أو الحذف أو التقديم والتأخير بين مكوناته، وهو أمر مطروح عندنا في البلاغة العربية وفي ثقافتنا الأدبيّة ويسمى بالوحدة الموضوعية يعرفه العرب قديمًا وحديثًا ويستبطنه الشّعراء والنّقاد القدامى قبل سوزان برنار. لكنه الكسل المعرفي والولع بكل ما هو وافد.
الثانية: المجانيّة، أي أنها شكل جديد لا غاية له خارج عالمه بمعنى لا يتخطى حدود الزّمان بمعنى أنّه نصّ وقتيّ.
الثالثة: الكثافة والبعد عن الشّرح, مع المحافظة على الإشراق والتّوهج والايحاء، وهو أيضا أمر مطروح ويقابله أيضًا في بلاغتنا العربيّة الإيجاز.
نسرين مصطفى في مجموعتها الشّعريّة ” كلامٌ على فم غزال” نجدها تتكئ على لغة شعريّة روتها بماء الحياة وطرّزتها بالحركة والانسيابيّة في فضائها اللا محدود ، المتحرّر من القيود في لغة فنّيّة لتصل إلى مرادها وإلى هدفها في أسهل طريقة وأسرع وسيلة بلغة معبّرة. دون تشعب لتحفر لنفسها مكانًا بين شعراء النّثر في الوطن العربيّ.
تبدأ ديوانها بنصّها المعنوّن أبي في إشارة إلى الانتماء ، والأب وطن
أبي
دمعُ جبينِكَ
عاصفةُ أحزانٍ حمراءْ
تُشْطُرُني نصفينْ
……..
هالاتُ تَعبِكَ
قيودُ ألمٍ أسود
تعصِرُ فؤادي ليمونةً
……..
شرايينُ زندِكَ
تجاعيدُ وجهِكَ الصّامِتةْ
ضوضاءُ ألامِكَ الهادِئةْ
صوتُ مِطرَقَتِكَ البارِدةْ
حينَ تضرُبُ على حديدِ ليلٍ أبيض
آهةُ صوتِكَ الخافتة
خرفَشةُ جناحيك
حينَ تحلِقُ نسرًا
فوق رؤوسٍ من جليدْ
لتحميَ ابتسامةَ دمعٍ
لم تسقُطْ بعد
…………..
أصواتُنا في العُشِ تناديك
كل منّا فاغرٌ فاه
صيحاتُنا الّتي لا تعرفُ
معنى الحبّْ
ولا معنى العطاء الصّامت
جعلتني اعترفُ وأؤمِنُ
أنّك في محبّتِكَ
تشبهُ الله…
والأب مقدس لا سيما عند ابنته، تؤمن به وتستمع إلى حديثه وكأنّه موسيقى تتردّد على آذانها ، البنت دون غيرها تتعلق بأبيها فيصبح كلامه مقدسًا في آذانها، في لغة صوفيّة تختم قصيدتها،” جعلتني أعترف وأؤمن أنّك في محبّتك تشبه الله”. لتنسجم العلاقة في القصيدة بين مطلعها وبين ختامها. فهو تشبيه يوحي بالطاعة فالإنسان في تعامله مع الخالق يعبده ويدعوه فقط ويحبّه دون أدنى شكّ. إنّها لغة صوفيّة حين تشبه الأب بالخالق، والأب هو العلاقة الوثيقة بين الإنسان وخالقه لأنّه هو الّذي استدعاه للحياة فهو يشبهه في لغة مجازيّة واضحة. الأب في عين ابنته نسر يحلق في سماوات العلا، حالة من التّوحد بين البنت وأبيها فيجعلها تتحمل عنه تعبه ومعاناته وتشعر به . إنّ حضور الأب في ديوان نسرين مصطفى حضور قوي ولذا نجدها في نصّها “كلمة أخيرة” ص.18 والّذي تبدأه في عبارة ” سلامٌ عليك يا أبي” حيث تدور القصيدة عبر حوار بين الأب وابنه ، أب يخاف على ابنه من القتال ومن الموت فيقول له الإبن رادًا ومعبرًا عن حالة شباب فلسطين: ” أنا ما كنت يومُا لأقتل كل ما أردته حورية من بلادي” إنّه طموح الشّعب الفلسطيني، طموحاتهم بسيطة وأحلامهم لا تتعدّى الخيال، يحلم الشّعب والشباب بالزّواج والانجاب وتكوين الأسرة والأولاد الّذين يحملون اسمه من بعده، لكن الأحلام تتحول إلى كابوس فمعظم الشباب الفلسطينيّ يجد نفسه في مطحنة رحاها الموت ، عبر هذه الآلة الجبارة التي تسيطر عليهم وتحكمهم في خندق لا يعرفون الخروج منه. إنّها فكرة الحلم المتكئ على الأسرة وتربية الأولاد وانجابهم، هؤلاء الأولاد الّذين يحملون اسمهم من بعده ويحملون القومية، لكن صوت الرّصاص يغتالهم بدلا من صوت الفرح والزّغاريد والعرس
تتحول إلى عالم لا يحلم إلّا بأن يقتل ويقاتل لهذا تختم النّصّ : وداعًا وداعًا يا أبي.
كلمةٌ أخيرةٌ
سلامٌ عليك يا أبي…
ما أخبار الوجع عندكم؟
ما بال قريتنا
مُعتمةُ الشّوارعِ؟
اليس هذا موسمُ الحناءِ
والتّينِ والعنب؟
وأمّي،
خبّرني عن أمّي
هل ما زالت على عهدها
تصلّي لأجلي؟
وأخواتي
ماذا حلّ بتلك الوجوه
وهذا الشّعرِ؟
إنّي ألمح أسراب غزلانٍ
تفرُّ من أعينهنّ
حاولتُ الإمساك بها
سقطت أصابعي…
وأخي
آه يا حبيبي..
يا من جرّعتك الحزن..
أردت أن أترك كتفي
لرأسك…
تعب الرأس وما ناء الكتفُ…
لا تعاب عليّ
لا تعتب…
…..
كان نهار الجمعة
كنت متكئًا على حافة الحلم…
اختلطت في أذني الأصوات
صوتُك في الأعماقِ يصدح
إياك يا بنيّ أن تقتلَ
أنا ما كنت يومًا لأقتلَ
كلّ ما أردتهُ
حوريةً من بلادي،
تكون أمًّا لأولادي
يحملون اسمي المجبولَ باسمكَ
…
لو أنّ الرّصاص الّذي جاءني عذرًا
تحوّل إلى زنابقَ
لزُفّت لي حبيبتي
عرسٍ يليق بمجدِكِ…
….
لا صوتَ يعلو
على صوتِ الرّصاصةِ
وداعًا
وداعًا يا أبي
في ديوان نسرين مصطفى نجد الإنسان الأرض، الأب، الأمّ، المرأة ، الجنس، الحبّ، الثّورة ، المعاناة، التّوتر، النقد، المنطق، اللا منطق، الحلم، كسر الحدود، المباشرة، اللا مباشرة، الانفتاح، الانغلاق، تجاوزت نسرين مصطفى في ديوانها كل ما هو متعارف عليه فتجاوزت المسند، والمسند اليه، الفعل و الفاعل الصّفة والموصوف المضاف والمضاف إليه، كل ما عرفته البلاغة وعرفه النّحو في لغة سلسة سليمة تجرأت وأخرجت طاقتها الكامنة عبر حركة شعريّة خاصّة بها وبإبداعها، إنّها تجربة فريدة بلغة سهلة وبسيطة لها قوامها وقاموسها الخاصّ.
إنّها المتمّردة التي تخرج عن النّص كما تقول في نصّها المعنون” خروج عن النّصّ”
خروجٌ عن النّصِّ
أنا امرأةٌ مسكونةٌ بمليونِ “ليليت”
فاكِهَتُكَ لن تُغريني
وحدُها رائحةُ الأرضِ
قادرةٌ أن تُعيدَني
إلى شكلي الأوّلِ الأخيرِ
أنا المسكونةُ
بمليون صرخةٍ جامدةٍ
منذُ صادرَت القبيلةُ أنوثتي
أخذتُ الرّجولَةَ قناعًا
لأحميَ ما تبقى من ملامِحي
كنتُ أثورُ كلّما مرّت يداكَ
فوقَ جسدي
كاستجابةٍ لِما
ترسّخَ في ذاكرتي من لغةٍ
أنا المسكونةُ
بهواجِسِ أمّي
وخرافاتِ جدّتي
ورغبتي في الانزياحِ
عن دلالاتِ المعنى.
هنا في خروجها عن النّصّ نجدها تعاتب وتعارض وتنقم على القبيلة لانّ هذه القبيلة صنعت قوانين قيدتها وقيدت المرأة بل اغتالتها واغتالت أنوثتها وأحلامها، وتلك القضية طرحت كثيرًا في الشّعر العربي وخاصّة في أشعار نزار قباني. إنّها الأنثى المكبلة بالهواجس والخرافات .
يكتب معظم الشّعراء عبر حالة معينة تخرج ما في داخلهم من ثورة ومن حبّ ومن أفراح وهكذا ولذلك نجد دائما الشّعراء يبحثون عن الحبّ كنوع من اشعال اللغة والابداع والتحفيز على الكتابة وهو أمر ذاتي بحت والشعراء في أغلبهم مجازيون يحبون أنفسهم حدّ الجنون. في نصّها المعنون ” لا أحبّك” تعترف بذلك صراحة.
لا أحبّك
أنا لا أحبّك
لكنّي كنت أبحث في صوتك
عن الفرح
وعن جنونٍ
يعيدُ إليَّ
القصيدةَ.
الّذي يطالع الشعر الفلسطينيّ خاصّة لدى الجيل الحاضر سيجد مما لا يضع مكانًا للشكّ أنّ الغربة والاغتراب مفردات وقصائد ونصّوص طافحة ولا عجب في ذلك، فما تمرّ به فلسطين يُعجِز الجميع. تعبر عن ذلك نسرين ف ص. 42 في نصّها المعنوّن ” غربة” ، إنّها حالة امرأة سوف تمضي عارية بصورة خيالية موجعة ، تخاطب نفسها ووطنها وشعبها الثّائر على كل شيء من الوطن وخارج الوطن ، إنّه أشبه بالوجه الّذي يتآمر على صاحبه. خلقت نسرين حالة جديدة وصورة لم أقرأها من قبل فجعلت الإنسان ووجهه كالوطن فحين يتآمر الانسان على وطنه يصبح الوجه متآمرًا على صاحبه في حالة أشبه بالحياة والموت والتّأرجح بينهما.
غربةُ
قالت وهي تدير ظهرها للوطن:
سأنزع عنّ وجهَك
وأمضي عاريةً
من دوني
لن أحفظهُ في ذاكرتي
ذاكرةٌ قصيرة المدى
سأركنُهُ بين ضلوعي،
لألقي عليه تحيّةَ الصّباحِ
وأمرّرَ أنامِلي
على قسماتهِ في المساءِ
سأنزعُ عنّي وجهَكَ
هل وعدتني أن لا يتآمر ووجهي علي.
حلّقت نسرين مصطفى بجناح مكسور كحال معظم الشّعب الفلسطينيّ. كلّ شيء فيه كأنّه غوط لا شيء كل شيء فيه لا يبعث إلا على الملل حتّى القصيدة تبعث على الملل عاجزة أمام ما يحدث. انّه الحزن المفدي إلى الموت، الموت الّذي يرسم خطوطه.
تسخر نسرين في ديوانها من كلّ شيء، من النّساء من الجسد من الحياة من الموت، من الوطن لأنّها تدرك الحقيقة عبر لغة مشوشة وفي التّشويش ابداع.. حالة عبثية فريدة، تعرّي سلبيّة المجتمع والحياة، الحبّ ، الزّواج العادات والتّقاليد، المرء الجيران النساء كلّ شيء في الحياة تعرّى عبر اشتغالها المفرط على الجسد في لغة صريحة موحية بالحرمان، والجسد هنا إشارة هنا إلى الوطن.
إنّ قصيدة النّثر تحتاج عبر التّفكيك والانفجار إلى لغة أشبه بالأعمدة يتكئ عليها المبدع ليعرف كيف يضع سقفه ويسكن داخل بيته. إنّها فوضى من بين السّطور تفهم واستطاعت نسرين عبر 130 نص تقريبًا أن تقول كل شيء وأن تخرج ما بداخلها عبر الورق كبوح، بوح عذب ولغة اغترابيه ماتعة، إنّها الفراشة الثّائرة القصيدة، إنّها المطر، الدفء، الحبّ، الأمل ، الألم، الصّخب، الهدوء، العشق، إنّها تاء التأنيث، إنّها الحياة. الّتي ولدت وفي رحمها الموت، إنّها ذاكرة الوطن إنّها الخوف على فقدان الحبيب الوطن. نستمع إليها في نصّها المعنون” تردد” ص. 133
أخشى أن
يأتي صباحٌ
لا يمرُّ من أمامي وجهك
فأنساه
وأخشى مساءً
أن تنسى ضحكَتُك
العبثَ بحسّي
فتطفِئَهُ
أخافُ منكَ
عليكَ
وعلى فؤادٍ
لو خفقَ خفقةً واحدةً
ستشتعل البراكينُ.
الّذي يطالع ديوان نسرين يلاحظ ما يلي، البعد عن المحسنات البلاغية والمجاز والدخول في عمق التّجربة وكأنّها تريد أن تعبر عما بداخلها بسرعة مخافة ان يطير الكلام ويتطاير مع الألم المشحون في داخلها فيعجزها عن النطق. النقمة على كلّ شيء ومن هنا نجدها فيلسوفة لا تريد أن تكون ابنة بيئتها وإنّما تريد أن تكون محرضه عبر نصوصها على، تحرض على التّغيير، البساطة وعدم التعقيد. لغة وبلاغة وفنّاً، التصالح مع الذّات والبعد عن الأنا فهي لا تتجمّل بنصّوصها وتظهر للقارئ أنّها من طبقة الشّعراء الّذين يسكنون في الخيال والأوهام. حملها لقضيتها قضية فلسطين لكن عبر زاوية مختلفة ومغايرة وايقاع جديد. ولغة جديدة تستبطن الفكر وتستبطن ما تمرّ به فلسطين. تحمل على كاهلها قضية فلسطين. هي الفكرة الأساسيّة الّتي يدور حولها الديوان وإن اختلفت النّصوص وهو ما يسمى بمفهوم المخالفة، الموازنة بين العام والخاصّ، التّنوّع في الطّرح. فهي لم تترك شيئًا إلا وتحدثت عنه، إنّها تجربة جديدة وفريدة وماتعة، من واجبي أن أشيد بها أن أحييها انعاشًا لذاكرة فلسطين ولشعراء فلسطين لتبقى الذاكرة وفي بقائها بقاء للوطن.
هي الأوطان إذ تخونها الذّاكرة
مارست الرذيلة مع مغتصبيها.
تحياتي إلى المبدعة الصّديقة نسرين مصطفى وعلى الأمل أن نلتقي في ديوان جديد.
ناصر رمضان عبد الحميد عضو اتحاد كتاب مصر رئيس ملتقى الشعراء العرب.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي