ياسين الغماري وزمن التعب المُزمن ورسائلها الضمنيّة. بقلم: كرم الصَّبَّاغ
استهلال
لقد رصد الباحثون، -و بخاصة اليساريون منهم- العديد من الآثار السَّلبية النَّاجمة عن هيمنة الرَّأسماليَّة على الدول النَّامية خلال العقود الثَّلاثة الأخيرة، الَّتي أعقبت انهيار الاتحاد السُّوفيتيّ في الخامس و العشرين من ديسمبر في العام ١٩٩١؛ ليدخل العالم حقبة الأحاديةالقطبية؛ تلك الحقبة الَّتي شهدت تحوُّل العديد من الدُّول النَّامية من النِّظام الاشتراكيّ إلى النِّظام الرَّأسماليّ. وأسهب الباحثون في رصد آثار هذا التَّحوُّل على الطَّبقات الدُّنيا والمتوسطة سياسيًّا، وفكريًّا، ونفسيًّا، والذي أثَّر بدوره على الفنون والآداب في ظلّ هيمنة ثقافة العولمة، والفلسفة البراجماتيَّة، وغلبة قوانين السوق، واللهاث وراء الرّبح، وطغيان القيم الماديَّة النَّفعيَّة على القيم الأخلاقيَّة،والنَّزعات الإنسانيَّة.
**العنوان كعتبة أولى للولوج إلى النص:
يحيلنا العنوان المؤلف من ثلاث كلمات “زمن التَّعب المزمن”دون مواربة إلى فكرة الألم؛ فثمَّة ذات مُتعَبة قد بلغت آلامهاالذُّروة، بيد أنّ العنوان جاء مجانيًّا خاليًا من اللُّغة المجازية، الّتي تحتمل أكثر من تأويلٍ. فأسلمتنا تلك المباشرة بجلاء ووضوح إلى ما حمله مضمون الرِّواية دون عناءٍ؛ مما أفقد العنوان شيئا من بريقه، و على كلٍّ نحن إزاء ذات مأزومة، ترزح تحت وطأة الأزمات والضُّغوط النَّفسية، و تعجز في الغالب الأعم عن صراخٍ، باتت تشتهيه أكثر من أيِّ شيء.
نقد الرأسمالية من منظور الفلسفة الماركسية:
لقد عمدت رواية “زمن التَّعب المُزمِن” إلى الكشف عنالآثار السَّلبيَّة الَّتي أفرزتها الهيمنة الرَّأسماليَّة على المجتمع، ويظهر جليًّا تأثُّر الكاتب في معالجته لأحداث الرواية بالفلسفة الماركسيّة، الّتي تدعو إلى العدالة الاجتماعيَّة من خلال التَّوزيع العادل للثروات، ومناهضة التَّقسيم الطَّبقي لأفراد المجتمع. ومن هذا المنطلق أسهب الكاتب في توجيه النَّقد اللاذع إلى النِّظام الرَّأسماليّ، كما أسهب في الكشف عن مثالبه، لكنَّه أغفل في الآن ذاته ذكر أيّ وجه مضيء وأيَّة حسنة لهذا النظام متغافلا حقيقة مفاداها أن أي نظام اقتصاديّ أو سياسيّ له إيجابياتهوسلبياته، وأن العبرة بالتَّطبيق، وبناء علي ذلك ينبغي ألَّا نغض الطّرف عن السَّلبيات الَّتي أفرزها تطبيق النظام الاشتراكي كنظامٍ شموليّ، ووجود العديد من النَّماذج الرَّأسماليَّة، الَّتي تتحلَّى بالوطنيّة والشَّرف، وأنّ برامج الحماية الاجتماعيَّة الَّتي ترتبط بالنّظام الرَّأسماليّ لو أُحسِنَ تطبيقها لقضت على الكثير من سلبيات هذا النّظام، وأن النِّظام الرَّأسماليّ قد يكون مفيدًا في جذب الاستثمارات الأجنبيَّة، والارتقاء بجودة المنتج من خلال التَّنافسيّة، وأنه لو أخلصت التَّجارب الرَّأسماليَّة في إطلاق الحريات وتطبيق الدّيمقراطية لصارت تجارب جديرة بأن يُحتذَى بها.
**في رحاب اللغة:
وعلى خلاف ما فعله الكاتب بالعنوان، جاءت لغة متن الرّواية لغة مجازية استعاريّة كثيفة في الأغلب الأعم؛ فيما عدا المقاطع التي ضمَّنها الكاتب الإحصائيات الميدانيَّة، واللُّغة المتداولة داخل بيئة البنك، أو تلك المقاطع المتعلقة بموضوع رسالة الماجستير الخاصة ببطل الرواية، الذي يُعَدُّفي الآن ذاته الراوي المشارك، وهو في الحقيقة الكاتب نفسه؛ فنحن إزاء لون من ألوان السّيرة الذاتيّة. ورغم ما نجده في لغة الكاتب من جمال ودهشة، يثيران الإعجاب،فإننا نلحظ أن تداخل الصور وامتدادها قد أثقل المتن، وحَدَّمن تدفق السّرد في كثيرٍ من المواضع. وفي اعتقادي الشَّخصيّ أنّ الكاتب قد لجأ إلى تلك اللُّغة الشاعريّة الكثيفة المزدحمة بالصور و الزخارف اللّغوية لأنّه يعتمد أكثر ما يعتمد على “المونولوج” أو الحوار الداخليّ؛ بغيةالتّعبير عن الصراع النفسيّ الدّائر بعنف داخل ذاته المثقلة بالهزائم والأوجاع، حتى في تلك اللَّحظات الَّتي اعتمد الكاتب خلالها على “الديالوج” أو الحوار الخارجي خاصة مع حبيبته “هالة” كثيرا ما كان يشرد غائصًا في أعماقه و خيالاته، وفي مثل هذه الأجواء النفسيَّة العميقة يجد الكاتب طريقه إلى اللغة الشاعريَّة، التي غالبًا ما تنداح بشكلٍلاإراديّ غير مُتكَلَّف.
إشارات نظرية:
١- بعكس التَّيارات الفلسفيَّة الَّتي ركّزت على موضوعات علم المنطق، ونظريّة المعرفة، ركّزت الأفكار الوجوديَّة على عِدّة أمور أولها الذَّات الإنسانيَّة، ومشكلات الوجود البشريّ، من حياةٍ، وموتٍ، وحريَّة، مسئوليَّة، وثانيها موضوعات علم النَّفس البشريَّة من عواطف، وأحاسيس، ومشاعر. وثالثهامبدأ الحرّيّة المطلقة لدى الإنسان؛ لبناء شخصيّته الحرّة الواعيَة، ورابعها الاهتمام بمعاني الوجود الإنسانيّ، من قلقٍ، وخوفٍ، ويأسٍ. وينبغي الإشارة إلى أنَّ الوجوديّة قُوبِلت بالنَّقد؛ كونها فلسفة تشاؤميّة، حيثُ ذكرت الحياة بصورها السَّلبيّة فقط، وتجاهلت صورها الإيجابيّة الّتي تقود الإنسان إلى التَّقدّم.
٢- لقد اصطبغت فكرة الاغتراب في مرحلة ما بعد “هيجل” بطابع الفرديّة، وارتبطت بالجانب السّلبيّ للفكرة؛ فصار يقترن بها الكثير من الأمور السّلبيَّة، الَّتي تهدد وجود الإنسان.
٣-من أشهر من جاءوا بعد “هيجل” فلاسفة و أدباء آمنوا بالوجوديّة ونَظَّروا لها، و على رأس هؤلاء يأتي “سارتر” و “سيمون دي بوفار” و “نيتشة” إلى جانب “فرانز كافكا”،الَّذي آمن بالأفكار الوجوديّة و ترجمها في رواياته عبر ثيمات ثلاث، أشار إليها د. “نجم عبد الله كاظم”، و هي بالترتيب العوالم الغريبة و اللامعقولة، ثم السُّلطة والبطل المطارد، وأخيرًا الاغتراب، وعدم الإحساس بالأمان.
ملامح وجوديَّة ورُؤية كافكاويَّة:
من خلال تلك الإشارات النظرية سنكتشف أنه يوجد قاسم مشترك بين أبطال روايات “كافكا” من ناحية، وبطل رواية “زمن التَّعب المزمن” من ناحية أخرى؛ فنحن إزاء بطل رئيس هو عينه الرَّاوي المشارك، ذلك الباحث الجامعيّ السَّاعي إلى الحصول على درجة الماجستير، والّذي يقيس بحثه مدى فعالية البرامج التي تقدمها البنوك لتحقيقالحماية الاجتماعية والبيئية. ذلك البطل الَّذي عانى من الاضطهاد، والظُّلم، ورغم حلمه بأن يحصل الآخرون علىقسط وافر من العدالة الغائبة، فإن ذلك لم يمنع اغترابه عنهم، واغترابه عن ذاته. وَلمَّا كان من شروط إتمام الدِّراسة إعداد تقرير ميدانيّ، كان لزامًا على الباحث أن يلتحق بالعمل بأحد البنوك، حتَّى يحصل على المعلومات اللَّازمة لإنهاء بحثه. الأمر، الذي أتاح له اكتشاف زيف الشِّعارات،الَّتي ترفعها الكثير من المؤسَّسات الرَّأسماليَّة، وفي القلب منها المصارف والبنوك، الَّتي تَدَّعي زورًا قيامها بدورها الاجتماعيّ على خير وجه إزاء الطَّبقات الفقيرة، و إزاء حماية البيئة. هو شابٌّ يفرط في تناول مضادات الاكتئاب،وهو فضلا عن ذلك يمتلك ذات مرهفة تتنازل عن أحلامها بالتَّدريج، ففي السَّابق تنازل صاحبها عن حلم أنْ يصبح أستاذا جامعيًّا إثر تعنُّت وغبن إداريّ وقع عليه من أحد الموظفين، فصار جُلَّ همّه أن يحصل على درجة الماجستير على نفقته الخاصة بعد ضياع حلم تعينه كمعيد في الجامعة، وهو أيضا قد أوشك أن يتنازل عن حلم أن يصبح كاتبًا روائيًّا رغم امتلاكه خمسة روايات حبيسة الأدراج بسبب عراقيل النَّشر. في حين نراه قد يئس من أن تنهض البنوك والمصارف بدورها في تحقيق العدالة و السّلام الاجتماعيّ في ظل واقع قبيح يلهث وراء الربح وجلب المزيد من الأموال إلى خزائن البنوك دون الالتفات إلى أيَّة قيمة أو معيار خلقيّ، أو شعور بأدنى مسئولية تجاه الفقراء، أو البيئة.
**زمن التعب ورسائلها الضمنيّة:
إن رواية “زمن التَّعب المزمن” تُعدُّ صرخة مدوّية في وجه النِّظام الرَّأسماليّ، ولقد حاول الكاتب أن يعري ذلك النِّظام من منظور أيديولوجيا هي أقرب إلى الماركسيّة؛ فنراه يسهبفي وصف المشكلات والآثار الوخيمة الّتي أفرزتها الرَّأسماليّة، من خلال وصفه لدهاليز “البنك” و كيف تدار اللُّعبة، مفصحًا عن الأذرع الخفيَّة لبعض الأنظمةالمصرفيّة، ومدى تورط الكثير منها في عمليات غسيل الأموال، و التجارات القذرة اللاأخلافية. و نراه يصور عبث الأنظمة الرَّأسماليَّة بكرامة الإنسان من خلال تحوُّل موظفي البنك إلى مجرد دمى، تنفذ التَّعليمات دونما نقاش. ومن خلال فضح نظرة الرّأسمالية إلى الطبقات الدُّنيا على أنهم مجرد نفايات ينبغي استغلالها إلى أقصى درجة، أو التخلص منها؛ فها هي موظفة البنك المتعجرفة لا تتردد في طرد المتسولة التي تنحدر على حد قولها من بيئة حقيرة، و ها هو رئيس البنك يرفض بشدة استقبال الفقراء ذوي الروائح الكريهة في مكتبه لمنحهم قروضا صغيرة تنتشلهم من فقرهم. وفي هذا السياق أشار الكاتب إلى مبدأ التَّسعير الَّذي تنتهجه الرَّأسماليَّة، فلكل شيء وكل شخص سعر، وبناء عليه صار جسد المرأة سلعة رائجة عند كثيرين،لا يأبهون بالقيم والمقدسات، والأعراض. كما انتقد الكاتب في روايته تغليب النَّظرة الذُّكورية، التي لا تفتأ تستخف بالمرأة؛ فتنقدها رواتب هزيلة بالمقارنة بالرجال، وتقصيها عن المناصب القياديَّة، وتحملها أخطاء رؤساء العمل كأنها كبش فداء، يحبذ السوق أن تبقى أداة مستغلة، مترديةالحال؛ توفيرًا للنفقات و تضخيمًا لأرباح ذوي النُّفوذ وأرباب العمل وأصحاب رءوس الأموال.
** ظلال كافكا و خاتمة الغماريّ:
لقد مثَّل حبُّ “هالة” زميلة العمل طوق نجاة لهذا البطل المغترب عن الاخرين و عن ذاته، لكن هذا الحلم المخملي سرعان ما يتحوّل إلى كابوس، يكشف عن أحد قوانين المجتمعات الرأسماليّة ، التي قوضت المشاعر الإنسانية من معانيها السامية، لتصبح علاقات و مشاعر هشة مبنية على مبدأ تبادل المنفعة. فالبطل يكتشف تورط رئيس البنك في عمليات غسيل الأموال، مما يعرض البطل للطرد نهائيا من البنك، فلا تتورع “هالة” عن التخلي عنه، ورفض مساعدته، والتصريح بأنها لن تتخلى عن وظيفتها من أجله، والتصريح دون خجل بأنها لا تحب، ولا تريد سوى المال، مما يسهم في مضاعفة و تعميق أزماته النفسية، الأمر الذي يدفعه إلىتناول ثمانية و عشرين قرصا من أقراص “ستيلينوكس”دفعة واحدة؛ بغية التخلص من الحياة، لكن الكاتب يمنح بطل روايته نجاة من الموت، كي يمضي في عذابه؛ فبعد خروج البطل من المستشفى يتنكر له أقاربه جميعا؛ فكأنما أراد الكاتب أن يقطع سائر الوشائج التي تربط بطله بالعالم الخارجي؛ حتَّى تكتمل فصول الاغتراب، الّذي يستحوذ عليه من بداية الرواية حتى نهايتها. ولقد ذكَّرنا الغمّاريّ من خلال المصير الذي اختاره لبطل روايته، و الذي عكسته الخاتمة القاتمة، التي وضعها بمصائر أبطال روايات “كافكا”، الذين كابدوا الاغتراب، والمطاردة، والاضطهاد بدورهم.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي