سعدالله بركات يكتب :
منى الماجري من ألق تونس الإبداعي
تونس الخضرا؛ مالمحت أو سمعت شيئا عنها ،إلاّ واستعادتني عقودا وسنوات ، لأستحضر أياما ماتعة وذكريات ،بل وصداقات ، ليس من زيارة واحدة ، وإنمّا في 4 زيارات ، كانت وبحمده تعالى من محاسن الفرص والمصادفات.
كيف أنسى ! وشريط أغاني الرائعة عزيزة جلال ، مازال بحوزتي ، أستعيد منه ،،مستنيّاك ،، وأغنيات ، بل كيف أنسى ( المنستير والحمامات ) ! حين الشبابيك الزرق ،تعانق زرقة البحر والسماء ، وسط أبيض و ناصعات.
حين لفحتني نسمة من ،،نفحات القلم،، ب/حوار مع منى الماجري :شاعرة وقاصة وسينمائية تونسية/، وجدتني أتابع المتن ، لأقف على درر من جهد و موهبة ، وطموح معطاء.
كيف لاتلفتك ،مع العنوان ، ابتسامة مشرقة من صورة تنمّ عن شخصية واثقة ، و نظرة تأملية ، تنطوي على عمق تفكير و،، التأمل أو الاستغراق في الذاتية والعاطفة ، هي محاور الشعر الأساسية في اعتقادها ،،
، تقرأ لها ، فتسحرك بإجابات المختصر المفيد ،تعبيرا شفيفا ،بلا تبجّح ولا إطالات ، فكيف إذا ما تذوّقت بعض أشعارها :
(( أذهب إلى البحر
هناك تستحم روحي
ويغير القلب أثوابه
في البحر أترك كثيرا من الرخام البارد
وأعود بعهود أمان مع الشمس
اذهب إلى البحر
أبحث بين الأمواج على رفاق
أنا لن أشتاق شيئا
ستشتاقك تلك الحيطان..
ولا يبخل الموج ،أعود منه ومعي الأرض
ومعي الريح ومعي تلك السماء))
سيّدة بهذا الألق الإبداعي ،تراها تتمثل قيما يختزنها اسمها العربي القديم المميّز ، وقد ورد في القرآن الكريم ،فاسم منى له وقع جميل ، و معنى عميق محبّب، لما يأمل القلب تحقيقه…، وفي مدلولاته النفسية ، أن حاملة اسم ،،منى ،، إنسانه ذكية ونشيطة ، تحب الخير والهدوء والتعاون ، ومع كونها رومانسية ، ومرهفة الإحساس ،فهي جريئة وقادرة على تحمل مصاعب الحياة ، طموحها محمول على سعي حثيث لتحقيق أحلامها وتطوير الواقع لأفضل ، يميزها كرمها، وعونها للناس ، وفي حياة أديبتنا ، ما يشي بذلك ، حين مازجت على نحو رائع مابين التدريس والشعر ، أو حين أسست منتدى ،،الموج،، الأدبي وراحت تأخذ بيد المبدعين والمواهب ، أوحين خاضت تجربة بطولة سينمائية ، وهي شاعرة وقاصة ، بل وأكاديمية ، في رصدها ديوانان شعريان ، كما أنها بارة بوالديها على نحو تحيّتها الخاصة لروح أبيها:
“أبي
لمّا جاء أبي إلى البحر
حمل تربة الأرض في جبهته
ولون القمح في خدّه ………
في ليالي الشتاء الطويلة
كان يحدّثنا عن حقول القمح المنهوبة
ويقول ببراءة طفل فقد أمّه
أنا أعرفها جيدا تلك الأرض
بإمكاني أن أقيسها شبرا شبرا
وتبوح عيناه عن شفتيه
بأنه يتحدث عن تضاريس وجه أمّه
الذي افتك منه على طفولة
وعن ثدي أمه الذي من حليبه لم يرتو
أبي الذي اختار مواسم الشمال
بقي بيدريّ الهوى
قمحيّ السؤال ………..
ذاك الإرث ما أ عتاه…..لكأنه من جنس السرمد”
وأما أمّها ،فلا تكاد تفارقها في أحلامها ، وهاهي تتنسّم ريح صدرها :
“..وكنت اغادر حلما نادرا
جمعني بابنتي وأمي
……هيأت حقائب ابنتي
وعند الداع انسست في
لحاف أمي الصوفي
….
وقلت لها : لن اخفي عنك
أنني لا
اقدر على الغياب..
ثم عبأت صدري ..
من ريح صدرها..وطعم كسكر حليبها “
“وجهها الآخر الذي لا يعرفني” هو باكورة نتاج الماجري الشعري ، وفيه حضر الوطن بأكثر من قصيدة ، حقيقة ومجازا: “يا وطني، فينق، هذه البلاد،وطن وجندي” وفي الاخيرة تقول:
((باتت تطرز له قميص الصوف
ولما استيقظت وجدته نائما في العراء
ومهدت له فراشا حذو النجوم
عند الصباح وجدته في خرابات البناء..
جندي يطوي ركبته يهيء بندقية
والوطن في الحانة يقبل ساق عاهرة عند المساء))
،وفي نصوص الديوان ، تجتمع ترددات الشعر الروحية وخطية النثر، على ما ترى الكاتبة هيام الفريشي( **) حين قلّبت مليّا ومطوّلا ، صفحات الديوان ،وغاصت في أعماق المعاني ، ومابين السطور،فلفتها تراشق الصور على حروفها وهي تتدرّج :” بنا من الصور المألوفة والمتخيلة، إلى اللاوعي، لتبرز من خلاله أحاسيسها وحالاتها الروحية مستدرجة صورها الموغلة في الخصوصية وفرادة الخيال…
وهي تمزج أحيانا بين جمال الصورة الطبيعية، كما في نص “شجرة التين” و صورتها الحسية المتخيلة، وقد تجسدت في لوحة تشكيلية بديعة..تتماوج بين الشجرة وصورة الإنسان” على نحو ما نقرأ:
“نعم لشجرة التين عيون عسلية
وخدود خضراء، أو هي وردية
عند كل مساء… ينهل من عطرها كل ذلك الكون”
وفي قصائد هذا الديوان ، تقول الفريشي :” توقظ منى الماجري الصور الكامنة النائمة من آلية عصر السرعة، وكأننا لا نعبأ بتذوق الحياة، أو أن الجميع يشربون من كأس اللذة دون أن يمنحهم لحظات الشعر. ولا بد من تأمل مثيرات الكتابة الإبداعية، وأن ندرك على مهل التذوق وأثره على الروح [ الإبداعية ، والتقاط اللحظة الهاربة ] ،
لنقرأ مع الماجري في قصيد “قهوة العمر”:
((والقهوة شربناها على عجل…
لم نعرف، لم نعرف أبدا لذة الاحتساء
… ونحن ندافع الزحام، ضاع ضوع القهوة، وأثر سكّرها))
هاهي :” تمظهرات الروح تأخذ أشكالا متعددة ، لتعبّر عن لحظات السعادة من خلال الكتابة. وكشف الوجه اللامرئي الذي يتجسّم من خلال الصور الشعرية،، عند شاعرتنا منى، وحسب الأديبة الفريشي أيضا .
ديوان الماجري الثاني” ما رشح من شقوق الخوابي” رآه البعض بمثابة حفر الذات ورشح من شقوقها ، حيث تراوح نصوصه بين البوح الوجداني والتأملي …كينونة المرأة وعلاقتها بالآخر ،بالرجل ،بالوطن، ومن نصوصه:-
“هزيمة الصبار”
. لملم شتاتك أنا لا أنحني.. ))
كلّما تكسّر الفخار بحديقتي.. أشمت بالصبّار الكئيب
.. أشمت بالصبار عندما يلوي عنقَه ويمرّغ خدّه في التراب
فهذا يعني أنّني سأزرع تفاحة ، وأنني سأغرس نارنجة ،
وسأعقد على جيدي الياسمين،
(( وأنني سأواكب الفجر ومولد الشمس مع الحساسين
من مخزون حياتي و شعوري ثرّ، انطلقت تجربة شاعرتنا منذ حوالي اثني عشرة سنة ، كانت قصيدة كتبتها بمناسبة حصول ابنها على البكالوريا ، فحين ” تمكّنت من العودة إلى ذاتي ،إلى محاورتها ،إلى مساءلتها والعطف عليها ..، اندفع الشعر تباعا ،نصوص تدفع بأخرى دون أن أعي أنني أنجز شعرا فلم يكن ذلك لأتقصّده ،ما كان يعنيني هو الصدق صدق الشعور والفكرة وسلامة اللغة ،، كما توضح شاعرتنا .
شعر بهذه العفوية ،كيف لا يتابعه القراء أو الأدباء والنقاد باهتمام !،على نحو ما لاقاه يراعها من صدى واسع ونوعي .
لشعر ابنة تونس الخضراء ونثرها عذوبة خاصة تقول الإعلامية والشاعرة السورية منيرة أحمد وتضيف:
“رغم السحاب ورغم عاتيات الأيام ، لا تستطيع إلا أن تشرق بحضورها وكلماتها النابعة من معدن غرف وأعطى من التربية ، وتشرّب الفن ،،منى الماجري،، موج من الجمال والعطاء ، معان مشرقة ،و في نصوصها ثقة بالقادم لا تزعزعها ظروف ، متوثبة للمشاركة الوجدانية بكل ما يحيط بنا محليا وعربيا . تجد فيها تواضع الكبار وعظمة التحدي”
وما أحبّ قولها !!:
“أنا يا صديقي أحبّ أن يقول قرّائي
إنها تلميذة في مدرسة الشّعر
وإنّها تتهجّى الحروف وتبحث
عن رأس السّطر لكي تنحني
على اللوح، تخط فيه أقدار طفلة
…….
ما أجمل أن تشبهَنا حروفُنا
ما أوجع انتحال حروف
لم يخضّبها دمعنا ودمنا .
………….
على أن تجربة الماجري الشعرية محمولة على أبعاد حياتية متكاملة ، ففي عملها في التدريس على مدى 35 عاما: ،، كنت أجالس النصوص الشعرية والنثرية لأعلام الأدب ،، دون أن يأخذه التعليم من عالم الأدب بل على العكس : ،،جعلني أرافق وجوها عديدة للإبداع إلى جانب مواكبة الحركة النقدية …. خارج مربع البرامج التعليمية ما جعل درسي أشبه بورشة أو بجلسة فكرية ،،.
وفي بوح ،،منى،، تكثيف من صدق وعاطفة ورسالة :
( احتماء)
“تَحتَ الجِدارِ الأخيرِ للاحتِماءِ
مِثلَ النّاجِيَيْن الأخِيريْنِ من الغَارةِ
مثْل شحّاذيْنِ احتميا بلَيلٍ باردٍ بخيلٍ
تكَوّرْنَا مثل دودة كافكا وَتدفّأنا مثلَ
بَطلَيْ أُقصُوصةِ الدّوعَاجِي
على قبسٍ يَتّقدُ
مِن قَلْبَينَا !”
الشاعرة السورية نعمى سليمان واكبت بعض نتاج الماجري ، وعادت بخلاصة أثيرة عن مكنون يراع ،،تونسية ،،فريد ، فقالت :
((لم يسعني أن أطلع على تجربة الشاعرة منى الماجري، تابعت مقتطفا من لقاء . وقرأت بضع ما أنتجت ، أدهشتني بحضورها ، كبرياء امرأة قبل أن تكون أم ، تسبح في فلك المنطق، لتصل شطآن المعرفة، لن أقول حالمة لا ، فهي في ذهنها تصور واضح عن دور المرأة الحقيقي، وتعتبرهاى أساس كل تقدم وأساس كل تجربة غنية.
مقنعة الحضور، مثقفة، مطلعة ، ومحاورة من الطراز الرفيع
لم تتخل عن أي دور من أدوارها ، لكنّها لم تلغ نفسها و ماتحبّ ،وهي رسالة لكل امرأة أن تكون ماتريد .
مما قرأت أستطيع أن أقول بكل شفافية ، منى الماجري فيما تكتب تحمل الكلمة بعدا على القارىء الجري خلف ما ترمي وعليه الغوص في مداراتها لالتقاط جواهرها ، في دورة اكتمالها تعود لمركز الدائرة ، وهي المرأة الأم البانية التي ترضع صغارها وهي التي تقول ” كيف وهو يردّني إلى ثدي أمي “
يرتدي الحلم القصيدة، تبحث عن أناس يشبهونها ،تحلم بمن يكمل وجودها .
منى الماجري؛ تحية وكثير محبة.)).
*ولئن كان أروع ما في الإبداع ، إشعاعه القيمي والفكري ،فالأكثر روعة أن يطلقه المبدع للعامة وفي خدمة المواهب ، على نحو ما فعلت شاعرتنا ،حين ساهمت في تأسيس منتدى الموج للشعر والقصة 2022 .للاعتناء بمرافقة التجارب الشعرية والقصصية الناشئة ، وهي توضح: أن من أنشطته ورشة القصة القصيرة التي أنتجت كتابا جماعيا في القصة ، فضلا عن استضافته أسماء شعرية وقصصية وروائية متنوعة إثراء للساحة الثقافية “
*حوارها مع ،،نفحات القلم،،20\12\2023 منيرة أحمد
**موقع meo-8-5-2021، هيام الفريشي
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي