(يوماً ما…..)
حدثت ولا زالت ….قصتي معه
حين غَادرتَ وأنت َ تجيش بأحلام
لا زالت أجنة..
كانت رئتاك تلعق مع بقايا اللعاب غبار الحرب ..
عيناك غارقتان بخيالات من صحوٍ
ضبابي الرؤيا..وأنت َتنشد للصباح أغنياتٍ
تحاول الرقص على حبالك الصوتية دون أن تقع ..
عندها لم تكن ترصد ماتبقى من آثار خلفك .
وحدها الشمس حين طلعت تَمسكتَ بحبالها..
لعلك تنجو ….
من عشرات الحواجز التي تصطاد السائرين مطئطئين .
.فتحولهم قوافل من جنود.
أما هي فقد وقفت على الضفة الأخرى تتبعك تحاول رسم ابتسامة تتلوى على شكل شفاه
تلّوح بيدين عاريتين ..
وترتل بصمت آيات السفر..
وهي تدرك أن معركة جديدةً بدأت …
تؤازر روحها تدعوها أن تقاوم …تردد:
هي المرة الأولى التي أدرت لك ظهري
هي المرة الأولى وأنت أمامي
أدور نحو الوراء
فأستند إلى الفراغ
يملؤني الهواء ..أعود أدراجي
محملةً بوعود عن أيام قادمةٍ
سترسل بطاقة دعوة لتنتشلني…
أنا وطفلتي ونسير معاً في ركب المواسم .
رجعت إلى حيث بيتي
باب أسود من حديد
فسحة من الاسمنت المرشوش
أصايص من حبق وزهر الجميل
وعريشة ياسمين في صحن الدار
ومشرقة تطل على صحن الكنيسة
في الركن المقابل.
غرفة العلية نامت بها ابنتنا ،
على فرشة من قطن ،وعلى النافذة ستائر شفافة،
تمارس الحب مع النسيم ،
وهو يهزها برطوبة منعشة فينتشر العبق.
لم يعد في الدار غير الأحاديث المسكونة بالغربة وأمنيات عن رغيف الخبز والماء النظيف والكهرباء و…الأمان .
وعلى الجدار صورة لأمي وأبي …رحمهما الله …
أما صورنا معاًفقد ابتلعها الموبايل …
كنهر يسرق حذاء طفل كا ن يداعبه .
دون أن ندري أن يوما ما
سيأتي يمحو ذاكرة الهاتف،
ويبقي ذاكرة الوجع.
حشود من الأفكار في رأسي،
أحاديث الجوار عن مغامرة الرحيل بالبحر…
وقصص عن غرقى ،
واحتمالات القذف في معترك الزبد
وقفت مسمرةً
في انهمار أسئلة مراوحةٍ
لم يكن ممكناً أن لايسافر؟؟؟؟
كنت أرددعلى مسامعه أغنية لصباح :(عالبساطة البساطة ياعيني عالبساطة تفطرني خبزة وزيتونة وتعشيني بطاطا)
ربما لم تعد صالحة لهذا الزمان …
فالخبز بالرغيف… وتحصل عليه بالبطاقة .
الزيتون (صارغيرشكل)كما قال زياد الرحباني بصوت الكبيرة فيروز
فهو من طور سنين صامد يرفض الموت تحت فأس الارهاب ونار الحرب والجشع .
الزيتون يعبر كل الدروب من اللاذقية حتى سهل الغاب
فإدلب وحلب والغوطة وسهول حوران.
أشجاره تحمل في لحائها نسغ العبورإلى الحياة القادمة.
والبطاطا لم تكن بحاجة لتنمو …غير حضنٍ من تراب
لتمتد وتتكاثر وتعيد دورة وجودها . .
فهي عروس الموائد للصغار والكبار.
والزيت جدول عذب المذاق ،والزعتر عرايس من لفائف الأطفال
حين الذهاب الى المدرسة.
كان يحلم أن تكبر صغيرته
فيأخذها برحلة لترى البحر وتسمع
زقزقة العصافير ومواء القطط
فتلعب وتضحك وتلهو
وحين يأتي العيد يغدق عليها …
بفساتين ملونة تشبه ماتلبسه فلةوباربي
تركب الأراجيح مع الأولاد ،وتدور القلابة ،
تصرخ (بابا امسكني أنا خايفة ).
كم من الأعياد جاءت بلا مراجيح ولا فساتين ملونةٍ
ولا بابا…
فهل ستأتي مرة أخرى ؟؟؟؟!!!!
تنفست عميقاً لم تصح ُ بعد من هول الحقيقة…
لازال صوت خطواته ..دخان نرجيلته ..كتبه أوراقه
مسطرة المهندس ،غيتاره فوق الخزانة …
الطاولة والكرسي ،ملابسه الداخلية ،قميصه المقلم بالأسود والأبيض ،بنطاله والحزام …
لازال رحيله طازج الرائحة ..لكنه لايفتح الشهية…
جلست على أريكة اعتادت أن يكونا معاً حين يداعبها..فتمتد يداه لتلامس كل مافيها ..
تخترق الثوب تعبر الدروب الحارة
فيغرقا في بركةٍ من شغف
يعلو صوت ماريا فجأة
(ماما بدي روح عالحمام ).
في توقيت القبل وآهاتٍ حرة
ودموعٍ ..تتذكر وهي تطوي ملابسه لتضعها في (بقجةٍ)
تودعها مكان قصياً في الخزانة
لم يعد يحتاجها ….
سيكون له ملابسه الجديدة
وقياساتٍ جديدةوقماشٍ مختلف
سيعتاد النوم ب(الجينز)بدل(بيجامته الرمادية)ويجلس(بالشورت)ويمد رجليه فوق المنضدة
بدلاً من سندها على كتف البحرة
كانت تفرك يديهابورق الليمون
وتمسح جبينه .
عطره سيصير (بارفان هوغو)
وربما …لن يغدرها مرور الأحلام….
فيكون اللقاء حميماً كما فوق الأريكة ….وربما أطول .
السفروالمسافة يشعلان الشوق ..
لكن ربمااعتاد الغياب والغربة .
اليوم بدأت رحلتهاوحيدةً إلا من أمومتها…
أخذت ترش الماءوتغسل الأطباق
وفناجين القهوة…
هربت منها دموعها
أمسكت فنجانها قلبته وقالت سأقرأ مافيه ولكن لابد أن أضمر رغبةًما…( لأرى إن كانت ستتحقق)
رفعت الفنجان قالت لازال َيَدمَعْ
أخذت تقلِّب كمشة الياسمين التي وضعتها على الصينية
كانت آخر ماقدمته له ….
تنشقت عطره ..مسحت دموعها
واست روحها..
أشهر قليلة ونلتقي ،في عالم غير هذا …
فيه فضاء رحب من الحرية
وآخرون ..لايهمهم اسمك ولاتاريخك …
فضاء من انسانيةٍ جديدة
لاتعترف على الأسماء ….
كل مافيها متاح ومباح ….
حيث لاحرب ولاموت مجاني
لاحواجز ..ولاخوف من قراصنة الكلام .
لاخوف من الموت جوعاً أو غرقاً أو تحت ردم المنازل .
مؤكد ٌ أننا سنلتقي …
ستلعب ماريا بين الزهور..سيكون لها جنسية جديدة
تسمح لها بالمرور والعبور في كل الموانىء
دون نظرة خوف أو تهمة ارهاب
ستكبر وتدخل الجامعة ..مخابر قاعات نظيفة وربما مواعيد للحب
وردة أكاسيا بيضاءأو توليب أحمر
بدل الجوري وزهر الليمون والنارنج
ستضع البارفان الفرنسي وتستعمل مبيضات البشرة والمطري
بدلاً من البيلون والبابونج وعجينة السكر .
غرقت بأحلام يقظتها …عندماجاء صوت مارياكصلاة منجيةٍ(ماما أنا جوعانة)
أفلتت من يدها أحلامهاركضت
راحت تفتح قطرميز المكدوس لتنتشل واحدة وقليل من الزيتون
الأخضر والأسود ..خيارة بندورة
كبتولة اللبنة وعود النعنع الأخضر وكأس الشاي .
نادت :تعالي الفطور جاهز
أقبلت وكان السؤال ..(وين بابا؟)
سافر مع شقشقة الفجر
هطلت الأسئلة تباعاً بالطيارة أم بالبالم
أجابت بالاثنين. ..ليش سافر ؟؟
حتى تكون حياتنا أفضل
(أنا مبسوطة هيك )
بكرة أحلى
سكتت ماريا حاولت صنع أحلام من ورق ملون لتصبح طائرةً
تحمل أشياءها الصغيرة تذكرت رحلتها بالطائرة لأول مرة من دمشق إلى حلب
من نافذة الطائرة المعدنية عندما نظرت ..
كل ماعلى الأرض يبدو صغيراً جداً الطرقات والمنازل …
لايمكن رؤية الناس ولاتمييز أحجامهم ولا ملامحهم
كل شيء يتناهى في الصغر
وحدها المساحات تمتد في الأخضر …
وحده الدخان يزاحم الغيم كل البيوت على شكل علب .
أما طائرتها الورقية فكانت لاتلتهم الحجوم ولا المسافة.
الأرض كبيرةٌ جداً والبياض يمتد في ذؤابات تعلو جبين أمها
البيوت كبيرة حتى الشسوع الفارغة …
وحولها ركام نفايات وبقايا خراب
والهرة شامة تقلب البقايا بحثاً عن طعام
حملت ماريا طائرتها الورقية واتجهت نحو المشرقة
على حافة الشرفة وضعت كأس ماءٍ فيه قليل من سائل الجلي
راحت تنفث الهواء في (شليمونة)
تغرغر صار زفيرها فقاعاتٍ ملونة
تسافر في الفضاء تحمل أحلامها الوردية ،وألوان الفساتين،..والألعاب
فاجأها صوت أمها محذراً :انتبهي
لا تبلعي الماء الذي في القاع .
الماء ملوث ….
صارت الأحلام كالماء
ترحل فقاعاتٍ ملونةٍ
وإن بقيت ..صارت سموماً .
مرت سنوات ونشرات الأخبار تعيد سرد الحكاية
حيث سيرتها الأولى …
المؤامرة كونية ،الأطفال والمدنيون يموتون لأنهم دروع بشرية ….الشهداء من كل الطوائف .
والآخر متهم باستخدام السلاح الكيماوي وغاز السارين
وقانون قيصر جاء لاحكام الحصار
علينا أن نقاوم …
الحرب والقهر ..الجوع وكل أشكال الفساد
البرد …المازوت بالبطاقة
الجوع ..الخبز والغاز ..السكر والرز والشاي ..بالبطاقة
البنزين بالبطاقة
النوم والاستيقاظ وعبور الحواجز
بالبطاقة
وفي زمن الكورونا الأوكسجين واللقاح ..بالبطاقة
البطاقة مرة ذكيةً ومراتٍ شخصيةٍ وأخرى غبية
يزدادالدرب وعورةً
رسائل المواساة والانتظار
متقطعة مرةً ومرةً بطيئة
فبطاقة التشريج انتها مفعولها
والنت أكله القرش
والمسافر تاه في بلاد الأباطرة
كل شيء تقلص
ماريا تكبر ..عشر سنواتٍ منذ سافر والدها ولازالت تحلم أن يعود
ليحتضنها …
اتسعت حدقتا عينيها
صارت ترى الأشياء من كل الزوايا
حتى تلك التي ترقد عند نجمتها الموحية .
طولها تجاوز المئة وخمس وستون سنتيمتر
شعرها الأسود بطول قامتها
يهيم على كتفيها
فيشع وجهها بالنور ..ملَّت الأسئلة
متى يعود بابا؟
لماذا لم نرحل إليه ؟
ألا يريدنا معه؟
الجواب واحدٌ لم يتغير :…إن شاء الله ..
في غيابه الوضع أفضل !!!!؟ثمة دولارات ترمم النقص..تخفف الحاجة ..ونتأكد أنه بسلام ..فلاخوف أن يموت في الحرب .
ابتلعت الأيام الأحلام
تلفت خيطان طائرة الورق …
أًُغلقَ مطار حلب ..كبرت ماريا
كنت أمسك بيديها ..أعانقها بالليل
تقبلني …أضمها ..أحتضنها
تنام بعمق وسلام .يستسلم جسمها الغض وهو يلتصق بالحائط فتستند عليه حتى لاتقع عن حافة السرير .
في الصباح تكون رحلتنا معاً سيراً على الأقدام نحو مدرستها
تمسك يدي وتشد ..أشعر أنني أحتمي بأمومتي …
فلا أسقط .
نستعيد معاً أناشيد سليمان العيسى ولعبة الغميضة
ورسومات لبيوت ذات شبابيك
تزينها الورود
القطة بوسي وحركاتها الجميلة وبطات حديقة السبكي
وكيف كانت تركل بقدمها الصغيرة كرةً من ثمرة الصنوبر
وهي تلاحق العصافير وتغني عيدك ياأمي أجمل أعيادي لولاك يا أمي ماكان ميلادي …
أقول لها وبابا؟؟!!!ترد
لم يعد… اشتقت إليه كثيراً …
سنوات انتظار مرَّت وأنا أقف أما م المرآة أستعيد لهفة الغمرة والشوق و…و…
لم يعد ..منذ ركب طائرةً من حديد صلب قاسٍ
حلق بعيداً تاركاً ماريا وطائرة الورق
ومحطةً من قلب ..لم يعد قادراً
على معاندة الأرق ..
وأرصفةً اعتادت مرور العابرين
لعل بعض ترابها يعلق بأحذيتهم …
فيتذكرون الحارات العتيقة والشرفات المزدانة بالزجاج المعشق
لفائف الفلافل وخبز التنور
عرائش الياسمين والنفناف
لعلهم يحملون معهم بعضاً من التراب ليعلق بالذاكرة
فتعود بهم خطواتهم
سؤال ملحٌ:هل بابا لاجئ ؟؟؟؟
ترد الأم بنبرة من يرغب بالثأر لكرامته
لا ..لا لم ولن يكون لاجئ
غادر من أجله ..من أجلنا
من أجل الأمان….
ماريا لم تقتنع ..نصف الجواب
لايفي غرض الإجابة …
في آخر مكالمة فيديو عرفت كل الإجابة !!!
ملامحه تغيرت ..نبرة صوته ..شكله
صار سؤاله …هل ما أرسله لكم كافياً?؟؟؟؟
أسمع أن الوضع يزداد سوءاً
حسناً سأرسل لكم خمسين دولاراً إضافياً …
الله يفرجها عليكم .
ردت ماريا بقهر …
(بابا نحنا مابدنا مصاري أنا اشتئتلك وماما كمان ،
ماماتعبت ونحنا محتاجين تكون معنا )
كانت مكالمته الأخيرة التي التهمها قرش النت ..مرت الأيام
لازلت أسمع كل صباح فيروز تغني :يا ماريا …يامسوسحة القبطان والبحرية
ردي عليَّ يابنت ياحلوة ….
وبعدها…تغني (زعلي طول أنا وياك وسنين بقيت..حاول فيهن أنا انساك ما قدرت نسيت )…وبعدها
-من يوم اللي تكَوَّنْ ياوطني الموج
نحنا سوا ليوم الليي سافر فينا الغيم
رح نبقى سوا …
آاااه يافيروز كبرناوكبرت ْ معنا أغانيك
وأحلامنا الصغيرة والكبيرة
وحدكِ تاريخ الحكايا
وحدكِ أغنية الروح في لوح الوصايا
قولي لنا ياعرافة النور
هل حقاً سنرجع يوماً إلى حينا
ونغرق في ساحرات المنى
ردت فيروز :سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى ….سنرجع يوماً إلى حينا
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي