كافكا على جدار الغريب.
هبة قطيش.
(أتى الغريب، ذهب الغريب، )
أهالي القرية لقبوه هكذا، ربما ذلك الغريب هو نفسه قد نسى اسمه، دخل القرية عند غروب شمس أيلول منذ عامين، متأبطا لوحاته، حاملا بيده حقيبة ثياب،
عندما رآه جارنا “ابو سعيد”، إعتقد أنه عابر سبيل تائه، وضعته قدميه أمام ضيعتنا.
ربما هو هارب من ضجيج الحياة الى ملكوت الهدوء…
ماأدراكم ما “أبا سعيد”، أسرع مذياع في نشر الأخبار: (هناك غريب حملته نسائم أيلول في إتجاه قريتنا، عسى أن يكون مجرد رسول مهاجر ينقل لنا في جعبته بشائر الخير)، في اليوم التالي أمطرت.
منذ ذلك الحين سكن منزلا قرميديا عتيقا يقع على أطراف البلدة، لايكلم أحدا، ولايعرفه أحد،
صديق وفي للغياب، يمارس عبثيته بهدوء رجل إعتاد العزلة،
خليلاته ينتظرنه بحبور دون توقيت في جميع اللحظات للتسامر معه، لإقتناص الشبق من عزلته، للتلذذ بنشوة تمرده.
لطالما أغراني بغرابة أطواره وملامحه،
يغطي شعره بعض الشيب المتناسق مع سواد خصلاته، يلبس نظارة شمسية يخبئ بها نظراته، ذو أنف طويل نسبيا، وفم صامت لايفتر عن قيد كلمة،
إن مر بجانبك وصودف أن وقعت عيناه في عينيك يتأملك لثواني بعمق ثم يعرض بوجهه عنك،
حتى ثيابه، فيها من الندرة ما قد تجده فقط في القرون الوسطى، قميصا أبيضا مزررا وصولا الى رقبته، يزينه منديل ملون، يتوارى تحت سترة جلدية أو قماشية مع بنطال مصنوع من الكتان وحذاء ذو عنق عالي يصل للركبة.
في إحدى الليالي خطرت لي فكرة مراقبته و التلصص عليه، قصدت بيته و أنا ارسم في رأسي الف صورة و فكرة، ربما يغازل حبيبته تحت ضوء القمر ، أو يفترش العشب عاريا متدثرا بالنجوم.
حول منزله يوجد سياج من أشجار الرمان الملتحفة بجلنارها، وقفت هناك مختبئا خلف الاغصان مستندا إلى جذع أحداها أتمعن في النظر ناحية حديقته حتى لمحته واقفا مقابل احدى سبوراته يحمل ريشته بين أنامله ينقلها ببراعة محترف بين الألوان و اللوحة ،
تارة يدور حول نفسه متناغما مع لحن المذياع بجانبه يشدو بأغنية للمطرب الفرنسي شارل أزنافور، يديه تلوحان بالهواء، رجليه تغازلان ايقاعات الموسيقى، وطورا تراه إبتعد قليلا مدندنا الكلمات بهياج، عيناه تعاينان رسمته عن بعد ثم يعود للإنغماس فيها عن قرب.
طقوسه رمتني في خمرها، فوجدتني تقدمت دون وعي مني، ولم استيقظ من ثمالتي الا حين وجدت نفسي أمامه بيننا شبر واحد لا أكثر، لا أدري كيف وصلت؟
أيعقل أنني لم أدرك ما أنا فاعله؟؟
للوهلة الأولى، فجر عينيه بفم نصف مفتوح و الدهشة تتراقص غيظا في تعابيره، اما انا فقد حاولت التكلم لتبرير موقفي لكن صوتي خذلني، أدرت ظهري هاربا من هول الموقف، لكنني ذهلت به يستوقفني و يشير الي بالجلوس على الكرسي الخشبي مكملا عمله، إمتثلت لأوامره غمرت المقعد كطفل مشاغب أمسكوه بالجرم المشهود.
انا غارق في خجلي، اما هو يجذف بقاربه مع الأوتار والوجوه،
تلفتت اراقب باقي اللوحات،
على إحداها صوفي بردائه الأبيض في وصلة روحية تخرج من يده الممتدة نحو السماء كلمة( شمس ) ،
بجانبها صورة لطيف إنسان يحتضر في ظلامه يخيل للناظر إليه أنه مسخ، كتب على طرفها اسم (فرانز كافكا)
أخرى تحمل صورة إمرأة شعرها استنزفه البياض حتى أصبح كغيمة لايشوبها الا الصفاء، اما ملامحها، لاتمت للانوثة بصلة لكنني عرفت بخبرتي القليلة من قراءاتي المتقطعة أنها (نوال السعداوي)،
تقدم مني وعيناه
ما زالتا عالقتان على تحفته الفنية، ثم سألني:
مارأيك ؟؟
صعقت من غرابة السؤال
رددت بوجل بعد أن أدرت نظري ناحية لوحته الجديدة: جميل، رائع
تابع: أتدري من هذا؟
تمتمت بجهل: كلا، من؟
رشق كلماته في أذني، شعب سطحي
إنه الخيام، عمر الخيام صاحب الرباعية الخالدة
أتعلم ما يقول؟؟ ثم تابع دون جواب مني:
“تناثرت أيام هذا العمر
تناثر الأوراق حول الشجر
فأنعم من الدنيا بلذاتها
من قبل أن تسقيك كف القدر
أطفئ لظى القلب ببرد الشراب
فإنما الأيام مثل السحاب”.
غرقنا بعدها في سكون الليل يترامى إلى مسامعنا صوت الجنادب تقيم حفلا راقصا بين الأعشاب،
مد يده إلى الطاولة، حمل كأسه ارتشفها في لثمة واحدة، ثم رماها امامي منصرفا إلى عرشه بهدوء،
كأنني محض خيال لا وجود لي.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي