ديوان (الحب لا يتكلم كثيراً) للشاعرة العراقية/سعاد محمد الناصر
وماهية الأدب ومهامه
إذا كان الشعر معادلاً موضوعيّاً للحلم، فالأحلام في الواقع يصعبُ تحقيقها. لكنّنا نسعى متسلّحين بالأمل، وهذه وظيفة من وظائف الأدب ومهامّه، ربط المجتمع بالأمل وبأنّ غداً سيكون أفضل، وأن نسعى لأن نجعل الحاضر أيضًا جميلًا، نحياه ونحن مفعمون بالأمل
على حدّ تعبير الشاعر السوداني الكبير الهادي آدم
(قد يكون الغيب حلواً
إنما الحاضر أحلى)
في رائعته (أغداً ألقاك)
التي شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم.
وإذا كان الشعر عماده الكلمة الرفرافة النديّة المفعمة بالتجربة والصورة، فالحب على عكس ذلك صامتُ يلفّه الخجل. ربّما يلهبه الشعر فيصدح، وربّما صاحبه يعبّر عنه بالصمت ، و(الصمت خير من كلام لا يفي).
وهذه هي حالة العنوان الذي دشّنته شاعرتنا سعاد الناصر
ليكون عتبة للدخول إلى نصوصها.
فهي إذاً وضعتنا أمام معضلة
وإشكاليّة لغويّة جديدة من حيث المعنى لا المبنى. كيف لا وهي شاعرة تملك زمام الكلمة وتعبّر عمّا يجيش في صدرها!
إذا تحدّثت عن الحبّ جعلته لا يتكلّم، وإن تكلّم كان كلامه قليلاً. ولعلّ ذلك من باب (خير الكلام ما قلّ ودلّ)، ربما قلّة الكلام من الحسرة والوجع فحالها كحال العراق
يقول الجواهري:
ولا تعجبوا أن القوافي حزينة
فكل بلادي في ثياب حداد
وما الشعر إلا صفحة من شقائها
وما أنا إلا صورة لبلادي
هذا هو حال العراق
يحبّ وحبّهُ ضياع، إنداح الشعر بالوطن والألم والوطن بالكلمة والنغم (الشعر) فصار كلامه قليلاً من شدّة ما مرّ به العراق، ولا غرو في ذلك من اختيار العناوين لدى الشاعرة كعنوان منتجها السابق “عندما تبكي الطيور”. هي إذاً حالة شعوريّة وتجربة عاشها الشعب العراقي برمّته؛ لكنّ الشاعر/ة هو الوحيد القادر على التعبير عمّا يجيش في صدره وعمّا يلقاه من وجع لما يمرّ به وطنه العراق .
من وظائف الأدب أنّه يخدم الأخلاق في فهم النفس البشرية، ويعبّر عن القيم السامية للمقاييس الأدبيّة والفنّيّة التي تساهم بلا أدنى شكّ في التقدّم والبناء والرقيّ وخلق مجتمع متعايش بالحب والعطاء والبعد عن الحروب والنزاعات .
سعاد الناصر في ديوانها لا تشبه أحدًا إنّما تشبه نفسها في نصوصها، لغتها، تجربتها، إحساسها. وهي بذلك تنضمّ إلى قائمة شعراء وشاعرات العراق، وتضع لنفسها مكانًا على خريطة الشعر النسويّ العراقي “أمل الزهاوي ،نازك الملائكة ،بشرى البستاني ،لميعه عباس عمارة”، والقائمة تطول .
وللشعر العراقي خصوصيّة نجدها في قصائد الشعراء المعاصرين، منها: الدفاع عن الإنسان ضدّ الاستبداد، حبّ آل البيت؛ فالوسط العراقي عمومًا والثقافيّ والأدبيّ خاصّة ينفرد بخصائص لا يشبهه فيها أحد إلّا في الجانب الإنسانيّ والفنّيّ فقط، ولعلّ ذلك الانفراد سببه النشاط السياسيّ منذ فترة الستينيّات والتعدّد الإيديولوجي الذي ولّد صراعًا مريرًا انعكس على الحياة السياسية للعراق، ومن ثَم انعكس على المنتج الأدبي. ناهيك عن حالة عدم استقرار العراق في العصر الحديث، والتحوّل بين عقليّة المبدع وحرّيّة التعبير، والدلالات التي انسحبت وانسحقت على وطأة الحكم الديكتاتوري، رغم ما فيها من مسحة قوميّة عروبيّة ، إلا أنها في مجملها كانت إبداعًا معبّرًا عن فترة من فترات الضياع العربي والحلم العربي تحت مسمّيات رنّانة
أضعفت الدولة وأضعفت الشعر ووظفته في خدمة الفرد وقضاياه، إضافة إلى تصارع الأجيال الشعريّة في الوطن العربيّ وفي العراق خصوصًا، وتبنّي مدارس غربيّة، ودخول قصيدة النثر على خطّ المواجهة والنار، ممّا أدّى إلى إضعاف الشعر العربي والعراقي. ولم يصمد جيل الستينيّات ولا السبعينيّات أمام الشاعر الجواهري المعتّق بالأصالة والمحافظة على التراث. وفي هذه الفترة ظهر تيّاران أدبيّان رئيسيّان : القوميّون والماركسيّون، وصار لكلّ منهما شعراء يدافعون عن التيار الذي ينتمون إليه، وتفرّق الشعر شِيَعًا شتّى وقبائل، ممّا أضعف الشعر والشعراء. ولم ينجُ من هذه المعضلة سوى عبد الرزاق عبد الواحد الذي حافظ على الشعر العمودي وقوّته وجدّد فيه، وظلّ مغرّدًا ومحلّقًا ومتغنّيًا بحبّ العراق .
أستمع إليه في رائعة من روائعه “سفر التكوين”
عندما كوّرت عندما كان كلّ آياتها صوّرت
قيل للشمس أن تستقيم على موضع لا تغيب
وللنجم كن أنت منها قريب
ثمّ خطّ على الأرض منعطفان تبجّس بينهما الماء
وانحصرت آياتان بمعجزة تجريان
فالتقى الفجر بالليل والنار بالسيل
كلٌّ بأمر يُساق وأتى الصوت
كوني.. فكان العراق.
سعاد الناصر في ديوانها “الحب لا يتكلم كثيرًا” تكلمت وباحت بما في داخلها من حب للوطن والأسرة، للأمّ والأب، لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولآل بيته الكرام ، للحسين رضي الله عنه وأرضاه سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سعاد الناصر شاعرة محبّة لآل البيت و لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تغنّت به شعرًا ملأ الكون عبيرًا
استمع إليها تقول:
كسا الوجود نسيمًا بالجمال نقي
يا مولدا خصّه الرحمن بالألق
فالكون في فرح/ والروض في مرح
والخلق في أمل/ والزهر في عبق
القصيدة من بحر البسيط
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
وكأنها تتماهى مع شوقي في رائعته:
“ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
ماذا أقول إذا رمت القصيد وهل
تغني عن الحب أبيات على الورق” .
يعتبر المسلمون أنّ الحسين عليه السلام هو أوّل ثائرٍ في الإسلام وأنّه رمز للتحرّر والإباء والحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة. وانبرى شعراء المسلمون لا سيّما شعراء العراق قديمًا وحديثًا في التغنّي به شعرًا يملأ الدنيا ليبقى ذكر الحسين عليه السلام في مسمع الأجيال.
ونجد ذلك واضحا في المواكب، في الزيارات، في الحسينيّات، في الأفراح والسهرات، وهو نوع من أنواع الحبّ ونتاج أدبي ضخم ابتدأ منذ: السيد الحميدي توفي سنة (٧٣ هـ) دعبل بن علي الخزاعي (٢٤٦هـ) _عبود جودي الحلي (١٩٩٤م) وكثيرين من الذين هاموا في حبّ الحسين رضي الله عنه. ومن شعراء العصر الحديث بدر شاكر السياب، عبد الرزاق عبد الواحد، الشيخ أحمد الوائلي، السيد هاشم الموسوي، السيد مصطفى جمال الدين. ومن الشعراء الشعبيّين هادي جبارة توفي سنة ٢٠٠٦، علي التلال ٢٠٠٩، السيد حيدر الحلي ١٣٠٤ه.
تنضمّ سعاد الناصر إلى هؤلاء الشعراء الحسينيّين الذين تغنّوا بالإمام الحسين واعتبروه رمزًا للثورة والمقاومة والتغيير، ونبراسًا
للحرّيّة والإباء .
تقول سعاد الناصر:
ودع حسينا فإن الركب مرتحل
وقل أيا فاجرا ويل بما فعلوا
قتلت سبطا ولا خوف ولا وجل
أبالخنا ترتقي يا أيها الثمل
والقصيدة من بحر البسيط أيضا
ومطلعها على مطلع وبحر قصيدة الأعشى الكبير
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينا
كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
(غراء /بيضاء
فرعاء /طويلة الجسم والشعر
العوارض /بياض الأسنان
الوجي /من يسير بصعوبة
الوحل /الطين
والمعنى أنها تمشي الهوينا بدلال وجمال يلفها ويسعد من يراها)
ومن الحسين عليه السلام إلى والده علي كرّم الله وجهه الذي غرس البذرة الصالحة وغرس الحب في واحدة من روائع الشعر أستمع إليها :
غرس النوى في مهجتي أشواقا
ترنو إليك فأدمت الأحداقا
ما زال اسمك يحتوي أيامنا
يهب الهناء ويزرع الأخلاقا
والقصيدة من بحر الكامل
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
هذه القصيدة الماتعة من أروع قصائد الديوان بل من أروع ما قرأت في الشعر العربي في مدح الإمام علي كرّم الله وجهه.
ومن علي رضي الله عنه وأرضاه وآل البيت إلى زينب ابنتها المقيمة كما أخبرتني في تركيا، وفراق الأولاد صعب ومدمّر للأمّ يجعلها دائمًا وأبدًا في حالة عدم استقرار نفسي وروحي.
فهي ما بين الاشتياق إليها وانتظار عودتها، كان نصّ (شوق وانتظار) من أجمل قصائد الديوان إن لم يكن أجملها.
شوقي إليك به لهيب موجع
هم ووجد في الحشى يتربّع
وقصيدتي كتبت إليك بخافقي
حتى بدت تدمي العيون وتدمع
يا زينب الشعر الدفين يشدني
عودي فقلبي من غيابك مفزع.
والبيت الأول متداخل ما بين الرجز والبسيط وصحته هكذا:
شوقي كبير والفراق لموجع
همٌ وحزنٌ بالحشا متربع
في رحاب الأمومة، الشعرُ تكتبه الدموع، حروفه دم وألم. الغياب مفزع والبعد همّ وحرقة.
“الحبّ لا يتكلّم كثيرًا” في ٧٤ قصيدة وزّعت على النحو التالي:
الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله،
حب آل البيت وأصحابه الكرام، بغداد( الوطن) الأسرة( الأم، الأب، الأولاد، الأحفاد،) المناسبات وأعياد الميلاد. وهي قليلة جدا.
تدور الشاعرة مع هذه المحاور، بين الماضي ،الحاضر العراق ما كان وما سيكون، تارة ثائر وتارة حائر، تارة تطلق النشيد وتارة تقيّده.
تذوب مع الوطن، تتجلّى في الحب فتزهر، تغرّد إذا أحبت، تزخرف الحروف، تمتطي سهيل الكلمات، تطلق للقلم العنان:
فما بعد اليوم سرّ فما في القلب في العينين بان.
سعاد الناصر امرأة راقية رضعت حبّ العراق والذي يعرف العراق والعراقيّات عن قرب يعرف مدى شموخهنّ الذي يناطح شموخ الجبال، وتمسّكهنّ بالأهل والوطن، وأنّهن كالنخيل باسقات، وصوتهنّ كصهيل الخيول إذا أحببن أحببن بقوة وعنف أحيانا وحبّهنّ لا ينتهي.
سعاد الناصر لا تعيش في الماضي ولا تبكي على الأطلال، إنّما تستحضر حبّ الحسين وتستنهض به الهمم كنوع من الدعوة للثورة على الفساد الذي استشرى في العراق، ووصل إلى كلّ مفاصل الحياة، وكان الأمل بعد رحيل حزب البعث وصدام حسين، أن يبنى العراق ولديه القدرة على ذلك بما أعطى من عقول وإمكانيّات جبّارة. من هنا تستدعي الشاعرة الحسين من جديد كأنها مع الحاضر والماضي من أجل المستقبل للعراق، وحسب الحسين أنّه حاول التغيير ورفض أن يعيش الواقع المأزوم وتفاعل معه وتمنّى مستقبلًا مزهرًا للأمة.
سعاد الناصر امرأة عربيّة تحبّ العرب وتتفاعل مع ما يحدث حولها ففي زلزال سوريا 6/2/2023 تفاعلت مع الشام لأنّها تحبّ العرب والعروبة والشام وجه العرب الحضاري الذي غاب في غفلة من الزمن.
وهي هنا لا تفرّق بين العراق وسوريا، فالعراق عربية، رغم محاولات إيران المستميتة في طيّها وإبعادها عن محيطها العربي.
سعاد الناصر في لغتها سهولة دون الدخول في مفردات يعجز القارئ عن فهمها.
وهذا إدراك من الشاعرة أنّ اللغة أداة الأدب، وأنّ جمالها في التعبير بما هو مفهوم ومتاح من مفردات تشتمل على ما بداخلها من لواعج وشجون.
أثبت سعاد الناصر أنّها تستطيع أن تعبّر بها وتنتقل مع القارئ ليفهم ما تقول ويتفاعل معها لغةً وإحساسًا ونغمًا وتجربة.
الجميع يتكلم لكن الأديب يقتنص الكلمة ويوظّفها ويُلبسها ثوب الجمال لتنطق بما يريد مجازا وإعجازا.
فالكلمة في الشعر هي الأساس ،وهي اختيارٌ شأنها شأن اللغة؛ فاللغة اختيار واللغة تعارف واللغة سياق اجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ وقدرة الشاعر في أن يأخذ من اللغة ما يتناسب أدبيا مع ما يريد أن يعبّر عنه.
وهذا هو مفهوم الكلمة في اللغة. فالكلام لا بدّ أن يفيد كما يقول ابن عقيل في (شرح ألفية ابن مالك)
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
اسم وفعل ثم حرف الكلم
والكلام المصطلح عليه عند النحاة :عبارة عن اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها.
واللفظ الصوت المكوّن من بعض الحروف)
انتهى بتصرّف.
أستمع إليها في قصيدتها (كلمة)
(ص ١٣٦ ) “الكلمة نور”
وبعض الكلمات تبقى دهور
تفرحك كلمة تحزنك كلمة
هنا في قصيدتها تناصٌّ واضح وصريح مع ماتعة ورائعة الشاعر الكبير عبد الرحمن الشرقاوي صاحب كتاب (الحسين شهيدا) و(الحسين ثائرا) التي تحولت إلى مسرحية بعد ذلك من إخراج الرائع الراحل جلال الشرقاوي، تتماهى وتتناص معه. وهذا التناص واضح وصريح وجليّ وإن كانت قصيدة عبد الرحمن الشرقاوي أمتع وأقوى، وليس ثمة وجه للمقارنة يقول عبد الرحمن الشرقاوي:
أتدري ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمه
ودخول النار على كلمة
وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة – لو تعرف حرمه – زاداً مزخور
الكلمة نور وبعض الكلمات قبور
بعض الكلمات قلاعاً شامخات يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان ما بين نبيٍ وبغي
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية إن الكلمة مسؤولية
سعاد الناصر في ديوانها جمعت بين الموروث الثقافي والإرث الحضاري والمخزون اللغوي فخرج ديوانها يتكلّم ويبدع ويحلق فوق السها بحب الوطن وآل البيت وحبّ الحياة وبثّ روح الأمل في المجتمعات العربية والشعب العراقي على وجه الخصوص.
تحية للشاعرة المبدعة سعاد الناصر ..
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي