“سـادن الـغـيـب” هذا عنوان الديوان الشعري للشاعرة المترجمة اللبنانية تغريد بو مرعي
وهو يتميز بدفقة الأحوال التي يتسيّد منها شعرية قصيدة الشعر الحر ويعتمد على إنتاج البوح الشعري الإنساني في القضايا الخاصة والعامة،من دون اللجوء إلى ذهنية ترتب إيقاع الكتابة أو تنسخها أو تقلدها أو تنظمها مثل الشائع منها في قصيدة الشكل العمودي،أو في غير هذا الشكل؛ حيث تمثل هذه الكتابة الذات الشاعرة في معظمها وهي البطل الحقيقي للنص الشعري،لتقود حرية الدفقة الواحدة أو تعددها لتبدأ رسم عوالمها الشعرية باتحاد الأدوات الفاعلة من لغة وتناص ومن تعدد أدوات الكتابة.
والسرد الشعري في دفقات الأحوال المشحونة بمخزونات عناصرها الثقافية المكملة داخل الديوان،يمثل المحور الفني الأول لإنتاج نص شعري مكتمل،يجمع في بنيته وتراكيبه خبرات الشاعر وثقافته ومعايشته لواقع أحواله،فيمهرها بلغة تتجانس مع إيقاعها الخاص متفاعلة مع إيقاع هذه التواترات الحالية المجيشة بكل قوة حضور الشاعر وخبراته
لترتبط ارتباطًا كليًا أو نسبيًا بمقومات معايشتها لهذا الواقع الحالي داخل النص أو النصوص، فتستلهم شعريتها من حركية الأفعال الدالة لإنتاج ضروراتها الحالية والجمالية وفق مراسم دفقة هذا التعايش الذي يمثل الحال الخاص أو الحال المتعايش معه،كونه يمثل الهم الذي التصق بوجدان وحضور الشاعر داخل نصه الشعري.
وإذا تأملنا عنوان الديوان ” سادن الغيب” وقمنا بتشريح لفظتيه؛ حيث تمثل الكلمة الأولى فيه وهي “سادن” في معناها القاموسي ب الخادم أو الحارس، والكلمة الثانية “الغيب” في معناها اللفظي، حيث جاءت الكلمة من فعل “غاب” أي ابتعد عن أو هاجر، أو اختفى..الخ
لتمنحنا الشاعرة بعض المدلولات الأخرى في سياقها الحالي من تعدد الدال المعني داخل العنوان؛ فيتحولان من مدلول المعنى الواحد في لفظتيه إلى تعدد مدلولاته المنتجة من سياقات أحوال الجملة ” سادن الغيب”.
والجديد هنا أن حولت الشاعرة في تركيب اللفظتين من سياق حركة الفعل” غاب” في لفظة الغيب إلى إنتاج دوال ضرورية لا تخرج من كينونة المعنى الدال لكل كلمة؛ لكن لتوسعة هذه الدوال المتعددة لإنتاج الضرورة الجمالية الأخرى التي قصدتها هنا الشاعرة.
فكلمة “غيب” بالإضافة إلى معناها اللفظي؛ أرادت الشاعرة أن تمنح منها عنوان نصها سياقات دالة أخرى ترسخ حقيقة منهجية أن العنوان يحمل “عتبات النص”
لتخرج مفردة الغيب علينا بدلالات أخرى غير المعنى المجرد من تعدد داله مثل لا “تعلمون غيب السموات والأرض” أو عدم الوصول لإدراك اليقين أو ما شابه
ذلك بأن حولت هنا هذه المفردة إلى سياقات حالها داخل الجملة لتمنح احتياجات الجملة الشعرية إضافات أخرى تجعل المتلقي أو القارئ جزءًا من النص بأن ينتج لنفسه المدلولات التي تحققت لديه بحسب معايشته هو للنص وقت قراءته بما يتوافق مع أحواله هو وقد تختلف عن أحوال الشاعرة أو المتلقي الآخر،أو غيره، لتحقق للجملة هنا في العنوان فضاءات أوسع، تمنحه تحقيق هذه المنهجية التي تمنح عنوان الديوان أو عنوان نص ما،بعض الإضافات الدلالية التي تساعد القارئ أو المتلقي في استقبال النص بروافد عوالمه هو التي قد تضيف وتتماس مع معطيات عنوان الديوان هذا أو ذاك،أو عناوين القصائد داخله؛حتى تضاف إلى هذه ملامح جديدة من تعددية الدال، فيتحقق للديوان أو النص أو النصوص فيه مسارات جمالية إضافية، وقد تحقق ذلك بقوة من هذا الاختيار لعنوان الديوان.
والقصيدة عند بو مرعي،في كل الأشكال الشعرية عبر تجربتها التي طالعت معظمها وقد أجادت الكتابة فيها، وهي التي كتبت نصوصها على أنساق العمود والتفعيلة والشعر الحر،لم تخرج من منعطف ضيق قاموس اللغة، أو كان حضورها الفني غير متسق به،بحيث يكون مجرى اللغة في واد ومشحونها الحالي في آخر، أو كانت عندها اللغة تتسيد روافد حضورها داخل كل نص أو في مجمل نصوصها؛بل كان الحال هو السيد الذي يستدعي كل أدوات بنية النص لديها،من لغة وثقافة وتراث ومن بنية التراكيب التي تتوافق مع كل مشحونات الدفقة وأدوات حضورها، لتكون موهبة الكتابة وخبراتها وتعايشها الكلي داخل النص أو النصوص هو جوهر السيادة الكلية وهو ما جعل للنص حضوره المتفوق داخل الديوان وهذا يؤكد على أن الكتابة الشعرية التي تنطلق من فضاءات حرية الشاعر في كتابة قصيدته من دون فرض عوامل أخرى تستدعي حضور العقل كي ينظم له مسارات الكتابة فيضطر الشاعر أن يحذف وأن يضيف حتى يلازمه التشويش الذهني الذي يضر بمكونات الكتابة ويبعده عن هذه المعايشة.
الشاعرة أيضا استفادت من الإطلاع على الشعر العربي لاجادتها الكاملة لعلوم اللغة واتساع قاموسها،أيضًا اطلاعها على الشعر العالمي في لغاته المتعددة وهي التي تجيد التراجم من وإلى الإنجليزية، الفرنسية، البرتغالية، الإسبانية، الأيطالية بالإضافة إلى العربية،قد منحها أبعادًا جديدة من ثقافات الشعر العالمي وثقافات بيئته وجغرافيته وأنساقه الجمالية التي أضافتها لخبراتها،فتحقق لقصيدتها معطيات جمالية متفوقة،أضافت لها الكثير.
فالشاعرة هنا قد تحقق لها إنتاج تقنية السرد الشعري بصيغة الفلاش باك الذي يصل حد لغة الحكي بتعددية الضمائر في القصيدة الواحدة حتى أن قامت بعنونة القصيدة الأولى في الديوان ب “ضمير الغائب” حيث تمثل هذه الضمائر المستخدمة نقلة جمالية لم يعتد عليها الشعر العربي في شكله العمودي غير عند القليل الموهوب،لتمثل ضمائر الغائب والمتكلم الانسيابية الإيقاعية من مشحون حراك الأفعال داخل النص أو النصوص الشعرية،وكأنها القاطرة التي تقود العربات من خلفها على القضبان دون الخروج عن أنساقها الضرورية في مسارات الأحوال داخل النص لإنتاج العناصر الجمالية التي تهدف إلى الحصول عليها.
ويتشكل ديوان “سادن الغيب ” للشاعرة تغريد بو مرعي من عدة تقنيات شعرية تحقق منها الإضافة الجمالية التي توافقت في حضورها داخل مبنى القصيدة ورسمت ملامح تطورها داخل قصائد الديوان في عدة ملامح سأذكر بعضها:
_ براعة التشكيل اللغوي المتجانس مع دفقة الأحوال وعناصرها المتحدة في إنتاج دوالها وأغراضها الجمالية.
_ إجادة التصوير البصرى اعتمادًا على المشهد المرئي المتحرك فى إنتاج بكارة الصور من خلال معايشتها الحقيقة لدفقة أحوالها.
_ بساطة اللغة في ضفيرة الأفعال المتحركة التي تؤدي إلى عمق وتعددية الدال في المبنى واستخراج مكنون النفس البشرية ومقاصدها لرسم عوالم إنسانية أضافت للقصيدة عناصر جمالية إضافية.
_ إنتاج صورة شعرية تعزز حال واقع الأحداث داخل كل قصيدة اعتمادًا على تجنيس صورتها الشعرية بعوالم تعدد الدال بضفيرة فلسفية واحترافية عالية،جعلت بنيتها فى تدفق شعرى حاد.
_ بنية الأحوال داخل الديوان قد تبدو نمطية في تشكيلاتها داخل السطر الشعري لكن في منتجها تكون غير نمطية؛ فترسم عوالمها من خالص مشحون أحوالها وتفاعل الوجدان الخاص بها، الذي ينبع ويتبع منهج السرد والحكي الشعرى؛فيتعاظم نهج الكتابة لديها بسبب خبرات الكتابة لديها .
_ الإيقاع أحيانا يتداخل بين الإيقاع الخليلي في بعض أسطر القصيدة الواحدة وبين إيقاع الحال “التنغيم الداخلي” في تجانس لا يقبل الكسور لارتباطه العضوي في مجمل إيقاع القصيدة بدفقة الأحوال فيها؛ وهذا يؤكد شحنة إيقاعات البحر الخليلي الذي تعاطف مع أحوال الكتابة واتسق في بعض الأسطر مع بنية النص، وهذا التفاعل الذي يؤكد على أن الشاعرة هي ابنة إيقاع الحال في مستدعي بعض تنغيمات البحر الذي يتوافق،بل يتحد مع الإيقاع العام داخل النص الشعري.
_ رومانسية الحدث وتوافقها مع اللغة ومع بنية السطر مع فلسفية التحول من رومانسية الخيال إلى رومانسية الواقع فى تمردها على نمطية الكتابة تتشكل بخبراتها التى تنسجها بدلالات قوية في معظم قصائد الديوان.
_ إجادة رسم نهايات السطر الشعري بتحفيز على الدهشة الدرامية الواقعة بين عوالم الدفقة الشعرية وبين اختيار القاموس الشعري في بنية تراكيب القصائد.
كما أن الكتابة عند بو مرعي في ديوانها تمثل حوارًا بين الذات الفاقدة والذات الغائبة المفقودة،يكون البطل فيها ضميرا المتكلم والغائب؛فينسجان عضوية حضورهما البطل في تناغمية الاشتياق وتفاعلية اللغة المتحققة في واقعية مساراتها الفنية وبين الترنيمات الحزينة التي لم تظهر في تقريرية لغة السرد التي بدت في تواترها النفسي وأبرزتها الشاعرة في سياق جمالي كان هو منتج إنتاج الدال ومدلوله في سياقات جماليات النص الشعري.
وتتعدد الملامح الفنية في قصائد هذا الديوان “سادن الغيب” بتدفقاتها الحرة بعيدًا عن الالتزامات التي تقف في ثابتها في عمل الكتابة داخل تشكيل قصيدة العمود عند الشاعرة في أعمالها السابقة؛ لتؤكد عى أن الكتابة الشعرية عبر تشكيلاتها التي تختلف عن قصيدة العمود وهي التي أجادت فيها وتفوقت أيضًا في كتابة قصيدة التفعيلة الواحدة لتعيد لها براحات حقيقية هنا في تشكيلها الحر في هذا الديوان لتتفوق على نفسها؛فالتفرد بإنتاج الصور الشعرية التي اختلفت عن الصورة في الشكلين العمودي والتفعيلي كان مسارًا جديدًا لديها،لتصوغ براحات مستجدة على كتاباتها السابقة
وسأضع أمثلة للتأكيد على ذلك_ من “قصيدة ضمير الغائب” ، تقول:
عرجتُ بقلبي إلى حنينٍ مثقلٍ بصفائحٍ من الغربة
يتنقّل بصره بتنبّه،علّه يبلغُ بابًا أو منامًا،أو حتى نسيج عنكبوت!.
وتقول في نفس القصيدة:
رفعتُ يدياَ كشجرةٍ خضراء
رسمت الشاعرة الحنين المثقل بصفائح من غربة في جمالية مستجدة،كانت الصورة فيها رغم بساطة اللغة تميزت بمسار الفعل والفاعل والمفعول والمضاف والمضاف إليه في صيغة أحوال الجمل من دون البناء المركب واعتمدت على هذه البساطة في تراكيبها، غير أنها حولت هذه البساطة إلى مسار تقني جديد بأن أوجدت ثقل الحنين من صفائح الغربة النفسية التي تسببت من جراء هذا الاغتراب داخل الذات،وكان حضور الصورة الجديدة هي دهشة القارئ،ليكون عضوًا أساسيًا في نبض هذه الصورة التي أبرزت الغيابات لديه من بين مشحونات نفسه ولم يجد القدرة على التعبير عنها،فوجد نفسه داخل النص طرفًا وكأن النص كتب ليعبر عن أحواله هو!.
وتتوالى الصور المبتكرة المدهشة المنسوجة من اختيارات الشاعرة للقاموس الذي توفرت فيه اشتقاقات مفرداته في عدد من قصائد الديوان بدوال جديدة ودفقات حرة ومنطلقة من رحم هذه اللغة التي تمثل بيئة وثقافة وزمن الفعل أو الأفعال المتحركة بمعطيات واقعية الأحداث داخل نصوص الديوان.
وتتعدد ابتكارات الصور في مسارات دوالها،لتعانق حضورًا وزخمًا عاليًا داخل النصوص من رحم هذه اللغة المنسجمة والمتعانقة والمستدعاة من حوافر وجدانها،لتتعانق مع دوالها لانتاج المدلولات في شحنات متواترة ، ربطت بين أنساق الحال ومضامين تفاعلها داخل الديوان.
من هنا نؤكد على :
لابد للقصيدة أن تكون لها منافذ وفضاءات في اختيارات القاموس الشعري الذي ينسجم ويتوافق عبر تعدد التشكيلات التي تبنى عليها ضرورات الحال في إنتاج الدال الذي يرسم المغاير في بنيته في إطار التفصيلات التي يتحقق منها الإنتاج العام لمكونات النص لإبراز جماليات النص الذي يسعى لأن يكون مغايرًا ومختلفًا في قاموسه وفي تراكيبه وفي بنيته التي اختار لها المسار من حراك الأفعال التي يجب أن تكون في قبضة شاعرها المروض للحروف وللمسارات في بنيته الكلية؛
هذه اللغة التي تميزت في استدعاءاتها لبعض التفاصيل التي تمنح القصيدة أنساقًا، تعيد مشهد الحدث الجلل وماهيته ومن قبل حضوره ومسبباته في بنية ميسرة؛ لكنها لم تخل من عواملها الفنية عبر حضورها في استحضار واستنطاق هذه العوالم الحداثية التي يتفوق فيها البناء الكلي ولا يخدم بنيته اللغوية في مجازاتها القديمة،ليكون البناء منطلقًا من مسببات المشحون الإنساني داخل الشاعر، ويكون هذا الانطلاق بحريته دون التقيد بكتابة شكل شعري قد يوقف هذه التدفقات الحالية التي ترتبط بهذا الوجدان الشعري المشحون بتفاصيل ضروراته.
عمارة إبراهيم
شاعر وناقد مصري
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي