كونشرتو نشاز
(عاقل من يكتفي بالفرجة على العالم) … ريكاردو ريس
في مساء ذلك اليوم وأنت تتناول وجبتك الأخيرة، مفترشًا أرضًا وسخة دأب أهلها على العبودية والنفاق، منزويًا في ركن خرب مظلم، وجوارك دلو مليء بالبول والقيح لكنه رغم قذارته أشرف من الطبالين جميعًا، لا أحد يلقي لك بالاً أول يألوا جهدًا كي تكون لحظاتك الأخيرة في الحياة أقل معاناة، تحاول البلع ترتجع اللقمة … تسقط على بدلتك التي تغير لونها من كثرة الارتجاع عليها مرات … ومرات، لا توجد مرآة لأعرف إلى أي حد اتسخ مظهري، لكن ماذا يهم؟!، المقبل على الموت لا تهمه المظاهر، فبعد لحظات قصيرة سيتعفن هذا الجسد ويصير في مجاهل النسيان.
كنت عاشقًا للمرايا في الماضي، أقف بالساعات أمامها، أناقتي ركن من أركان الصورة البديعة التي أزرعها في مخيلة الجماهير، وفي طريقي إلى خشبة المسرح يقف الجميع في صفين، يلقون علي التحية باحترام وتقدير يوسعون لي الطريق، موكب شرف أحظى به يوميا، أسير بينهم في تيه وزهو…، وأسمع أصوات تقول: جاء النجم. نعم كنت نجمًا، نجم الفرقة الموسيقية وعازف الكمان الأول.
وفي أثناء عزفي، كنت أنظر إلى الجمهور لأرى نظرات الإعجاب والانبهار، دوي تصفيقهم لا يزال صداه يتردد في أذني، كان كونشرتو الكمان يُعرف بي وأُعرف به، ليال وحفلات عديدة والتصفيق لا ينقطع والكل يتحدث عني وعن براعتي: الصحف، والمجلات الفنية، والميديا، الكل يشيد بي وحدي، وكل الآلات الأخرى تخدمني مجرد أصوات في الخلفية، حتى المايسترو لم يذكره أحد، عصاه تقود الجميع، يرهبونه يخافون عدم اتباع إشاراته، أعينهم على عصاه في ترقب محموم، آلة واحدة تشرد أو تحاول الارتجال، لا تجد صاحبها في العرض التالي، أصبحوا روبوتات لا تملك إلا الطاعة… لم تجرؤ عصاه أن تتوجه إليَّ يومًا، دائمًا أرتجل وفي لحظة الذروة يتحول الارتجال إبداعًا ينتزع آهات الجمهور، يشعر بالصغار أمامي، غيرته التي تحولت إلى حقد دفعه إلى التنبيه علي:
بعد أن تنهي فقرتك، أشر إلى وأنت تقوم بتحية الجمهور؛ ليعرفوا أنني صاحب الفضل.
رفضت، فقرر أن يبدل الأماكن، وأجلسني في الخلف….. اعترضت، هددت بترك الفرقة، لكن من حولي أقنعوني بأنه أمر مؤقت ونوع من التغيير حتى لا يمل الجمهور وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا تنسى أن له كلمة مسموعة في الإدارة.
جلس عازفو الطبول في الأمام تصدروا المشهد، أصبح كونشرتو الطبول والآلات الإيقاعية هو السائد، كانوا يتغنون دائمًا باسم المايسترو، يتركونه وحده يتلقى التحية والإعجاب.
عزفهم نشاز، دقات طبولهم أصابتني بالصداع، راهنت على ذوق الجمهور، وأنهم لا محالة سيرفضون ذلك ويعيدونني إلى صدارة المشهد، لكن اعتراضهم لم يدم سوى حفلة أو حفلتين ومع إصرار المايسترو تواصلت الحفلات….
في إحدى الليالي قررت في أثناء العزف أن أقتحم الصف الأول للفرقة لأذكرهم بي……، صفقوا لمجرد رؤيتي أتمرد عليه، أبصرت نظرات التشجيع في أعين الزملاء، سمعت صيحات استحسان وتصفيق، وكلما خرجت على النوتة الموسيقية زاد الصياح، مما لفت نظر المايسترو إلى أنني لا أزال موجودًا، فأشار بإسدال الستار، وفي ظلام المسرح تجمع حولي عازفو الطبول والآلات الإيقاعية ليلقوا بي خارجًا والمايسترو يصيح: نشاز … أخرجوا هذا النشاز من مسرحي.
الآن وأنت تجلس منزويًا في تلك الأرض الخربة، تتذكر صوتك النشاز الخارج على نغمات الباند الحاشد الذي يمجد قزمًا عديم الكفاءة كل مؤهلاته أنه من الإدارة العليا التي تمتلك المسرح، تلك الإدارة اللعينة التي لا تسمح أبدًا لأحد من خارجها بقيادة الفرقة، أخبرت زملائي أنه لا يعلم شيئًا عن الموسيقى… لم يدرسها … لم يمارسها من قبل تلحينًا أو عزفًا…. الكل يعلم حقيقته لكن كيلا يُغلق المسرح وتتوقف المسيرة …. يرضخ الجميع.
ما النفع الذي جره عليك تمردك، صوتك الصولو وصل إلى مسامع الناس وأثر فيهم، كسبت تعاطفهم يومًا أو يومين، لكنهم يواصلون حضور الحفلات التالية، بينما تقيم وحيدًا تتناول وجبتك الأخيرة منتظرًا النهاية كل يوم. سيد غلاب
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي