الشِّعر إذ يُدلَقُ ماءً؛يُميتُ ويُنبتُ
قراءةٌ خاصة في ديوان (الجَرّة)
بقلم: عُلا شيب الدين*
“أريدُ أن أعويَ كلماتٍ أعضُّ بها الأيام”
نادر عبد قشرة
عن دار “الدراويش للنشر والترجمة”، صدرَ في سنة 2021 ديوان (الجرَّة) للشاعر السوري، المقيم في ألمانيا منذ عام 2016، نادر عبد قشرة. الديوان هو قصائد/ كتابات في الاستبداد والظلم والحُلُم… في الإنسان المقهور والحب.
وِقفةٌ مع العنوان:
تنطوي الجرّة ـ كمفهوم ـ على تلك الأنوثة العميقة البرّاقة، صديقة الضفاف على الأنهار والينابيع… وتنطوي على الأنوثة بوصفها اختباءً ساطعاً، مَهيباً، مُربِكاً ومحيِّراً.
كما أنها – أي الجرّة- مرتبطة بالبساطة.. بالبيت الحميم الجوّانيّ الدافيء، في قبالة صقيع الخارج.. بالرفوف الخشبية المغطاة بمطرَّزات ومشغولات يدوية أنيقة.. وبالمؤن بوصفها خيراً وبرَكة، ودفئاً وحنيّة في مقابل قسوة الجوع والحرمان وخشونة التشرد، وما شابه هذه كلها من مرارات وعذابات.
ثم إنه للجرة صلة وثيقة بعالم السر والمفاجأة والكشف، فهي مخبأ لكنز مدفون منذ القِدم، عُثِر عليه بمحض صدفةٍ ما فارقة!
لكن ارتباط الجرّة الأهم، ربما يكون بـ”السَّكْب”، أو بالاندلاق بوصفه صبّاً من الأعلى على الأدنى. وبكلمات “شاعر الجرّة“: „ إذا كان لا بُدَّ من السقوط..فليكن..!…كقطرة الماء تهوي على شوق التُراب،..تأمل،…أن تحيا عُشبة..!“.
والجرة، هي ذلك الفخار الآتي من طينة الماء والتراب، التي تَحفظ في جوفها الماء أو النبيذ المعتَّق، قبل أن تعود “سَكْباً”، إلى التراب، إلى الأرض، وإلى كل جوفٍ عطِشٍ ومتعطّش، مجسِّدةً بذلك، ربما دورةَ حياةٍ لا تنفكّ تبدأ، تفور، وتنتهي…لتبدأ من جديد..ثم تفور..وتنتهي..وهكذا…
بعناية وحب، يحمل نادر عبد قشرة، جرّته، ساكباً شِعره على العالم. جرّته التي طالما شكّلها بروحٍ وقلب دامييْن لكن مُزهرَين. شكّلها من طينة المَعيش المحض. ويبدو أن أجمل الشعر، هو ذاك الذي يتصيَّر من المَعيش قبل أن يعلو، ثم يعود إليه سكْباً، اندلاقاً، هطْلاً، أو فيضاناً!.
جرّة (نادر) مملوءة بسائل كلمات منذورة للحياة، للحب، للعب، للحرية والانعتاق تارة، وطوراً تمور بسائلِ سمٍّ قاتل، يقصد قَتَلةَ الحياة ومُمرِّغيها. كلمات جريحة حيناً، ذابلة حيناً آخر، ولئيمة في أحايين كثيرة. كلمات هي، في نهاية المطاف، ماء يُميت ويُنبِت دفعة واحدة. ماءٌ يفيض من كينونةٍ متفجّرة، ثائرة، ساخطة، متألمة، ناضحة، حالمة، مفكرة ومتطلّعة.
في قصيدة مقطعيّة طويلة، تكاد أنفاس المرء معها تنقطع، وهو يحاول جاهداً سَبْر طرقاتها مشياً على رؤوس الكلمات، تحت عنوان: (كلماتٌ في الطريق)، كتبَ الشاعر نادر، داعياً إلى كتابة الذات بالذات نفسها، بمفرداتها:„أكتب نفسك كما تحب أن تُقرأ..يرحل الإنسان..وتبقى الكلمات..!“.
في “ما ينبغي أن يكون“:
لا يبدو الشاعر – في الجرَّة- أنه مَعنيّ بالشعر كفنٍّ خالص، بقدر ما هو مشغول بالنبض، باللحم الحي، بالعيش غير الخاضع لعمليات تجميل أو تزويق وتنميق، فهو مهموم بـ”ما ينبغي أن يكون“، انطلاقاً من نظرةٍ خاصة إلى العالم، قد تكون أساساً لنظرية فلسفية في الأخلاق. الأمر الذي يؤكد مجدَّداً، على تلك العلاقة الوثيقة، القديمة/ الجديدة ما بين الشعر والفلسفة.
وفي الطريق إلى”ما ينبغي أن يكون”، يبدو أنه لا بد من طرح الأسئلة، لا سيما وأنه بالسؤال يبزغ فجر أي طريق، أي فلسفة، وأي تغيير. والسؤال المركزي – ههنا – سوف يكون سؤال الماء، ماء الجرّة، المكتوب قصائدَ تُميتُ وتُنبِتُ في آنٍ. الماء المنضوح من الحياة نفسها، من المَعيش نفسه؛ فنرى أنفسنا أمام أسئلة شِعرية/ فلسفية من قبيل:“كيف يعطش الماء؟/ هل الضفتان سجن النهر؟ أم عشيقتاه؟”، وهي أسئلة خاضت فيها قصيدة (كلماتٌ في الطريق)، والتي لا بد من العودة إليها، من حيث هي آخر قصيدة في ديوان (الجرّة)، لكنها ليست آخر قصائدِ حياةٍ يأخذها الشاعر على محمل القلب والروح والعقل والوجدان، مؤمناً بأن الطرقات ليس من شأنها الانتهاء…
بعد “سؤال الماء” إياه، تقرع القصيدة، وهي في طريقها إلى “ما ينبغي أن يكون”، نواقيسَ الغضب: „مرَّ غضب الماء..فمحا المدينة..!”، مُفصِحةً، بذلك، عن وجه ماء الجرة/ القصيدة الغاضب المميت في هذه المرة. تُرى أي مدينة هي تلك التي محاها الماء؟ ربما تكون مدينة الشر، الاستبداد، الظلم والقهر..المدينة التي ينبغي إعلان الغضب عليها والثورة، في الطريق إلى “ما ينبغي أن يكون”، إلى عالم مأمول، محلومٍ به. عالم متحرر من المَعيش البائس واليائس، الذي طالما جرى الانطلاق منه أولاً، ثم التمرد عليه تالياً.
ويبدو أن ذاك الـ”ما ينبغي أن يكون”، لا يمكن الوصول إليه عبر الثبات، بل من خلال الحركة الدائبة كخيرٍ وبركة. حركة الأفعال من مثل: “يتحرر. يتفلسف. يثور…“ لا من خلال المصادر- المفاهيم الثابتة الجامدة، ولا من خلال غلواء الإنطباعات المتأتّية من الإدراكات المكرورة، من مثل: “الحرية. الفلسفة. الثورة…“ لذلك، تؤكد (كلماتُ في الطريق) على المشي واللهاث الدؤوب بوصفهما – في معنى ما – قدَراً: “قُمْ أيها الحصان..السباق لم ينتهِ..الجَرْي قدَرُك..!” وذلك رغم مأساة التاريخ الدامي، بوصفه تاريخاً ماشياً:“لا شيء يُوقِف التاريخ..دائماً يمشي..ولكن بقدَمين داميتيْسن..!“.
ثم تعود القصيدة نفسها (كلماتٌ في الطريق)، لتدقّ نواقيسَ خطر العزلة والتمركز حول الذات:“ أقسى المنافي..أن يكون منفاكَ ذاتك..أخرُج”، ولتدقّ نواقيس تهافت الاكتفاء بالعيش البيولوجيّ، لاستنهاض الهمم – تالياً- لصالح كفاح الذات بوصفها معنى ومغزى:“ لا يتنفس الإنسان فقط الهواء..ولا يعيش فقط بالطعام..أين أنتِ..أين أنتَ..أين أنتم..أين نحن..؟!“، ما يعيد إلى الأذهان، بشكل أو بآخر، مقولة السيد المسيح الشهيرة:”ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.
“ما ينبغي أن يكون” يعبّد الطريق إليه، عملُ الذات الفردية المكافِحة الكادحة. الذات الفردية الفاعلة الزارعة، الرافضة لمدينةٍ من صنْعِ طاغية، مدينة الموت والجوع. تظهر هذه الذات الفاعلة جليّة في كلمة “أنتَ” على سبيل المثال، في قصيدة (تصفيق): „يصنع الطاغية الجوع.. يهجم الجوع على المدينة…أنتَ تزرع الأرض قمحاً”.
إن المشي أو المضي قُدُماً، يكاد يكون محور (الجرّة) بوصفها فلسفة شِعرية، أو شِعراً متفلسِفاً صوب “ما ينبغي أن يكون”، وها هي قصيدة (وحدكَ) تحتفي بالمشي مؤكِّدةً على الوحدة بوصفها منبع الذات الفردية وقوتها:“ ستمطر سماؤك عليك حمض الكبريت..فامشِِ…وتنبع الأرض أفاعٍ..تنهش قدميك..فامش…وتهاجمك الريح دوداً..يأكل يديك…فامشِِ..وحيداً”.
وتناغماً مع فلسفة المشي والمضي قدُماً، ينبغي الانصراف عن اليومي الزائف، تطلعاً لذاك الوجود الأصيل، الوجود الحر الذي فيه تتعرف الذات إلى نفسها الحقيقية، بعدما كانت مجهولة الهوية في عالم الاستبداد السديميّ. الوجود الحر الذي تؤكد عليه قصيدة (قيامة): „لا وقت لدي..اليوم قليل جداً..نعم..نعم..مذ قامت البلاد للحرية..قامت نفسي..وأنا أتعرّف على نفسي..“. إن التطلّع إلى الوجود الأصيل الحر، يقتضي “الإيمان” بالفجر، بالشروق مرة أخرى، وبالبداية الجديدة، التي تنتصر لها قصيدة (قبل قهوة الصباح): „ دائماً التاريخ يبدأ..رغم كهولة الوجع”.
تُفصِح قصيدة (ألحانٌ مشاغبةٌ على وترٍ واحد)، بوضوح شديد عن تلك الحقيقة المُرَّة، وهي أن الأرض “قبْر”، وأن التَّوْق إلى “ما ينبغي أن يكون”، يكاد يكون النضال الأجدر بالإنسان ضد موطنه الأرض، حين يصير قبراً: ” لن تكفي الأرض أن تكون قبراً..للمدن وللأحلام وللذين رحلوا..وللباقين”. ينسحب نضال الإنسان إياه، على العالم أيضاً. العالم الذي لا يترك للإنسان خياراً حراً: “بئسَ العالم.. حين لا يدعُ لكَ خياراً..سوى أن تكون شريراً.. أو ضحية..!“.
“ما ينبغي أن يكون” هو صباح عارٍ أعزل إلا من جمال الكلمة الشاعرة في قصيدة (حمامةُ الوقت الأسير): „هذا الصباح أليف رشيقٌ فرِح…يتوافق مع ما أحاول أن يكون عليه صباح العالم الجديد”.
ومن خلال الوحدة الخصبة، الغنية، الكثيرة والمتعددة التي تمهر وجود الفرد الحر. الوحدة التي هي في حِلٍّ من نزاع وصراع مع القطيع والقطيعية. هذه الوحدة القلِقة وجودياً، المنطوية على روحٍ فذّة وعلى عقلٍ وقّاد، هي التي من شأنها صنْع قوارب النجاة والعبور إلى “ما ينبغي أن يكون”، في قصيدة (كلمات في الطريق): ” وحدي مكتظاً..ولا مكان لسكينةٍ..أو سكن..لزهرة..أو قدم..وحدي مزدحماً..أعضُّ بكل قوارب النجاة والعبور..ولا شاطىء ينتظر..!“.
وفي محاولة الانتصار على القبح، لصالح “ما ينبغي أن يكون”، يقترب نادر عبد قشرة، في قصيدة (كلمات في الطريق)، مما يمكن تسميته “جمالية القبح”، الأمر الذي يأخذنا، في معنى ما، إلى الشاعر الفرنسي بودلير في (أزهار الشر) مثلاً، وتحديداً حين يطلب عبد قشرة: “رتّب موتَكَ..اجعله جميلاً..اصنع منه مغنّياً..واكتب له كلمات أغنيةٍ عن حياةٍ خضراء”.
في (كلمات في الطريق) يبدو أنه ما أن يحلّ الـ”ما ينبغي أن يكون” ويتحقق، حتى يبدأ مشوار التطلع إلى “ما ينبغي أن يكون” آخر جديد: „نحن بعضُ كلامٍ عن الحُب…أهمّه…لم نقلْه بعد..!“.
في (كلمات في الطريق)…يكون الطريق إلى ” ما ينبغي أن يكون”، مفعَماً بالقلق الوجوديّ: „ لأنه يسكنني طائرٌ حرٌّ قلِقٌ…يضرب زجاجَ الرّوح صباحَ مساء..“. وإن نحن شئنا استعمال مفردات الفيلسوف الألمانيّ هايدغر، هو طريق مفعم بقلق الوجود الأصيل المناقِض للوجود الزائف.
صَرْح الحياة:
قصائد (الجرَّة) كلّها تقريباً، تبدأ باليأس، وبالوجع الذي غالباً ما يجري الانتصار عليه لاحقاً، في استطرادات القصائد واستطالاتها. والجرة مملوءة بالكلمات،ففي قصيدة (فتى الكلمات)، كان ذاك الفتى، يعمل على بناء صرْح حياته على الأرض، عبر هواية “جمْع الكلمات”: كلمات جريحة..وأخرى ذابلة…لئيمة…مارقة..جميلة…حانقة…مستغيثة…مكلومة…مُهانة…حائرة…خائرة…عاشقة..كلمات كثيرة تمثّل أناساً “يعيشون معه في قفص الوطن”، قبل أن يجتثَّ رجالُ “الأمن” موهبتَه الطازجة تلك، في جمع الكلمات، ثم تنزف الروح ـ روحه. كيف لا يجتثون الكلمة، وهي مفتاح التاريخ؟! „يبحثون عن الكلمات المارقة التي تغيّر التاريخ”. لكن نزيف الروح اليائس الموجِع، في بداية (فتى الكلمات)، لم يمنع من نثر الحَبِّ في نهايتها، كتعبير عن الانتصار على اليأس: „ أنثرُ الحَبَّ في باحة صدري…لتأتي طيور الكلمات…“. ما يعني كفاح القصيدة وكدْحها من البداية، على طريق الصعود من المَعيش اليائس البشع، إلى النهاية حيث الـ”ما ينبغي أن يكون”. النهاية التي بدورها سوف تكون بداية جديدة لنهاية جديدة…والكدْح لن يتوقف…
ثم إن صرحَ الحياة لا يُبنى ولا يتشكل إلا بوجود الأنا والحب والحرية، وشرط الحُب في قصيدة (تأخرت الحرية كثيراً)، هو الحرية: „وأنا مضطرٌّ للحرية حتى أحب”، كما أن شرط الحرية هو الحب: „ أو أحب لأني مضطر للحرية”. تأخرت الحياة وصرْحها، لأن الحب والحرية تأخرا.
إن الكدح والكفاح في بناء صرح الحياة، يمكنه التغلّب على أعتى السجون، إذا ما أُطلِق العنان للمخيّلة المبدعة، فالطائر الحر يخلق حريته ويبدعها إذا ما أُسِر طيرانه : „ ولمّا سجنوه في صحراء..كتب على ذراعيه: هذان جناحان..ثم سكن الفكرة…ثم طار..! لتصير هذه النهاية، أي الطيران، عنوان قصيدة (ثمَّ طار).
وصرح الحياة النابض، يحتاج إلى قراءة الحياة. قراءتها قراءة حقيقية، كتلك التي تدعو إليها قصيدة (بوْح): „ واقرأْ بوحَ روحٍ فقدت الدفء في عالمٍ من حديد”. وليس من شيَم الحرارة في قراءة الحياة،اختزال ألوانها واختصارها، فهي ترى بوضوح أن: „الحرية سمراء وشقراء وحمراء وبيضاء وسوداء…وصفراء مثلنا…الحرية طويلة وقصيرة وممتلئة ونحيلة مثلنا..“، هكذا، وبحرارة كهذه، لا تعود الحرية شيئاً مجرّداً..بل حياة من لحم ودم…بل صرْح لحياةٍ. وهذا ما تفضي إليه قصيدة (قبل قهوة الصباح)، القصيدة التي لا تخيّر بين الحرية والخبز، لأن: „الحرية خبز الناس..لُقمة العقل..ماء الروح..“. القصيدة التي تمتد إلى قصيدة أخرى في رحلة الحرية، أي قصيدة (ألحانٌ مشاغبة على وتر واحد)، حيث: „كل شيء يولَد..يعيش..ثم يموت…إلا معكِ…الموتى يحيون…أيتها الحرية..!“.
في “جرّته”، في (كلمات في الطريق)، يفتّش الشاعر القلِق عن كلمات “يسكبها” فتوقِظُ:“أبحثُ ..عن كلمات حبيبة..عجيبة غريبة..تصفع العقول”. وحيث أن صرح الحياة، بالحثّ وبالاستنهاض يُبنى؛ يستنهض الشاعر في قصيدة (الرجل الذي اتّسخت روحُه):“ قد يكون الفانوس بحجمِ الكفِّ..وينير شارعاً طويلاً..كن فانوسَ مَن حولك…كن فانوس العطف والسلام..“. ويلجأ الشاعر في هذه القصيدة، إلى مفردات الطبيعة، حيث يكون الإنسان ـ في عودته إلى الطبيعة ـ مسالماً. الأمر الذي يذكّرنا ـ بشكل أو بآخر ـ بـالفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسو. يقول الشاعر:“ السلام للشجرة والعصفور..لقطرة الندى والبحر والساقية..ولمَن كان بيته القصر..أو يحيا تحت الصخر..السلام للإنسان”. الإنسان الذي تدوم خضرتُه، في عودته إلى الطبيعة: „إلى الذين يمكن اللجوء إليهم..لنخبِّىء لديهم بعض الكلمات الخائفة…إلى الناس دائمي الخُضرة”.
ولأن الفرح والغناء والرقص، هي مما يليق بصرح الحياة، ينبّه الشاعر بحاسة شِعريّة فائقة إلى خطورة انعدام الفرح، حاملاً فانوس القصيدة (كلماتٌ في الطريق)، لكي يساعد في إخراج الناس من عتمة الكهف: „ أصواتنا عذبة وجميلة..ولكن..، لا نعرف شيئاً عن أغاني الفرح..!“. أما الكتابة فهي، في بناء صرح الحياة، شعلة الشرف ومشعَلُه:“ ماذا يعني أن تكتبَ؟..يعني أن تصنع ضميراً حياً،..وأن توقِظَ روحاً ميتة..!…أن تعيد البسمة المسروقة إلى شفاهها الأم…!“. وليست الكتابة لدى الشاعر، غير ما يعيشه، وذلك هو الصدق النبيل: „أكتبُ ماءً…فأحسُّ البللَ”.
المرأة وصرْح الحياة:
في (الجرَّة) عموماً، وفي (كلمات في الطريق) خصوصاً، يبقى الحضور الأهم، في بناء صرح الحياة ـ الحضارة، هو حضور المرأة، بوصفه حضوراً جمالياً، إبداعياً، فكرياً، روحياً، تنويرياً، انتشالياً، تشذيبيّاً، تثقيفياً، تحريضياً تساؤلياً وجدلياً.. يمنحُ قيمة كبرى للتحليق وللطيران،.. حضورٌ ربما يذكِّرنا بحضور ودور “عشتار” في ملحمة “جلجامش”. “عشتار” التي طالما قادت “أنكيدو”ـ الرجل الوحش أو المتوحّش، أو الإنسان البدائي إلى عالم الحضارة والتحضّر والمدينيّة:“حين ترى رجلاً مضيئاً…كقمرٍ مكتمل…يعني أن امرأة…توقد شموع هذا الرجل…!“. „لا يُوقِد كسيح الإرادة…إلا الحُب..!“. „الحرب والسلام…وكل الكلام لعينيكِ…لشجر عينيكِ تأوي..طيورُ بَوحي…وأولَد في حضوركِ…من حضوركِ..!“. „في الحرب…ابتسامتكِ…أجنحة الروح…ابتسمي…أريد أن أطير..!“. „بعد كل موت…تهبينني قدرة ابتكار ولادتي من جديد…أيتها المرأة…وأصالح الحياة..!“. „الرجل بناء مهجور…تعوي فيه الريح الصفراء والشياطين…حتى يسكنه الحُب…حتى تسكنه امرأة…!“. „أنتِ هذا الضوء..الذي يُلقي إليّ بحبلٍٍٍٍ…قبل أن أرتطم في القاع..!“. „تحضرين سؤالاً يطير…لا تلحق به كل نسور الأجوبة…!“.
ولعلَّ دور المرأة المدينيّ التثقيفيّ هذا، يتجلى أكثر ما يتجلى، في قصيدة (لا زال الحُب ممكناً):“ أحبكِ يعني: أن أشجار الغابة تمشي إلى شوارع المدينة…وتُلقي التحية والسلام على جميع الناس..“.
كلامٌ في الزُّهْد والتخلّي:
يميز قصائد (الجرّة)، الزهدُ الشِّعريّ الراقي، المُتخلّي، والمُستغني. ففي قصيدة (طارَ..وحطََّ)، يتجلى الزهد العظيم، وعدم الرغبة في الاستحواذ الجشِع، ناهيك بالسلاسة والخفّة: „الأمل طائرٌ حرّ…والنافذة مفتوحة أبداً”. الأمل الذي يُحتفى به في الحضور وفي الغياب، في الظهور وفي الاختفاء، بوصفه دورةَ حياةٍ تتبرعم، تتفتح، تذبل…ثم تتبرعم، تتفتح، وتذبل، ما يعني عدم الركون، والمحاولة المستمرة:“حباً به…وخوفاً عليه…دائماً أنا بين أملَيْن…أملٌ طار…وأمل حطَّ..!“.
واحدة من أهم تجلّيات الزهد، هي التخلّي عن السيادة أو المركزية البشرية، والاقتراب أكثر من الطبيعة، والتآخي مع كائناتها وفهم لغتها الخاصة، كالذي في قصيدة (أخي الغزال الذهبي): „تآخيتُ مع الغزلان…أكلتُ العشب مع الغزال الذهبيّ الصغير…نسيتُ كلاميَ…تعلمتُ أصواتهم..“. وكالذي في قصيدة (هذه الشجرة): „هذه الشجرة أختي الكبيرة…وأنا أخوها الصغير…الغابة بيت أختي…وأنا في بيت أختي..“.
والزهد الشعرِيّ ينبثق ويتدفق وينهمر وينسكب.. دونما انتظار لأي شيء، وبلا تحسّب ولا تخطيط، كما في قصيدة (كلماتٌ في الطريق):“القصائد الرائعة…هي التي نكتبها…ولا ننتظر رأيَ الآخرين…فيها..!“. فـ:“ الكتابة صلاةُ القلب والضمير…”.
إنجاب الكتب أهم ـ أحياناً ـ من إنجاب الأطفال، في مقارعة اليأس:
إن إنجابَ الكتب هو ـ في معنى ماـ ثورة على اليأس الوجوديّ. ثورة تكاد تمهر كتاب (الجرّة) كلّه وتشكّل هوية له. فكلما بدا لنا ، كقرّاء، أن اليأس قد صار سيّد الكلمة، يباغتنا كاتبُ الجرّة بدفعة حيويّة “برغسونيّة”، ترفض اليأس وتنقضّ عليه، إذ التفاؤل عنده، يحب السَّكنَ في “البطون الخاوية.. وفي رحيل المهاجرين.. وفي الزنازين المتخمة بلحم الشعب.. وفي العيون المنهكة التي ما عادت تلمعُ لأيّ شيء”. كالذي في قصيدة (تفاؤل).
أما في قصيدة (المغنّي)، فلا زال المغنّي يغني في كل صباح، مع أنهم اقتلعوا العينين…وبتروا الأصابع والقدمين…!
وكأيّ شاعر “عارفٍ”، وبالقلب يُبصِر؛ يُعلي الشاعر في “جرّته”، من شأن الوحدة بوصفها خلاصاً وحرية وتحقيقاً للذات، وانتصاراً على اليأس. في قصيدة (وحدكَ) يقول: „في الطريق إلى شيء تحبّه…إذا كنت تطير في الهواء…أو تمشي على الأرض…ستمطر سماؤك عليك حمض الكبريت..فامشِ…وتنبع الأرض أفاعٍ..تنهش قدميك…فامشِ…وتهاجم الريح دوداً..يأكل يديك…فامشِ…وحيداً…“. حيث، مرّة أخرى، كما في السابق من هذه السطور، يستوقفنا فعلُ الأمر (امشِ) في هذه القصيدة، لنتفكّر ـ مجدَّداً ـ في أهمية المشي وفلسفته. المشي بوصفه تطلّعاً…كشفاً وحركة وحياة…عدم استسلام ليقينيّات ومسلَّمات…وسعْياً شريفاً دؤوباً لا يكلّ ولا يملّ.
إن المشيَ صديقٌ للطريق الذي لا يُعنى بالوصول إلى نقطةٍ نهائية، أو إلى نتيجة ختامية، بقدْر ما يهتم بالرحلة وبالمغامرة الفردية الفذّة. والمشي صديق للدَّرب الأدبيّ الحنون، الذي لا ينتهز الوسيلة تبريراً للغاية.
وبالمشي نترك اليأس وراءنا، كما “يرى” الشاعر في قصيدة (ألحانٌ مشاغبةٌ على وترٍ واحد):“ كم تركتُ اليأسَ،…يجري خلفي يائساً،…ألاعبه،…أداعبه،…كقطٍّ أليفٍ صغير..!“. وقد نتحايل على اليأس بإنجاب الألوان، كما في قصيدة (حِيَلٌ جديدة للولادة): „وتبحث عن ولادةٍ لكَ تليق بوطن ذبيح..تُولد من عُصارة متاهة الألوان…”.
إن مقارعة اليأس بالكتابة، تشبه قصيدة مُدَمّاة، خارجة للتو، من قعْر الخطر:“كأنني أسحب الكلمات الناصعة من جُحرِ الثعابين..“. كما في قصيدة (كلمات في الطريق).
الوحدة والنَّبْش في الذات:
وبما أن الوحدة غالباً ما تكون من نصيب الصَّفْوة؛ يحاول “شاعر الجَرَّة”، التدبّرَ العميقَ في الأفكار، وإدراك العالم إدراكاً حدسيًّا، وككل الشعراء الحقيقيين “يرى“ الشاعر في قصيدة (أنتَ..بعضٌ منكَ)، بقلبه ويبصر ويتبصَّر: “أرى: أن الحياة رحيل دائم…وفي كل رحلة تترك بعضاً منكَ..!“.
إنه القلب نفسه، الذي يصير نافذةً تبدِّدُ كل انفصالٍ مشكلٍّ لثنائيّات وهميّة. فالحياة اتصالٌ ووصال. والإنسان عقل وقلب..خير وشرٌّ..وهكذا، يطلب الشاعر في قصيدة (النافذة على النافذة):“افتحِ النافذة..عقلي يحلم أن يلمس الأشياء بقلبي…وأريد أن أصلّي وأصوم وأعبد ربي…كساقيةٍ أبداً جارية..“.
ويبدو أن الارتقاء في المراتب العقلية، ومغايَرة الغير، يتكشّفان بعمق، في الوحدة، ذلك الصوت الغريب المزدحم، الذي تتفتَّح فيه النفس من جميع الأنحاء، لترشحَ حقيقته العميقة وسريرته ومكنوناته الرَّحْبة..الرحبة جداً، إلى درجة أن العالم لا يعود يتسع لها:“ العالم كبير جداً…وضيّق عليّ جداّ…هل أسكنُ العالمَ..؟ أم العالمُ يسكن بي..؟”، „..وحدي مكتظاً….وحدي مزدحماً..“ كما في قصيدة (كلماتٌ في الطريق).
و(الجرّة) التي لا تني “تسكبُ” الشعرَ، بحيويةِ نحلةٍ منهمكةٍ بحُبٍ شديد، في صُنع خليّتها؛ تتمسّك ـ في الوحدة الخالصةـ بالحُلم بوصفه انعتاقاً من ربْقة الأوهام:”..وفي الليلة القادمة..سأحلمُ أيضاً بصباحيَ السوريَّ المناسب..!”. كالحُلم الذي في قصيدة (صباحي المناسب). والحلم ـ الماء، أو الماء ـ الحلم، شأنه شأن “النافذة” المذكورة آنفاً، يبدِّد الانفصالات، والثنائيات الزائفة: „جداولٌ نحن…خبيئة في الصخر..“ كما في قصيدة (ألحانٌ مشاغبة على وترٍ واحد). القصيدة التي تشكّل بيتَ الشاعر الحقيقي، من حيث هو وحيد، باحث عن الحقيقة، في عمق الوحدة..في الذات الجوَّانيَّة عميقة الغور.. وفي الكينونة الشِّعريّة: „لو كان الباب فوق الباب…وفي ألف عام..زحفتُ مطحوناً على ألف باب…ما تخليتُ عن الأسباب..حتى ألقى مسبِّبَ الأسباب..!).
والمدهش حقاً، هو التقاء أرواح الشعراء الحقيقيين، دونما أدنى تخطيط (وهل من شأن شاعرٍ حقيقيّ أن يخطط؟!. طبعاً لا، فمن شيَم الشاعر الحقيقيّ، الانبثاق). وهكذا، تلتقي روح شاعر (الجرّة) في قصيدته (النافذة على النافذة)، وروح الشاعرة السورية الراحلة وفاء شيب الدين (1972 ـ 1998)، في تخاطرٍ شِعريّ مذهل، يُقاربُ الضوء والعتمة! فحين كتب الشاعر:“ ليغنّي الضوء: صباح الخير أيتها الظُلمة…تعالي استحمّي في جسدي”. كانت الشاعرة في كتابها (خطيئة الرمّان)، قد كتبت من قبلُ: „ستسامحني الحياة..فقد عرفتني مرَّتين…يوم جئتُ…ويوم رحلتُ…مبلَّلةً بالبدء…مفرِطة الانتهاء…أشطرُ صوتي، ألثغُ…..لا شيء يستحقّ الضوءَ كالعتمة…تنحرُه…ويفترسها..). إن التقاءً تخاطُريّاً شعرياً روحياً كهذا، يصعب حدوثه إلا في وحدةٍ تتلذذ في متعها الصامتة..تمور وتنغلُ.
الظلمة والضوء ينجليان ويتجليان، بالنسبة إلى الشاعر في (كلمات على الطريق):”كلما أوغلتَ في العمق…اكتشفتَ ظُلمة العالم…وضوءَ ذاتكَ..!“.
أن ينبشَ الشاعر في الذات / ذاته، يعني ـ من بين ما يعني ـ أنه ينبع:“ أنا أنبع..أنبعُ..مثل الأسماء..مثل الأيام..مثل الماء..“ كما في قصيدة (هابيلُ القتيل). القتيل الذي يميلُ إليه شاعرٌ في سموّ وحدته وعَليائها:“أنا القتيل الحيّ..أحيا بموتي..وأموت لأحيا..لا أخجل من شرف موتي..كما لا تخجلون من غيلة قتلي..“. فأن “تختار” أن تكون قتيلاً، لَشرف إنسانيّ عظيم، يقيكَ فظاعة الجريمة وعارها..فظاعة أن تكون قاتلاً! وبسبب من “اختيار” الشاعر أن يكون قتيلاً، يصرخ في قصيدة (أيتها البلاد) صرخةً موجوعة: „لم نستطع أن نصير وحوشاً فنأكلكِ…ولم نستطع أن نكون أبطالاً فنحميكِ..“.
عن الخوف:
في البداية، ينطلق الشاعر، بـقصائد “جرّته”، من سورياـ الواقع، قبل أن تستحيل القصائد كونيّةً، أو نهراً متمرداً على المستنقع.. على الرعاعية والخسّة.. والمَسْلكية السُّوقية، حيث يصير الماء الشِّعريّ عنصرَ تغييرٍ ثوريّ، يخترق باطن الأرض.
إن الاستبدادَ المزمنَ في إجرامه، الذي باتت معه سوريا، سجناً رهيباً، يحوِّل الشاعرَ ـ شأنه شأن أبناء سوريا كلهم ـ إلى مذعورٍ في بقاع المعمورة كلّها، مزعزَع الثقة فاقدها، حتى أنه في قصيدة (القهر) يصرخ:“أنا مقهور جداً… إذا فتحتَ لي يديكَ…وأشرتَ لي أن أسكنَ حبَّاً صدرَكَ…أهربُ منكَ..أحسبُ أنك سجنٌ..“. ثم يتساءل في قصيدته (نحن2): „متى يكفُّ العالم أن يصنع قهوته الصباحية من دمائنا..؟!..وألا تكون وسادة نومه من ريشنا…كما تقتلعُ جبلاً عملاقاً بإبرةٍ…تكتبُ عن سورية وشعبها..بقلم..!“.
ويواصل الذعرُ حضورَه في قصيدة (فصلٌ واحد):“ „لا فصولَ سنة في جغرافيا الطغاة…فقط فصل واحد..لشعب خائف واحد..فصل الخوف بألوان الطيف..مع الخوف كل شيء ليس هو..“. وفي قصيدة (ذاكرة الحجر):“أيتها الأم البلاد وليس لنا من ذكريات في حضنكِ السريّ..إلا خائفة ومرتجفة وراعفة..“.
في الثورة:
أن تثورَ، بالنسبة إلى “الجرّة وشاعرها”، يعني أن تقتل اليأس وتسحقه. كيف؟ بأن تحاولَ ـ مثلًاـ توليد صباح جديد ضد الاستبداد المزمن، والخوف منه. صباح جديد يصير الـ”ما ينبغي أن يكون”، ففي قصيدة (حمامة الوقت الأسير):“ قال الرجل: هذا الصباح أستثنيه من الحرب…هذا الصباح أليف رشيق فرِح…يتوافق مع ما أحوال أن يكون عليه صباح العالم الجديد…روحي عصفورٌ تسكنه كل الغيوم..وسأهطلُ على كل جفاف..“.
و”كفعل” ثوريّ، تتحول المأساة، التي يصنعها الطغاة، في البلاد والناس، إلى قصيدة تحوم في روح الشاعر. مأساة يتبنّاها الشاعر، قصيدةً، يفضح بها، إجرام المجرمين الطغاة. هكذا، تروح (الجرّة) تسكب ماءً يميتُ تارةً، ويُنبِتُ طوراً. ففي قصيدة (حوّامة) يقول:“ تحوم القصيدة في الروح…تهزّ شجرة القلب وغصن القلم..ليكتبَ رفضاً لظلم…ويحفر للطغاة قبوراً من فحم..ويزرع الوردة محلَّ اللُّغم..“.
ويتكرَّر “الصباح”في قصيدة (السلام لك أيها الصباح)، كمفردة وكرمز ثائر لـ”ما ينبغي أن يكون”. الصباح الذي ينتشل قلبَه بقلبِه، محاوِلاً التمرّد على واقعه بوصفه سجناً، تطلّعاً إلى بعيدٍ متجاوزٍ:“لقلبكَ قدمان مربوطتان إلى وطنٍ أسير…لقلبكَ عصافيرٌ تطير كل لحظةٍ إلى الجبل الأخضر البعيد…ولقلبكَ يدان تلمسان السماء المرصَّعة بالنجوم..“.
ولا تنفكُّ كلمة “صباح” تطلّ وتشرق، بما تحمله من معانٍ ودلالات، منبِّهةً إلى الحب والخير والجمال والحق:“في الصباح تقول: لا زالت هناك فرص كثيرة لحياة يملؤها المعنى والحب..!. و”لنا صباحٌ (يفسّر الأحلامَ السعيدة)”. في قصيدة (كلمات في الطريق).
ولأن الطغيان، محض يأس وخراب ويباب، يحمي الشاعر، روحه بـ(التدريب) بوصفه ثورة:“ أدرِّب نفسي على البقاء حيّاً في احتفال هذا العدَم…أتدرَّب على حفظ اسمي..إذا فرَّ منّي…وأتدرَّب على الفرح السرّيّ في كرنفال البكاء..أدرّب استحالة وجودي على الوجود في صمغِ هذا الهباء…أتدربُ على الحياة..في روزنامة الممات..“.
أن تكون أعزلَ إلا من الشرف:
تقصُّ (الجرّة) شِعراً، حكايةَ كلَّ مشرّد ممزَّق النفس، في الوطن وقد حوَّله الاستبداد المجرم، مِحرَقةً للشرفاء. قصيدة (فجأةً) هي إحدى القصائد التي “تروي” تجربة أعزل وسط حرب إبادة:“فجأةً..!..كنتُ في الحياة..ولا أعرفُ منها، سوى أنني في حرب إبادة..بلا هوادة،..مفتوحة على الأبد..!…ولا أعرف كيف الدفاع عن نفسي،…وليس لي على اليابسة ولو عصا، وليس لي في الماء ولو زورق من ورق..!“.
وتلكم قصيدة أخرى (آخر واحد) . قصيدة ربما تذكِّرنا بالشاعر العراقي بدر شاكر السّيّاب، حين قال:”مطر..مطر..مطر..وفي العراق جوع..”. لكن “شاعر الجرّة” يقول:“زحامٌ..زحام..زحام…نحن نصطفُّ على دوْر الماء والخبز والغاز والهواء…والوطن يصطف آخر واحد في دور الأمم..!“.
وفي قصيدة (لم يُولَد فرحُنا بعدُ)، يصرخ العزَّل إلا من الشرف، في البراري:“ وحيدٌ حزننا..كشجرة زيتون يتيمة في جبل صخر أقرع..“. وعلى قلب الأعزل إلا من الشرف وشْمٌ مفاده:“ هذا ابن قضية..اسمها الحريّة..!“. هكذا تروي قصيدة (إلى رجل عابر).
وحيث أن “الصباح” واحدة من أحبِّ الكلمات إلى قلب شاعرِ الجرّة، لا ينفكُّ يراودها، ويعود إليها برغبة أكثر حرارة. ففي قصيدة (أيتها الأرض أخبرُكِ عن بعض أولادكِ)، يروح الشاعر إلى أولئك العُزّل إلا من الشرف، في معتَقَلات الاستبداد، ليقول: „صباح الخير..لمن لا يعرف أن الشمس استيقظت..لمن لا يعرف أن النهار يتمطى..“.
الخِفّة والتخفُّف:
لماءِ (الجرة) دلالة الخفة…الخفة التي تنسلّ في الأرض برشاقة..والتي تتمظهر في المشي..في التخفف.. وفي ذلك الكائن الغريب الذي في قصيدة (أنا أمشي إليكَ..وأنتَ تمشي إليَّ):“ نعيش كالمعنى في الأسماء..وكالموسيقا في الأشياء..بلا كثافة ولا كُتَل..أيها الغريب الأبيض..شففتَ..حتى لا مرآة تراك..“.
والخفة صديقة البساطة، متخفِّفة من عالم ثقيل متكلِّف، ومن كل حمولات التاريخ والأيديولوجيا:“دع عنّي هذا العالم..لن أبكي هذا اليوم..لدي أعمال جدُّ هامة..أريد أن أربط حذائي..وأرشفَ هوتي ساخنة..!“. و “أحسدُ الوردةَ التي عمرها من الشروق إلى الغروب…“. في قصيدة (كلمات في الطريق).
والخفة أيضاً، اختفاءٌ وتلاشٍ..زهدٌ، استغناء، تخلٍّ، ترفُّع..ومسافة:“قلبي خطرٌ عليَّ..أنزعه قليلاً لأستريح..أزرعه في التراب..ثم أنام..وفي الصباح..يُزهر أنتِ..!“.
ـــــــــــــــــــــــ
- كاتبة سوريّة تُقيم في مدينة كولونيا الألمانيّة منذ أواخر سنة 2015. درَستْ كلًّا من الفلسفة والاقتصاد في جامعة دمشق. عملتْ بعد ذلك كمعلِّمة لمادة الفلسفة في المدارس الثانوية العامة بمحافظة السويداء جنوب سوريا. كتبتْ في العديد من الصحف والمواقع والمنابر الثقافية العربية. صدرَ لها في العام 2015 كتاب (ثورة الحريّة السوريّة: أفكار وتأمّلات في المعنى والمغزى) عن دار كتابوك في باريس. في عام 2017 صدر لها كتاب (الزَّوبعة) عن دار كتابوك وهارماتان في باريس. في عام 2020 صدر لها كتاب (هذا العالم هذه الحياة: مفاهيم وإشكاليات) عن دار الدراويش للترجمة والنشر، فرع بلغاريا. في عام 2021 أُعيدَت طباعة كتابها (ثورة الحرية السورية: أفكار وتأملات في المعنى والمغزى) لدى دار الدراويش للنشر والترجمة، فرع ألمانيا.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي