كنت في حاجة ماسّة إلى الجلوس مع نفسي. جلست في مقهى شعبيّ قديم مطلّ على البحر، أسمع صخب المشاة ونداءات أصحاب العربات، تزاحمها أبواق السّيّارات الّتي لم تنفك تقرع رأسي بإلحاح بغيض. سألني النّادل إن كنت أنتظر أحدًا فرفعت رأسي نافية، وطلبت منه أن يحضر فنجان قهوة مرّة شرعت أرتشفه بهدوء. أخرجت من حقيبتي رواية كنت قد ابتعتها منذ شهور، لكنّني لم أقرأها بسبب انشغالاتي وسوء أحوالي. فتحت الكتاب على الصّفحة الأولى، وهممت بقراءة الإهداء: “إلى نصفي الثّاني، وروحي التي بين جنبي”. لويت شفتي بامتعاض، فآخر ما أودّ الاطّلاع عليه في هذه الآونة هو التّعابير العاطفيّة. أغلقت الكتاب وعدت أتأمّل الحياة المدنيّة من خلال الواجهة الزّجاجيّة للمقهى، أرتشف بين الفينة والأخرى رشفة لا تذكر من قهوتي، كي تدوم أطول وقت ممكن، وأتنشّق بخار الفنجان المحمّل برائحة البنّ فأشعر بقشعريرة ممتعة تسري في جسدي. ارتجفت بوجل حين سمعت أحدهم على حين غرّة ينادي باسمه، ماذا دهاني؟ صحيح أنّ إسمه نادر، لكنّه ليس الوحيد الّذي يحمله! أصرّ القدر في ذلك النّهار أن ينتهك حالة الصّفاء الّتي كنت فيها، فصدح المسجّل بحنجرة فيروز وهي تغنّي: “بعدك على بالي يا قمر الحلوين.” استسلمت بعد الإشارة الثّالثة في ذلك النّهار، مدركة أنّ قلبي لم يسلبه مفاتيحه حتّى اللّحظة، ضاربًا كلّ محاولاتي اللّعينة لانتزاعه عرض الحائط. سقطت أمامي على الطّاولة دمعة سوداء فاجأتني، فقد ظننت أنّ مخزون دموعي قد جفّ منذ فترة. أنّبت نفسي قائلة: “أنت تهذين، أيّ إشارات تتحدّثين عنها؟ هذا محض صدفة!”. حملت منديلًا وطبطبت به تحت عينيّ حريصة على عدم إتلاف زينتي، ثمّ اختلقت ابتسامة على ثغري وألهيت نفسي بمداعبة طفل أشقر البشرة أخضر العينين، يجلس مع والدته على الطّاولة المجاورة، فللأطفال قدرة خارقة على تعديل المزاج، ضحكت مع ذلك الصّغير من أعماق قلبي، ثمّ عرفت أنّه يحمل اسمه…
رحاب هاني /صمت
اعدو وراء الصمت، اتعثر بظله .عجباً به كيف يختفي!كيف يلتحف ضباب الأحلام و يستقي من رذاذ الأوهام؟خانتني الرؤية من جديد...
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي