قراءة في خاطرة للكاتبة تغريد بو مرعي
صَومَعَةٌ أِنفِرادَيَّةٌ
بقلم الشاعر جورج عازار
تبدأ الخاطرة بكلمة دون سبب، والحقيقة أننا عندما نواجه أسباباً عديدةً ولا يمكننا التركيز على السبب الأساسي، نقول دون سبب، بدلاً من أن نقول إن هناك مليون سبب، والقول المأثور “تعددت الأسباب والموت واحد”.
في صومعتها الانفرادية، ورغم محاولتها التأكيد أن ليس هي من اختار الذهاب إلى تلك الصومعة، وإنما هناك يدٌ أُخرى غريبة قد فرضت عليها ذلك وقادتها إلى هناك وهو هنا الليل، لكنَّها تجرنا معها إلى تساؤلات لا نهاية لها من يختار من؟ هل نذهب وحدنا طواعية إلى خط النهاية أم أنَّ دوامة عواصف تقذفنا مُرغمين نحو حافة الفناء؟ بمعنى أخر هل نختاره أم هو من يختارنا؟ لا شك أنّ البعض يختار الأمر طواعية، ربما هو يشعر أن الموت يستحق أكثر أن يُعاش أو بكلمة أصح أن يُمات، والغريب وربما ليس غريبا مطلقاً أنّ العديد ممن يختار الرحيل طواعية ويقرر إيقاف عدَّاد السنوات هم من أصحاب المستويات الفكرية والثقافية العالية والرفيعة وقد يكون السبب في هذا هو حالة التخمة الفكرية، أو الشعور بالجوع إلى الكلمة السحرية أو المقدسة بعدما أضحت الكلمات العادية غير مؤثرة في خلايا الفكر، تماما مثل لعبة الإدمان كلما وصلت إلى النشوة تبحث عن المزيد والمزيد وشيئاً فشيئاً يصير كل المخدِّر بلا جدوى، فيتولد لديك ذلك الشعور بالخَواء والبحث عن عقارٍ مميزٍ وأكثر نجاعة.
ويطل سؤال جديد هل نفنى عندما نموت أم أنَّ هذا هو مُبتَدَى الآلام؟.
إنها فلسفة الألم والوجع وسيناريوهات الموت الجاهزة.
هل نخاف من الموت لأنه المجهول بالنسبة لنا أم نخاف منه لأننا نعرف آثامنا وندرك أن الحساب بلا شك سيكون عسيراً؟
لكلٍّ منا صومعته الانفرادية، ولكلٍّ منا تراتيله الخاصة التي يرنِّمها وهو في الطريق الى الجلجلة.
ولعل الشعورُّ بعدم معرفة أسباب المحاكمة، ربما في حقيقته يعود إلى عدم تمكنِّنا أصلاً من إتقان قوانين الروح وقواعد الغيب.
تسيطرُ على الشخصية فوبيا وبأشكالٍ متنوعة وهذا ما يتضح جلياً في بعض المفردات مثل الخوف، الضياع، الرعب، الفامبير، الشعوذة، وتستخدم كذلك تعابير أخرى عن التخوف والرعب النفسي من مثل كوابيس وجلسة تعذيب وغيرها.
وتتحدث الشخصية أولاً عن بدايات التحول والاحتضار، مثل تسلُّل البرودة إلى الجسد، وتناقص الاوكسجين، وحجب الرؤية، وانعدام الحواس، وعدم الشعور بأعضاء الجسد، بمعنى أخر فقدانٌ تامٌ للحواس.
ويرتبط الموت عند الشخصية بالمقولات والتعابير السائدة مثل تعابير دفن الأحبة، المقبرة، العتمة، والباب الموصد وتناقص الهواء.
إنَّه تصورٌ لمراحل الموت حينما تحل العتمة، ويبدأ دودُ الأرض بنخرِ معالمَ الجسد، فتزداد الثقوبُ وتكثرُ الدماملُ وتنتشرُ الرائحة وتتسلَّلُ البرودةُ إلى الجسدِ الذي فقد حرارتَه وغادرتَه الروح وبلا رجعة.
وفي تلك الظلمة، يدرك المرء أن الرُّوح قد فارقت الجسد، أو القشرة التي تغطيها ومضت هاربةً وتاركةً إياه وحيداً كي يواجه مصيره المحتوم، وليست الروح وحدها من فارقته فحتى الحبل السري الذي كان يربطه يوما بصِلَةِ الوصل ِإلى سبب ومعنى وجوده في الحياة وهو الأم، حينما كان مجرد جنين في رحم أمه قد صار هو الأخر في حكم المجهول.
إنها ببساطةٍ طقوس النِّهاية هنا حيث لا رجعة أبداً، حيث تغيب الأسماء، ويندثر المجد، وتضيع الهوية.
وتدرك الشخصية جلياً أن الموتَ سيتبعه حسابٌ، يجئ بناءً على عدة معطياتٍ في إطار المحاكمة حيث يجري فيها جملة إجراءات، تبدأ أولاً باعتقال الروح ثم الاتّهام، ثم التحقيق، ويرافق الأمر بالطبع أيضاً فواصل التعذيب المحضَّرة مسبقاً.
تتجمع بضعة أحاسيس لتلَّخصَ هذا الهلع من كلِّ هذا المسلسل المريع، والذي لا يقلُّ فزعاً عن أفلام الرُّعب ألمُتقنة الإنتاج، ولكنَّه في هذه المرَّة تصويرٌ واقعيٌ لا زيف فيه.
يتعالى أنين الحزن بسبب البعاد عن مظاهر الحياة، ومن فيها من أحبة وخلان، ثم يأتي الخوف من القادم من القرارات، ثم الشُّعور بالعجز والانكسار، وبأن المرء قد أضحى بلا حولٍ ولا قوةٍ، حيث يتم تشكيله بناءً على الأوامر العليا، ولذلك يأتي العجز والضياع على شكل فاتورة حساب واجبة الدفع والتسديد.
تكشف هذه الخاطرة عن الروح التشاؤمية التي يرسمها تصور النهاية، وما بين محاولة التمسك بالبقاء، وما بين حقيقة اقتراب الفناء، يدور هذا الصراع في النفس محاولاً أن يتنفس أكسير الحياة، وإن كان لبضعة أنفاس قليلةٍ ماتزال تختزنها رئتيه من أوكسجين الهواء، ولكن هيهات فالقادم أقسى ما يمكن تصوره وأبشع ما يمكن تخيله.
إذا ما فكرنا قليلاً متى ولماذا يفكر المرء بالموت؟ وبالرغم من أنه و كما يقال الحقيقة الثابتة الوحيدة التي لا تقبل الجدل، هل هو موت أولي لأبجديات الأمل؟ وهل هو فقدان للرغبة في الاستمرار؟ أم هو جوع ٌ تامٌ إلى الرَّاحة الأبدية.
تنمو كلُّ هذه الأسئلة في دواخلنا، ولكن ما أن نتيقن من أنه قد صار على بعد خطواتٍ منَّا، حتى نحاول بكلِّ ما نملك من إرادة وقوة أن نهرب بعيداً عنه، وأن نخبئَ وجوهنا كالأطفالِ حتى لا يرانا وينتقينا.
تبدأ الكاتبة خاطرتها بأن الليل قد اقتادها، وإذا ما نظرنا إلى السبب الذي دعاها الى تصوير الليل بالموت، نخلص حينها إلى جملة أمور من بينها أن العتمةَ هي المجهول وهي السَّواد وهي الخوف، وهي انقشاع وموت للضوء وهي أخر اليوم ونهايته.
ومن جهة أخرى فإن تصورات الكاتبة حول البرودة والصمت المُطبق وانعدام حركة الحياة وتوقفها، توحي لنا بالطبع بصفاتٍ مُشتركة مع ما يتصف به الموت من المعاني والإيحاءات.
أتقنت الكاتبة بمهارة وذكاء رسم خريطة الموت أو المجهول تاركةً لنا ولمخيلتنا إكمال فراغات لوحة الفسيفساء المرعبة، لكي يملأها كلُّ واحدٍ منَّا بحسب نوازعه وبوصلة أفكاره المختلفة.
خاطرة تغريد بو مرعي قبل أن تكون خاطرتها فهي خاطرة كل واحد منا وهي تعيش في ضمائرنا في كل يوم ولكننا نحاول أن نتجاهلها ونضعها في أبعد الرفوف العلوية من أدمغتنا علها تنسانا كما نتناساها، ويصيبها الزهايمر فلا تستطيع تمييز وجوهنا وأسمائنا، فنعيشُ بهدوءٍ وسلامٍ، ورغم أننا نعرف أنَّ هذا الأمر لن يكون سرمدياً وإنما فقط إلى حين.
جورج عازار
ستوكهولم 16-04-2023
صَومَعَةٌ أِنفِرادَيَّةٌ
دون سبب، اقتادني الليلُ إلى صومعتِهِ الإنفراديّةِ،وأوصَدَ بابَها بِرِتاجِ الصّمتِ.
على مدارِ الوقتِ بدأتُ أشعرُ أنّهُ يأذنُ لِعتمَتِهِ بالدّخولِ إلى الثّقوبِ التي تتكدّسُ في رأسي.
وعلى غفلةٍ،احتشدتْ في أذني كالدّماملِ المتراكمةِ فوقَ وجهِ الضّمائرِ والإنسانيّةِ.
وشيئاً فشيئاً، ضغطَتْ بِكامِلِ قواها على عينَيّ فحجبَتِ الرّؤيا ولمْ يعُدْ مُعيناً سوى أن أستمدّ القوّةَ مِن أوكسيجين الهواءِ الذي يقتسمُ حيلةَ العاجزِ في رئتيّ. مددتّ يدي، عادَتْ إليّ بِمزيدٍ مِن العتمَةِ، مختلِطةً برائحةِ الخوفِ والضّياعِ.
نسيتُ نفسي في دوّامَةِ الخوفِ،أستحضرُ صوراً مِن أفلامِ الرّعبِ والفامبيرو وخرافاتِ الشّعوذةِ ونظراتِ النّساءِ المنتحرَةِ.
أحاطني كابوسٌ شديدٌ،ألصّومعةُ أشبهُ بقطعةٍ مجريّةٍ باردةٍ،تلتفّ على عنقي.أمدّ يدي كي أنتزعَها،تعودُ يدي فارغةً،
كأنّ يدي خُلِعتْ مِنّي،
كأنّ جسدي خُلِعَ مِنّي،
كأنّي مُعتقلٌ في جلسَةِ تحقيقٍ وتعذيبٍ،لا يعرفُ فيما هوَ مُتّهمٌ،وفيما هوَ مُعذّبٌ.
كأنّي في كهفٍ مُظلمٍ،لا يربطُني ببوصلةِ الرّوحِ،ولا بالحبْلِ السّرّيّ.
في لحظةٍ ما نهشَتِ الهواجسُ عقلي،أتلفّتُ يمنةً ويسرةً كالذّبابِ اللازجِ، يتراءى لي مشهدُ احتضاري، غيابُ كلّ حواسّي،أتجمّدُ على فراقي،وأدفَنُ في مقبرَتي.
بِعشوائيّةِ الخوفِ وَتخبّطِ النّفسِ،استدركْتُ المعاناةَ.
ألحزنُ،الخوفُ،الإنكسارُ،الضّياعُ،العجزُ،الوجيعةُ،دفنُ الأحبّةِ.
أهكذا يكونُ الموتُ.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي