كان قد تبقى لغروب الشمس ساعتين ، عندما رأيته عائدا تتكئ عصاه الخشبية على خطواته الثمانينية، يحمل كيسا من الخضروات ، بيمينه، و يمشي بخطى متباطئة ، فوق كتفيه لمحت عجز السنون يربض بوقاحة، و على ظهره الحاني، تعب الدهر يجثم بكل جرأةدون إكتراث لمشاعرنا، اما قدميه، فيكبلها وهن عمر أكل من جسده لحما نديا و رماه عظاما باردة، تتدثر بالتجاعيد طلبا للدفء.
كنت مازلت واقفة على شرفة منزله، أنتظر عودته، كي أملي عيني من رؤيته من ثم أعود إلى منزلي، حين أخذت اراقبه عن كثب و هو يحاول جاهدا الإستمرار في المشي مكابرا على تعبه، عندئذ حملت سنواتي الثلاث و الثلاثون، و لملمت دمعتين في حنجرتي، و غصة في روحي، من ثم تقدمت ناحيته، كي اساعده في المسير، حينما رآني إبتسم ثغره كطفل وجد لعبته المفضلة بعد ضياعها، وما كان منه الا أن رمى عصاه و أخذني في حضنه، و لسانه يلهج بالغزل لفتاته. رغم أننا خمسة لكننا كبرنا و لكل واحدة منا، لقب يغازلها به، عند زيارته، و عندما كبرنا إكتشفنا أن بيوتنا الدافئة التي بنيناها مع شركائنا، لم تعوضنا يوما عن حضنه، لم تغنينا عن راحة رأسنا على صدره عند كل لقاء.
دنوت من خده وقبلته بحزن من أدركت أن السنوات التي مضت لن تعود أبدا.
لكن ذاكرتي عادت عندذاك في رحلة مريرة ، إلى جدران ذلك المنزل، حيث كان يحملني بين يديه كي يهدهدني من مغص أصاب أمعائي في أشهري الأولى، و إلى دمعته التي جرحتني عندما تدحرجت من خده و انسكبت في قلبي، عندما تبولت في ثيابي ليلا فقام و إحتضنني، وقبلني ثم غير لي ملابسي و أعادني إلى حضنه أقتات من حبه و حنانه.
و حين ضغطت على يده و تلمست تجاعيدها، شعرت بنبض العاطفة في مساماته المسنة، فإقتادتني ذاكرتي مرة أخرى، بين ثناياها إلى المرات العديدة التي أمسك بها يدي و إوصلني إلى مدرستي في سنواتي الأولى، من ثم لوح لي مبتعدا و الدموع تغزو خديه، خوفا على طفولتي من مسطرة أستاذ متهور، أو عقاب لا أقوى على تنفيذه.
إقتربنا بخطواتنا، هو بتؤدة، و أنا أجاريه، خجلا من عنفوان شبابي الذي سرق عمره.
حينذاك لفتني ظهره الحاني، و حملني عاموده المنحني، إلى العابنا سويا، عندما كنت أعتلي ظهره، أو أغمض عينيه بقطعة قماش كي أختبئ منه، خلف أبواب منزلنا، و في كل مرة يجدني بها يحضنني خوفا على طفولتي من الضياع بين دهاليز العمر.
لو كنت أعلم حينها أن ابي سيشيب و يزوره العجز لبقيت مختبئة خلف الأبواب، نلاعب الزمن كي ينسانا ونبقى عالقين في سراديبنا البريئة.
ليته لم يجدني حينذاك، ربما بقيت طفلة تحتسي القهقهات من مراوغة و الدها.
لكنها الحياة تمر بعجلاتها، كي تدهسنا رويدا رويدا….
فقد كبرنا يا والدي، رغم أنني دعوت الله كثيرا أن تبقى شابا لكنه لم يستجيب لي، ربما لم يسمعني يوما.
السيرة الذاتية والأدبية للأديبة الأردنية ماجدة الطراونة
الاديبة ماجدة الطراونة من الاردن خريجة ماجستير رياضيات تكتب القصص القصيرة وقصص الاطفال ولديها اصدارات عديدة منها "مغاريف" و"آدمية" وتكتب...
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي