ياسين الغُماري وسيرته المضادّة في رواية الساعاتي “صانع الزمن”، قراءة الناقد عقيل هاشم
يعد الزمن محورا أساسیا في تشكيل الخطاب الروائي باعتباره من الفنون الزمنية، ففي رواية الساعاتي –صانع الزمن للروائي التونسي ياسين الغماري ، والصادرة عن دار “الدراويش للنشر والترجمة ” بـ”بلوفديف” ، بلغاريا
. حتى يتحدد ويتبلور شكل البنية الروائية معتمدا على شكل البنية الزمنية لها ويؤثر في توصيل دلالاته؛ هذا التأثير والتلازم بين البنية الزمنية والدلالية للرواية، مما يؤدي إلى فهم أعمق للنص الروائي.
اقول ولم يعد الزمن في الرواية قائما على التسلسل التعاقبية، بل اتجهت الرواية إلى انحراف السير الزمني. فبناء الحدث الروائي لا يخضع لمنطق السببية؛ لذا نرى تحولات الزمن في رواية –الساعاتي , صانع الزمن للروائي ياسين الغماري ، من اللذين الذين وظفوا الزمن بنائيا لتكسير وخرق الزمن الخطي التتابعي، والمفارقة بين زمن الحكاية والخطاب لغاياته الدلالية؛
فالزمن بحركته و انسيابه و سرعته و بطئه هو الإيقاع النابض في الرواية وهذا ما جعل الزمن من أهم العناصر الروائية إثارة لاهتمام باعتباره من أعمدة البناء الروائي ، إذ أن الفنون السردية من أكثر الفنون التصاقا بالزمن فهو يدفع بالروائي إلى التجريب. و بما أن الروائي ” ياسين الغماري” بنى روايته انطلاقا من تقنيات زمنية مختلفة تدور في كنفها أحداث الرواية .
التقنيات الزمنية تم توظيفها في رواية ” الساعاتي –صانع الزمن”بنسب متفاوتة حيث ظهرت تقنية الاسترجاع بصورة مكثفة مقارنة بالاستباق الذي لم يشغل مساحة كبيرة من الرواية . كما استخدم الروائي تقنية الحذف من أجل تسريع السرد ، و تكرار الحدث و ذلك بنسب متفاوتة . معتمد من خلال هذا على جملة من المفاتيح –استهلال- المتمثل في المقولات المقتضبة والموحية لعتبة المتن من الكتاب وشعراء وشخصيات فكرية .. فرويد-فرجينيا وولف –سيلفيابلاث- مي زيادة …الخ
وإن كان زمن الأحداث هو الزمن المسيطر و الغالب على السرد، فإن هذا الزمن هو نفسه، زمن المبنى الحكائي مع بعض الاختلاف كونه غير منتظم و مرتب كما هو في الواقع. إنه يسير وفق نسق زمني متقطع. فالراوي يروي لنا سيرته الذاتية ، ذاكرة البطل المتشظية. فهو تارة يروي عن زمن حاضر، و تارة يعود إلى زمن سابق عن زمن العائلة ليقص عن طفولته وعن علاقة أمه .
وهنا وظفت الرواية التقنيات السردية في سبيل مقاصدها الروائية والدلالية التي هي بلورة إشكالية السرد – الحداثة وجدليتهما وصراعهما واغتراب الشخصيات بسخرية لاذعة وانفصامها. فعلىمستوى المفارقات السردية (الاسترجاع والاستباق)، مما يتناسب وكون الرواية سيرة ذاتية والسيرة تمت إلى الماضي. وعمل الاستباق على التكهن بالمصائر،
(في يوم الاحد ,السابع والعشرين من نسيان من سنة ستة وثمانون وتسع مائة والف ,كان الوقت ساكنا .تركت غرفتي في وسط المبنى ,والمبنى يغص في غيوم مجاهل مدينة “نيس” الفرنسية كنت اشاهد كارثة تشرنوبل .).
لقد حرفت وخرقت التقنيات الزمنية في الرواية، ترتيب ومسار الزمن الروائي عن العمودية والخطية والتعاقبية وتلاعب السارد بها، مما انتظمها في صنف الرواية الحديثة؛ إذ إنها رواية تيار وعي، مبنية على الذاكرة والتداعي، وكانت لها دلالات سوسيوسايكولوجية. ودلاليا عكست هذه التقنيات نفسيات وشخصيات الرواية القلقة المغتربة وصراعها الداخلي والخارجي وطريقة إدراكها للزمن بصورة خاصة؛
( اذهبي الى الوطن وبلغيهم مني السلام , واستحلفها الا تخبرهم انني اعيش في هشاشة . وان الفشل حليفي واذا استملها احدهم عن اخباري فلنقل له بانها قطعت علاقتها معي بعد هذا السلام ,كيف يمكنني ان افهم فشلي المؤسف في وطني ومن للأوطان الاخرين..).
في الخطاب الروائي نجد الكاتب اجتهد الراوي حيث تلاعب بالزمن وكسر خَطِية تسلسل الأحداث ولم يلتزم بذلك الترتيب الزمني ومنع المتلقي من متابعة الأحداث بذات الترتيب الذي وقع فيه ولجأ الى تقنيات الاسترجاع بشقيه الخارجي والداخلي كما في الخروج من زمن الطفولة الى زمن الاغتراب والشباب وهناك.
أيضا استخدم الكاتب تقنية السرد الغرائبي كما هو الحال في وجوده في المصحة والمعاناة الصحية المتدهورة ,وعلى الجانب الآخر استخدم الكاتب تقنيات أخرى لتُبْطِئ من حركة السرد كما في المشاهد الحوارية والوقفات الوصفية والنص عامر بهما
(ماتبقى من العمر لايكفي للوصول الى القمة ولكن الحقيقة اليقينية .ان ماتقدمه وماتتلقاه من دعم نيسينا القمة ,المكان لايهم ولكن من يساندنا هو الاهم في خضم الياس تتلاقى اعينيا لاتخشى شيء ,بيننا تقاربا بينا علائم سرية تقل النظرات شفراتها .كنت نحيلا وشاحبا كمن انهكه علاج السرطان..)
وعند الحديث عن بنية الزمن لا يجب أن نغفل زمن الأفعال ودلالتها فاستُخْدِم المضارع للدلالة على الاستمرارية واستُخدِم الماضي في الحديث عن ذكرياتٍ واحداثٍ صارت واقعا مُستَقِرا، والتنقل من الحاضر الى الماضي لربط الحاضر بالماضي.
اجمالا، لعب الزمن دورا هاما في تطور الأحداث في الرواية ولم يلتزم الكاتب بالترتيب الطبيعي للأحداث قد مكنته باللعب بالزمن والتحكم في مسار ووتيرة سرد الأحداث فتارة يسرع بحركة السرد وأخرى ُيبطئه،
رواية «الساعتي –صانع الزمن» ترصد معاناة الانسان –الصداقة-الانسان المثقف والانسان الطموح الباحث عن فرصة نجاح وتفوق لكنه يصاب بخيبات ويشعر بالخذلان وإحساسه الحاد بانتكاسه وضياعه في هذا الوضع السريالي الموحش من معطلات كثيرة تواجه هذا العالم ويكون همه في الدراسة والبحث للبطل صانع الحكاية في كتابة وتأليف البحوث لاكمال الدراسات العليا في جامعات فرنسا موضوعها كما تشير الرواية عن ماتتركه المصانع النووية وسمومها واضرارها على البشرية مثل مفاعل “تشرنوبل” ، الذي من جراء الاجهاد في التصي والبحث ظلت الشخصية تعاني من التشوهات النفسية والعقلية والمرضية وقد اوصلته الى المصحة العقلية , حالته وكما يسميها الدكتور تيمور (اضطراب ما بعد الصدمة النفسية)،
اقول هذه الرواية تطرح كل القضايا والهموم والتجارب النفسية التي يمر الانسان العربي الطموح لحياة افضل وربما يصاب بلوثة عقلية من جراء مايرى ، ويختلط فيها البعد الاجتماعي السياسي بالبعد الميتافيزيقي واشكالية العلاقة الاسرية بين الاب والمراة “الام”بوصفها الراعية للسلم الاسري ونجاح اولادها مستقبلا.
(لم يعد يسترعي انتباهي شيئا في مدينة “نيس” من ذي قليل الى الان , سيظل الشيء الوحيد الذي في دواخلي ,في هامة المدينة الخاوية . وببسالة لم اعهدها ولن يبق من ذاكرتي ماحييت , مازلت استطعمها لاني لافتيه فيها .ستكون ذكرى مدينة “نيس” ذكراه ابديه لاتنمحي من الذاكره ..)
اما بالنسبة الى الشخصيات فقد تزخر الرواية بالشخصيات، تتخذ،ومنذ البدء، الملامح الرمزية المتعددة الملامح: الشاب الطموح .الممرضة كاثرين ,الدكتور تيمور , والدكتور توماس والشخصية الافتراضية الساعاتي –صانع الزمن .
الرواية تمتلئ بالافكار والمناقشات التي تدور عادة بين الإنسان بالوجود والكون والزمن والموت ، ويوجه السارد /المؤلف نقداً لاذعاً إلى سلوكيات «الزمن الموحش» سرعان ما تظهر وراء الكلمات ليسود سياق شعري يسم الرواية ببناء معماري واضح ما يؤكد هيمنة الحوار الخفي .
من الجدير بالملاحظة أن الفضاء الروائي في بعض الفصول أو الفقرات السردية غير محدد في زمن الحاضر، أما في زمن الذكرى فهو محدد، لكن ليس بالوضوح الكافي. ويصور لنا السارد مدينة البطل في تونس قبل الاغتراب , وكيف يحيا فيه حياة بائسة جراء الصراع العائلي بين الاب والام , وكيف كانت سلوكيات الاب وهو يعاقر الخمر ويضرب الام امام اطفالها , حيث تسود البيت اللاسكينة واللاطمأنينة. إنه فضاء قاس موحش إنه فضاء الألم والحزن والإحباط والهزيمة. مثل الزمن. يقول السارد:
(خطى ثقيلة تاتي ,باب غرفتها يتفرج على مصرعيه , انزلقت بأسرع من غمض العين ففوجئت بملابس والدتي مترهلة وشعرها مبعثر وحالتها سيئة وكحل العين يجري على خديها وشفتاها ملطختان بالأحمر .في صقيع العتمة استحكمت بها عاصفة من الضيق .اندفع ابي واندفعت معه رائحة الشرب . شدها من شعرها اما الصغير الذي كتبه..)
من أهم الظواهر الفنية التي نصادفها في «الساعاتي » هي العناية الفائقة بالوصف، فلا نكاد نجد شخصية أو شيئاً أو مكاناً في كل فصول الرواية وفقراتها السردية، إلا ويتم وصفها. ونمثل لذلك بالنماذج التالية: (الشقة- المصحة العقلية-الشوارع –شخصيةالساعاتي…الخ )
وللتاكيد على مهيمنات السرد , تُعدّ الشخصية من أهمّ العناصر في الرواية، خاصة في الدراسات الميتاسردية، حيث تأتي الشخصية بصورة خيالية أو تدخل شخصية المؤلّف في النص الروائي وتصبح إحدى شخصيات الرواية، وتحصل إشكالية في السرد، يمكن دراستها ضمن الدراسات السردية، وكثيراً ما تتكرّر الشخصيات في بعض النصوص وأحياناً، في نفس الوقت، تُمسي افتراضية وواقعية، أو يدخل نصّ داخل نصّ، حيث يقال لهذه التقنيّة الميتاسرد، وقد وظّفها الروائي في شخصية -الساعاتي – وصفه بطرق وأساليب مختلفة، وهنا يتشكّل النصّ الميتاسردي الذي يعمل دالّاً لسرد آخر. يتمّ التمييز والتطبيق بين الشخصيات علی سياق قراءة الرواية: من البداية إلی النهاية؛ لكي لا يقلّل من عنصر المفاجئة ويكون البحث مساهماً في إعطاء صورة عن غموض النصّ الميتاسردي.
يحاول الكاتب أن يتطرّق إلى الميتاشخصية، أي شخصية “الساعاتي –صانع الزمن” التي باتت افتراضية وواقعية معاً، بل خرجت من خيال بطل الرواية، ودخلت في عالمه الواقعي، مما سعى البحث إلى الميتاواقعية لشخصيات الرواية، البناء الخارجي والبناء الداخلي للنصّ الميتاسردي، والتخييل الميتاشخصي. من خلال هذه الامور الجمالية والفنية يتبيّن أنّ الميتاشخصية هي التي تؤثّر على النصّ الروائي، ليصبح كلّ النصّ، مع عناصره ماوراء السرد. وتساعد الميتاشخصية في اتّساع نطاق التخييل، بل تصل إلى حدّ التوهيم.
ومن أهم ما يميز رواية «الساعاتي –صانع الزمن» أن لغتها لغة شعرية باذخة، حيث الوصول إلى آفاقها البعيدة بالرغم من غربة الإنسان في هذا الوجود القاسي؟
(كان الساعاتي شبيهي , توامي .كان خارج الوقت الذي ادركه , انه ضابط الوقت الموعود , ماالامر ؟ كان هو نفسي انا . نظر الي الساعاتي نظرة استغراب , ماذا عني ؟ندت مني ضحكة خافته ,تقرت ذلك سلمني بعضها ..انت تتصرف كطفل . قلت ومالغريب في ذلك …)
فظهر ما يسمى بالشخصية الافتراضية، وتتصف هذه الشخصية بسلوكيات مغايرة تماما عن شخصيته الحقيقية، و تظهر هذه الشخصية في عفل البطل المهوس بالكوابيس والواقع الفعلي ،يلجا لها الكاتب الرغبة الجامحة للهروب من الواقع الحالي الصعب إلى واقع افتراضي سهل جدا، بسبب عدم قدرة الإنسان على تحقيق مواصفات تلك الشخصية في الواقع بسبب تحديات وصعوبات الواقع، فيقوم بتقمص شخصية افتراضية تعبر عن شخصية يرغب في الوصول إليها ولكنه يفقد القدرة على الوصول إليها، سواء كانت هذه الشخصية المرغوبة سلبية أو ايجابية.
من خلال هذه الشخصية – صانعة الزمن – تناقش عبر لغة سردية عدة قضايا إنسانية ، إلى جانب تركيزها على حالة التمزق والتشظي التي تعيشها الشخصية «مشكلة الإنسان أنه لا يستطيع أبدًا رؤية حياته بطريقة مختلفة». حيث يرى أن قيمة التحدي إنما تتأكد من خلال الصمود أمام تعاقب الأزمنة، والمُطالَب دومًا بالمغامرة وسط سديم يؤججه العنف وطغيان الأقوياء ورؤيته للحياة.
(الاشهر القليلة التالية بعد رحيل الساعاتي كانت ثقيلة بحزنها المطبق والتعاريج ملتهبة بشوق الصداقة اهرمنب بعاده, اخفاني ميعادنا الذي لم يات .كنا انتكاتب من شهر الى اخر , اخبرني ان حياته اصبحت افضل بكثير .عاد الى صنع الساعات والى زوجته ,تكشف لي نقطة ضعف اخذ اخذ تنخر عصبوتاتي وهو التعود .الامر الذي يخيف قلبي )
وختاما..اختار الروائي ياسين الغماري عنواناً لروايته حتى يُدخل المتلقي إلى أجواء عمله الأدبي بيسر ودهشة , بالاضافة الذي يشدّ انتباه المتلقي في هذا العمل الأدبي مجموعة من الأمور بدءاً من أسلوب السرد الذي اتبعه الروائي، إلى اللغة التي اقتربت كثيراً من الشعر في صورها البيانية، بالإضافة للموضوع الذي اختاره الروائي، والذي يتناسب مع ما يدور في عصرنا الحاضر…
وسوف نتوقف قليلاً عند وعي الكاتب نجد انه على دراية باللعبة السردية , اما الثقافة التي يتمتع بها الروائي ظهرت بوضوح ،فالروائي قد أثبت في ثنايا روايته الكثير الكثير من الأسماء الأدبية التي لها شأن في الأدب والثقافة، فلم تخلو صفحة من صفحات الرواية إلا وكان هناك قولٌ لأديب أو أديبة، فالروائي ذو ثقافة واسعة أتاحت له المجال ليوظف هذه الاسماء، براعة الروائي في رسم الشخصيات الروائية، ومن الحوار يستطيع المتلقي فهم أبعاد الشخصية المختلفة سواء كانت نفسية أو اجتماعية أو غيرها،.
وتظلّ رواية «الساعاتي –صانع الزمن » رواية فيها الكثير من التجديد، سواء في موضوعها، أو أسلوب نسجها وإخراجها، ولغتها التي امتاز بها الروائي
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي