من لبنان العريق
بلد الفن والأرز
انطلقت الدكتورة الجوهري في كلّ كتابتها من مفاهيم تنويريّة موظِّفة في تخليلاتها أدوات تحليل نقديّة أكاديميّة ارتكزت بصورة أساسيّة على خلفيّتها الألسنيّة.
درست الدكتورة عايدة الجوهري اللغة الفرنسية وآدابها، لكن اهتماماتها البحثيّة الأكاديميّة تخطّت حقل اللغة الفرنسية وآدابها لتتّخذ منحًى نقديًّا وأدبيًّا، فكان كتابها الأوّل “رمزيّة الحجاب مفاهيم ودلالات” الصادر عام 2008 عن مركز دراسات الوحدة العربية، والثاني “نوال السعداوي وعايدة الجوهري في حوار حول الذكورة والأنوثة والدين والإبداع” الصادر عام 2013 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، تلاه كتاب “القاضي والنقاب” الصادر عن الدار نفسها في العام نفسه.
كما صدر لها عام 2015 كتاب في الفكر السياسي خمل عنوان “اليسار الماهيّة والدور” تلاه عام 2019 كتاب “دروس شهرزاد”،
بالإضافة إلى مئات المقالات البحثيّة أو الصحفيّة تناولت فيها قضايا فكريّة عامّة.
وقد كان لنا معها هذا الحوار.
١_ كيف ترى عايدة الجوهري واقع الحرّيّات في العالم العربي؟ وهل تمارس هذه الحرّيّات ضمن الأطر الصحيحة؟
٢_ هل حصلت المرأة العربية على الحرية التي تنشدها والمساواة التي تطالب بها في الوطن العربي واللبناني تحديدًا؟
٣_ هل حقّقت عايدة ذاتها من خلال كتاباتها أم ما زال هناك الكثير من أفكار تطمح لتظهيرها في كتابات وإصدارات جديدة؟
٤_ ماذا تريد عايدة من القارئ أن يعرف عن الحركة اليساريّة من خلال كتابها “اليسار الماهيّة والدور”؟
٥_ مَن كان له الأثر الأكبر على عايدة الجوهري في سلوك النهج اليساري والتمسّك به؟
٦_ هل أنت مع النظام العلماني وفصل الدين عن الدولة في مسار الحكم في الدول؟ وهل هذا كفيل بإرساء الاستقرار الذي تنشده الدول وخاصة لبنان؟
بالنسبة للسؤال الأول:
إذا كان سؤالك يدور حول الحريات العامة فهي في صميمها الحريات السياسية، فأنا أقترح عدم التعميم، فلكل بلد خصوصيّاته وتجاربه، ولكنّنا نستطيع أن نصدر أحكامًا انطباعيّة مفادها أنّ الحريات السياسية معتلّة، بناءً على المعطيات التالية:
-انعدام مبدأ تداول السلطة، إلاّ فيما ندر.
-عدم الفصل الجليّ بين السلطات، وخضوع السلطة القضائية في الأغلب، للسلطة التنفيذية أو التشريعية (في لبنان تتدخل كل أحزاب السلطة في القضاء لأنّها هي من تختار وتعيّن القضاة).
-وجود سجناء رأي في العديد من البلدان العربية.
- ولاء وسائل الإعلام التقليدية، المحطات التلفزيونية، الإذاعات، والصحف للطبقة الحاكمة، وعدم ترحيبها بالأصوات المعارضة.
- ملاحقة الصحافيّين المعارضين للنظام ومحاولة كمّ أفواههم، ففي لبنان على سبيل المثال، تجري ملاحقة الصحافيين الذين يتناولون رموز النظام بالنقد والتشريح حتّى لو كانت أقوالهم صائبة ومدعومة بالأمثلة والأدلّة.
- أعمال التزوير والتضليل التي ترافق الانتخابات النيابية.
- التضييق على الأحزاب المعارضة ومحاولة تدجينها وتحجيمها أو رشوتها وابتزازها… إلى ما هنالك من مظاهر تدلّ على عدم رغبة السلطة في شيوع وإشهار الحقيقة التي يعرفها الناس، فالعلانيّة تخيف السلطات.
إنّ الحريات السياسيّة تمثّل بالنسبة لي ضرورة مجتمعيّة، لأنها تضع الشؤون العامة على بساط البحث العام، وتتيح للعقول النيّرة والمصقولة الإدلاء بدلوها، وتصويب السياسات والقرارات. إنّ الحريات السياسية ليست هدفًا بحدّ ذاتها، بقدر ما هي وسيلة للتقدم والتطور، وللإفراج عن عقول وإرادات المحكومين.
إنّ إباحة الحريّات السياسيّة والعامة، هي الشرط الأساسي لتحقيق مبدأ المواطنة، وبدون هذه الحريات يتحوّل المواطنون إلى مجرد رعايا وأتباع.
وبالنسبة للسؤال الثاني:
ما قلته عن الحريات العامة ينطبق على الحريات الشخصية، فلكل امرأة عربية من كل بلد عربيّ مشاكلها الشخصية، الخاصة، ومكتسباتها الخاصة، إن وجدت. ولكنني سأعتمد بعض المعايير للحكم على واقعها الصعب في ظل نظام ذكوري أبوي يدأب على تهميشها وإنكار حقوقها وإمكانيّاتها، سواءً بسواء.
إنّ معظم قوانين الأحوال الشخصية في العالم العربي ما زالت تعطي الرجل الامتيازات التالية:
- حقّ تعدّد الزوجات.
- حقّ الطلاق الكيفيّ.
- حقّ التحكّم في قرار الزوجة في التعليم والعمل والنشاط العامّ.
- حقّ حضانة الأولاد في سنّ صغيرة.
- حقّ الحصول على ضعف ميراث المرأة، ناهيك عن محاولات الالتفاف على القانون والاحتفاظ بكامل الميراث.
- حقّ إنكار حقوق المرأة ومساهماتها عند الطلاق، والاكتفاء بمنحها تعويض زهيد لا يسمن ولا يغني عن جوع.
ونستطيع أيضًا أن نأخذ ظاهرة الحجاب كمعيار، فانتشار الحجاب مرتبط عمومًا برغبة المجتمع بالتحكّم بحياة النساء، وفرض قوانينه ونواميسه، فمعظم الباحثين يؤكّدون على أنّ الحجاب ليس فريضة دينيّة، ولكنّ المجتمع شاء توظيفه لتحجيم دور المرأة والحيلولة دون تفرّدها واستقلالها وعيش أنوثتها.
إنّ الإيعاز بلبس الحجاب هو بحدّ ذاته نفي لحريّة المرأة الشخصيّة التي تجعلها تختار الصورة التي تريدها للظهور في المجتمع والتعامل مع جسدها.
لسنا من دعاة الابتذال ولا الفحش، ولا الإباحية لأنّ استعمال المرأة جسدها للإغواء والإغراء والإيقاع بالرجل ليس عملاً نبيلاً، ولأنّ على المرأة الاعتماد على مقوّماتها العقلية والإنسانية لإثبات وجودها. ولكن شتّان بين إلزام المرأة بلباس معيّن طوال حياتها مع مستتبعات هذا الإلزام، الشخصية والعامّة، وبين تركها تقرّر بمفردها الكيفيّة التي تريد أن تظهر بها أو تحيا بها حياتها.
وثمّة علامات أخرى على انحطاط واقع المرأة العربية من بينها زواج القاصرات، الحمل المبكر، عدم الأخذ برأي المرأة في الإنجاب وعدد الأولاد، تعرّضها للعنف الصريح، حرمانها من التعليم أو العمل، فنسبة الأميّة بين النساء في بعض البلدان العربية تتخطّى نسبتها بين الرجال، كما أنّ عدد النساء اللواتي خرجن للعمل لا يزال أدنى بكثير من عدد الرجال، بالإضافة إلى حرمانها من حقّ التّملّك، والتحايل على حقّها من ميراث الأب أو الأم، أو الأخ أو الزوج خلافًا للشرع.
وللإجابة على السؤال الثالث:
تضمّنت كتاباتي التي توزعت على مؤلفات عدّة عالجت فكرة واحدة وعلى مئات المقالات المعمّقة، قوام طروحاتي، ولكنّ رأسي ما زال يزدحم بالأفكار والمشاريع الكتابيّة التي تنتظر الوقت الكافي كي تظهر إلى العلن وتتبلور.
صدر لي حتى الآن خمسة كتب، هي على التوالي: “رمزيّة الحجاب مفاهيم ودلالات”، “القاضي والنّقاب”، “نوال السعداوي وعايدة الجوهري في حوار حول الذكورة والأنوثة والدين والإبداع”، “اليسار الماهيّة والدّور”، و “دروس شهرزاد”. ولديّ حاليًّا مخطوطتان قيد الطبع والنشر، وهما “كراهيّة النّساء” و “مفهوم الرجولة”.
لأوّل وهلة تبدو الموضوعات التي عالجتها متباعدة، وهي ليست في الصّميم كذلك لأنّ العناصر التي تجمع بينها متشابهة. فأنا معنيّة كالعديد من الكتّاب العرب بقضايا التنوير التي تخصّ الإنسان العربي، ذكرًا أم أنثى، ويستفزّني كلّ ما من شأنه إعاقة تفتّح الإنسان وتوازنه وتطوّره وإشباع رغباته وحاجاته المشروعة وإحقاق حقوقه. أنا مشدودة إلى كلّ ما يتعلّق بحقوق الإنسان الفرد وكرامته. وانطلاقًا من هذا الهاجس، أنا مأخوذة بالكثير من الموضوعات التي تصبّ في نهاية المطاف في هذا الهدف.
ولهذه الأسباب أكتب في الفكر السياسيّ كما في قضايا المرأة، أوَليست المرأة مواطنًا هي الأخرى؟ ألا ينالها ما ينال الرجل من ويلات سياسية واجتماعية؟ ألا ترنو مثله إلى العدالة والإنصاف والحق والتطور والنظام؟ ألا يضيمها مثله الجور والظلم والإستغلال والقمع؟
حاليًا أعمل على مفهوم “المواطنة” الذي هو منتج تنويري بامتياز، وعلى ارتباطه بمفاهيم “الوطن” و “الهويّة الوطنيّة” و “الإنتماء إلى الوطن”. يقوم مفهوم المواطنة على إشراك الناس إشراكًا حقيقيًا في القرار السّياسي وعلى تحويلهم إلى كائنات حقوقيّة، واحترام حقوقهم المدنيّة والسياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة والبيئيّة، وإقرار حقّهم في المساواة أمام القوانين والفرص والسياسات، بينما الأمور تجري في مجتمعاتنا على عكس هذا المنوال.
وبالنسبة للسؤال الرابع:
هدفت من خلال كتابي “اليسار الماهيّة والدور” وضع حدّ للخلط السائد بين الإيديولوجيّات اليساريّة وممارسات الأنظمة والأحزاب، ومرتكزات الفكر اليساري ومنطلقاته وأهدافه الأخيرة العابرة للعصور والمؤسسات والأشخاص، والتي لا يمكن أن ينكرها لا العقل ولا الوجدان البشريَّيْن.
تنطلق فلسفة اليسار من مبدأ المساواة الأوليّة الفطريّة بين البشر والتي تستدعي مساواتهم أمام القوانين والفرص. كما أنّها تنطلق من فكرة أنّ الإنسان صانع تاريخه وأنّ لا دور للقدر أو للقوى الغيبيّة في وضعيّته، ومصيره وصيرورته، وأنه يستطيع التأثير في التاريخ. ومن وجوب جعل التنظيمات والهيكليّات السياسيّة والاجتماعيّة مطابقة للافتراضات الأوليّة، بالإضافة إلى المقولات اليساريّة الثابتة التي تخاصم استغلال عمل الإنسان وجهوده، والأهواء الرأسماليّة الجامحة، سواءً بسواء.
يدعو الفكر اليساري إلى توزيع الخيرات وفقًا لمساهمات الإنسان، أو الأعمال التي يؤديها وينجزها لا وفقًا للصدفة أو لقانون القوة والفوضى والتسلّط والاستغلال.
في كتابي وكتاباتي عن اليسار أسلّط الضوء على هذه القيم وغيرها، والتي تؤسّس للفكر اليساري.
أماعن السؤال الخامس:
أنا نشأت في بيت خطابه يساري، ولكنّ المسألة لم تعد وراثيّة لا سيّما وأنّ القيم التي يستند إليها الفكر اليساري هي قيم إنسانيّة عالميّة لا ينكرها التاريخ ولا شرعة حقوق الإنسان الدوليّة التي تتبنّى حقوق الإنسان الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة والثقافيّة، والتي تدور حول الأفكار والمسلّمات التي ينطلق منها الفكر اليساري، ولو أنّ بعض النظريّات اليساريّة ترى أنّ تدخّل الدولة في الاقتصاد ودورها في ضبط أهواء رأس المال وتوجيهه شرّ لا بد منه، وهي في ذلك محقّة لأنّ التاريخ يثبت يومًا بعد يوم أنّ رأس المال طمّاع وأهوج، وقد يؤدّي إلى التهلكة، والدليل على ذلك ما حصل عام 2008 في الدول الغربيّة، والذي أدّى إلى أزمة اقتصاديّة عالميّة، وما يحدث في لبنان منذ أربع سنوات.
فالأزمة الإقتصاديّة اللبنانيّة ناتجة هي الأخرى عن حالة التسيّب الاقتصادي، وعن جعل الاقتصاد في خدمة النّخب السياسيّة والإقتصاديّة لا في خدمة الناس، ناهيك عن أعمال النّهب والفساد.
وللإجابة على السؤال السادس:
نعم، أنا أؤيّد الأنظمة العلمانيّة التي تجعل الدولة ومؤسّساتها وسياساتها حياديّة حيال الأديان والطوائف، والتي تجعل المؤسّسات والهيئات الدينيّة مستقلّة عنها، فلا يتلوّث الدين بالسياسة، ولا يستغل السياسيون الدين لأغراض سلطويّة وشخصيّة. لأنّ من شأن الازدواجيّة في الحكم، أن تؤدّي إلى ضياع المرجعيّات الفكريّة والسياسيّة وإلى التباسات لا حصر لها، عدا عن كون بعض الحكّام يتستّرون بالدين لإخفاء ارتكاباتهم.
مفهوم الدولة نفسه ابتكار بشريّ، والدولة انوجدت لإدارة شؤون الناس العامّة والخاصة. وتحتاج هذه الإدارة إلى إبداعات العقل البشري المتواصلة، وأحوال المجتمعات المتحوّلة والإشكاليّات التي تطرحها تتخطى الثابت والجامد والنهائي. السياسة متحوّلة والإجتماع متحوّل، والدين ثابت.
وهذا لا يعني التخلي عن قيم دينيّة جميلة وإنسانيّة، من مثل مفاهيم الرحمة والرأفة والعدالة والعدل والحلال والحرام والمغفرة، وغيرها من القيم المرغوب بها.
حاورتها من لبنان نجوى الغزال
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي