الاغتراب بين الشّكل والمضمون
(قراءة في ديوان على رصيف الحلم للشّاعرة السّوريّة مريم كدر)
يُعَدّ النّصّ الأدبيّ على وجه العموم والشِّعر على وجه الخصوص مرآةً كاشفةً لخصوصيّة حياة الإنسان وتجربته في رحلته منذ طفولته وشبابه وحبّه وزواجه، والسّياسة والدّين والأولاد..إلخ
هو إذًا كشّافٌ لعالم الفرد والجماعة. من هذا المنطلق ندخل إلى عالم مريم كدر وديوانها المعنْوَن (على رصيف الحلم) يضمّ الدّيوان حوالي ثلاثة وثلاثين نصًّا ما بين الشّعر العموديّ والتّفعيلة. وقصيدة النّثر معظمها حول الغربة،الوطن،الأسرة،الحلم، الحبّ.
خمسة محاور أساسيّة مغلّفة داخل الأنا المستورة،الأنا المختفية التي لا تكاد تُرى؛ فالحلم كما هو واضح في العنوان (على رصيف الحلم) ضاع في الطريق، فلا الطّريق أَوصلها إلى الحُلْم المُراد تحقيقه، ولا هي وصلت إلى النّهاية، فانتهت حالتها من الاغتراب لكنّها ظلّت بين بين.
نستمع إليها في ص ٩٥:
“العمر يجري ونار البعد تكوينا
يا مَوطن السّحر إنّ الشّوق يضنينا
نذوب شوقًا لدهرٍ كان يجمعنا
بكلّ غالٍ عزيزٍ من أهالينا
يُقيم في القلب خلًّا ليس يبرحه
يعيش في النّبض يحتلّ الشّرايينا”.
ثمّ يحدث نوعٌ من استدعاء الذّكريات أو (الفلاش باك) في حالة حنين للوطن والأمّ والأب وعطفه وطلّته التي تُشبه البدر، أنّى اِلتَفَتَّ وجدته يُهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا؛ والأمّ التي لا شبيه لها في محبّتها تروي العطاش من دمعها. تقول مريم:
“أبٌ عطوفٌ كمثل البدر طلعته
ضياؤه في ظلام العمر يَهدينا
يقطّع العمر في كدّ وفي كدحٍ
وإن طلبنا نجوم الأفق يُهدينا
أمٌ ومَن مثل أمٍّ في محبّتها
إذا عطشنا بدمع العين تروينا”.
حوّلت الشّاعرة الألم والفراق اللّذين سيطرا على حياتها إلى نَغَمٍ بذكر الأب والأمّ وفي ذكرهما راحة وواحة واستراحة.
إنّ حالة الغربة يقابلها حالة الحنين ونوع من استدعاء الحلم في زمن الحلم الجميل الذي عاشته وتغذّت منه على الحبّ. والأب هو نبع الحبّ الأصيل وكأنّها تُردّد مع الشّاعر عمر كردي:
“وكتبت أَم لم أكتبِ
يبقى حنينك يا أبي
تبقى طيوفك
لا تغيب
ونورها لايختبي
وتظلّ أنت أبي
وأنت معلّمي ومؤدّبي”.
إنّ حالة الحلم في الدّيوان هي أشبه بعمليّة جراحيّة لا بدّ للإنسان منها حتّى يعود سليمًا معافًى، فكيف إذا كان المريض سبب مرضه الفراق وعلاجه في الحلم؟! من هنا نجدها تستدعي الحلم في قصيدة “ربيع في المنام” التي جاءت على لسان أب تغرّب ابنه الوحيد وصار التَّواصل بينهما عبر أسلاك الهاتف. وقد أغفى ذات يوم وهو يحدّث ابنه، فزارته في الحلم مراحل حياة ابنه جميعها، ومعروف أنّ الحلم كالشِّعر عمليّة لاوعيٍ سببُها التّفكير وإخراج العقل الباطنيّ. ما يريد الإنسان أن يقوله أو يعجز عنه في الواقع يقابله في الحلم وكأنّه نوع من التّعويض:
“توسّدت صوتك ثمّ غفوت
فصار منامي ربيعًا نضيرا
رأيتك في الحلم ملء العيون
كأنّك عدتَ رضيعًا صغيرا
تناغي بريئًا بوقت الصّباح
بهمس الشّفاه تحاكي الطّيورا”.
إنّ مأساة الاغتراب هي التي فجّرت ينابيع الشِّعر عند مريم كدر، فراق وطنها ،أحبّتها،
أهلها،تلاميذها وكأنّها فارقت روحها، فحياتها بلاحياة ونومها بلا نوم:
“وماطال نومي لأنّي صحوت
وكان منامي نزرًا يسيرا
أفقت على دمعة من لهيب
تُحرق جفني وتُذكي السَّعيرا
فرُحت أصلّي بقلبٍ وجوم
وروحي تناجي العليّ القديرا”.
إنّ مأساة الاغتراب هي محور الدّيوان، والغربة هي مريم كدر في حدّ ذاتها، غربة من نوع خاصّ، فهي ليست كغربة امرئ القيس حين أنكر عليه أبوه قول الشِّعر، ولا غربة طرفة بن العبد حين خرج عن مجتمعه وتمرّد على قيَم القبيلة، ولا غربة عنترة العبسيّ بسبب لونه ونسَبه لأمّه، ولا ذي الرّمّة بسبب مرضه العصبيّ، ولا الشّريف الرّضيّ بسبب سلالته الهاشميّة، ولاغربة أبي العلاء المعرّيّ بسبب جسده والعمى. إنّما غربة شاعرتنا هي غربة الذّات، غربة الرّوح، غربة الأنا التي ضاعت في زحام الحياة، غربة الذّات الّتي حاولت تحقيقها في بلدها، فطحنتها الحياة وأنستها نفسها وأنستها أنّها شاعرة.
الزّواج،الأولاد، التّدريس، وما أدراك ما التّدريس!
إنّ سيطرة الحياة واقتحامها لحياتها الخاصّة دون إنذار ثمّ ضياع الوطن في غفلة من الزّمن وهجوم الدّواعش وسيطرتهم على المنزل.
تحوّلت الحياة في لحظة إلى جحيم وبدلًا من البحث عن الذّات وإثباتها، تحوّلت مريم للبحث عن النّجاة والأمان، تصارع الحياة فتتفتّت الذّات وتتشظّى مثل البلَّور المكسور، وتخرج الرّوح رغم وجودها ويتلاشى الحلم ويقف على الرّصيف بين بين. لا هو وصل واتّصل، ولا هو رجع إلى داره ووطنه، حالة من الانفصال عن المجتمع والنّاس والهروب والخوف والوجع، حالة يقف أمامها علم النّفس حائرًا وعاجزًا ولن يجد لها تفسيرًا. أستمع إليها في ماتعة ورائعة من روائع الدّيوان بعنوان (الأمّ والعيد)، وكيف لمغترب أن يشعر بالعيد، وكأنّها تردّد مع المتنبّي وهو يخرج من مصر (عيد بأيّة حال عدت ياعيد):
“ختمت قلبي على جرحي وأسقامي
وحسرة لوّنت ساعات أيّامي
وحدي مع اللّيل أشكو للسّما ألمي
فيُطرق النّجم مأخوذًا بآلامي
النّاس تغفو وجفني ساهرٌ أبدًا
أقلّب الطَّرف في صحراء أوهامي
العيد يأتي وأين العيد من شجني
وكيف بالعيد يسلو خافقي الدّامي
ياعيدُ، عذرًا فقلبي بات منسحقًا
غاب الهناء وغابت شمس أحلامي”.
مريم شاعرة وناقدة ومثقّفة من طراز فريد. تحدّثتُ معها فوجدتها بحرًا لا قرار له. وليس عجيبًا ذلك على أهل سوريا ولكنّ العجيب أنّها رغم كلّ ما مرّت به فإنّها مازالت مُحِبّة للعلم والثّقافة وللأدب وللّغة العربيّة والشِّعر العربيّ الذي تحفظ منه الكثير وتستدعيه وقت الحاجة ويشهد الله أنّي رأيتها معجمًا لغويًّا وأدبيًّا على الأرض يتحرّك .
يُعتبر الشِّعر ابن بيئته كالإنسان. الشِّعر ابن الأرض ،ابن التاريخ، الجغرافيا، الاقتصاد ، السّياسة، العقيدة. وقراءة الشّعر ينبغي ألّا تكون بعيدة عن ذلك بل لا بدّ أن تكون على مستوى الفرد أو الذّات وأيضًا على مستوى الجماعة، وأن تكون القراءة المتاحة للنّاقد تنتج عن عمليّة استقصائيّة تجسّد السِّياق العامّ الّذي أنشأ النّصّ وكان سببًا في انبلاجه وانبثاقه ليجسّد لنا حياة الإنسان وليس الشّاعر فحسب، ويأخذنا إلى الحياة الّتي أخرجت النّصّ غضًّا طريًّا رقراقًا نديًّا يدور مع المتلقّي، فيَفْهَم ويعي ويتفاعل مع النّصّ وليس قابعًا في ما يُسمّى (بالإيجو) وعبادة الذّات .
إنّ الشِّعر حالة واحدة متوحّدة مع الفرد والجماعة وليست بمعزل عمّا يدور في الكون.
مريم تقرؤها ولا ترحل لأنّ شِعرها يمثّلك، وشعورها يصلك، وحنينها، وحلمها المسلوب هو حلمك المسلوب، والبيئة العربيّة واحدة وإن اختلفت بعض التّفاصيل ولله درّ شوقي: “كلّنا في الهمّ شرقٌ”.
والمفارقة أنّ أحمد شوقي أمير الشّعراء رحمه الله كان يتحدّث عن سوريا وكأنّ الحال لم يتغيّر. تغيّرت الوجوه وتغيّر المحتلّ لكنّ القمع واحد، والسّرقة والنّهب والظّلم واحد. ولم يكن شوقي رحمة الله عليه يدرك أنّ الهمّ الذي قصده سيطول ويمتدّ ويتواصل وتتحمّله الأجيال جيلًا بعد جيل، بل يتّسع ويمتدّ:
“سلام من صَبا بردى أرقّ
ودمع لايكفكف يا دمشق”
إلى أن يقول:
“نصحت ونحن مختلفون دارًا
ولكنّ كلّنا في الهمّ شرق”
وقبل شوقي قالها المتنبّي:
“مغاني الشّعبِ طيّبًا في المغاني
بمنزلة الرّبيع من الزّمان
ولكنّ الفتى العربيّ فيها
غريب الوجه واليد واللّسان
ملاعب جنّة لو سار فيها سليمان
لسار بترجمان”.
إنّ المُطالِع لديوان (على رصيف الحلم) يجد التّماسك النّصّيّ، سياق الحياة. الواقع أنتج سياقات أدبيّة؛ فالوطن هو الحبّ، هو الأسرة، هو الأولاد، هو الذّات.
الوطن هو سبب السّعادة والشّقاء ولله درّ الشّاعر الكبير محمد التّهامي:
“لا المال في هذه الدّنيا ولا الولد
بمسعد الفرد إن لم تسعد البلد”.
بداية الدّيوان كنهايته رحلة من سياقات الحياة والاغتراب. قادها القدر إلى عالم الغربة والاغتراب،
غربة الذّات والرّوح، هذه الذّات الّتي حُرِمت من الحبّ، وكان الحلم بيتها الوثير فيه يأتي الحب ومعه يدقّ الوجيب فيُسمع صوته، وساعتها الحلم يطيب.
نستمع إليها:
“في الحلم جئت وكان وجهك مشرقًا
وعلى الشّفاه يسيل خمر دنان
وأنا وأنت على جناحَيْ غيمة
ترنو إليّ بلهفة وحنان
ونطير تدفعنا الرّياح عليلة
من فوق جسرٍ ناعس الأجفان
نجتاز أرضًا كالخيال وزهرها
متنوّع الأشكال والألوان”.
ينقسم النّصّ الأدبيّأيّ نص إلى الشّكل أو البناء الخارجيّ والمضمون أو البناء الدّاخليّ. وانحازت الحداثة بدرجة كبيرة إلى الشّكليّة عند معالجتها للنّصّ كما هو الشّأن عند البينونيّة وأنصارها، وهناك من التّفكيكيّين وأصحاب نظريّة التّرقّي وعلم القراءة مَن اهتمّ بالبناء الدّاخليّ. واللّغة العربيّة ولا سيّما الأدبيّة هي لغة معانٍ ومبانٍ. واللّغة العربيّة في الأصل كما قلت سابقًا لغة أفعال لا لغة أقوال أو كلام نَحْوٍ وصَرْف وبلاغة فحسب. هَبْ أنّك قلتَ لشخص: أنا أحبّك، قلتَها بأيّ لفظ، أنا أهواك، أنا أعشقك، أنا أعبدك، إلى آخر هذه الألفاظ؛
قلتها باللّغة العربيّة أو باللّغة الإنجليزيّة i love you،
قلتها بالألمانيّة ich liebe dich… الخ، قلتها كيفما تحبّ، لكنّ ما الّذي يُثبت حبّك؟ هو الفعل، ولله درّ الإمام الشّافعيّ:
“لوكان حبّك صادقًا لأطعته
إنّ المُحبّ لِمَن يحبّ مطيع
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه
هذا مجال في القياس بديع”.
وهذا يدفعنا عند تحليل النّصّ الأدبيّ إلى أهمّيّة اللّغة وإلى أهمّيّة الشِّعر. إنّ الشِّعر فكر وإمتاع، يحمل قضيّة. هو أبو الفنون، فالفنّ إذا كان لذاته كما يقال، إلّا أنّه في بلادنا العربيّة لا يصحّ أن يكون كذلك لأنّ الفكر والفنّ بينهما تلازم. الشّعر وهو أبو الفنون يحمل التّوعية ويحمل قضيّة. والحقيقة كما يقول الفنان صلاح السّعدني: “إنّ المجتمعات العربيّة في معظمها مجتمعات أُمّيّة. فالفنّ هنا بالضّرورة له وظيفة للتَّوعية، فهو يجسّد الواقع ويضع إشارات وعلامات للتّنبيه حتّى لا يضيع المجتمع”.
والشّعر كما قلت أبو الفنون، فهو الّذي يستطيع أن يعبّر عمّا يريد، ويوظّف اللّغة عبر الآليّات المتاحة له مع قَدْر من الذّات والخصوصيّة ليصبح
غير منعزل عن المجتمع والواقع، فيصبح الشّاعر هو الصّوت النّاطق والعين الّتي ترى وتنقل وتبدع في حالة ثنائيّة هي الفنّ والواقع. ولكن في عالمنا تطفو على السّطح ثنائيّة أخرى ألا وهي السّلطة والنّصّ أو السّلطة والفنّ، وهذا هو السّبب في إرباك المشهد الشّعريّ وخروجه عن العالميّة لأنّه يفتقد الحرّيّة، وبدون الحرّيّة يصبح مشلولًا وكسيحًا لأنّ الحرّيّة هي أساس الإبداع والعمليّة الإبداعيّة كما قلت سابقًا تمرّ بثلاث مراحل هي: المزاجيّة، الحرّيّة، الثّقافة. من هنا يجد القارئ لشعر مريم كدر أنّها لا تحتاج إلى فضاءات التّأويل، ويفهم منجزها الإبداعيّ وينحاز لها كما تنحاز هي إلى الحقيقة والبساطة. فالسّياق الزّمانيّ واضح والسّياق المكانيّ حاضر وتجربة الذّات المبدعة وتجلّياتها واضحة وضوح الشّمس. وبنية النّصّ تتأرجح بين الشّكل والمضمون لتصبح اللّغة مرتكزًا لا بدّ منه، وتصبح محفّزًا لها على مواصلة الحلم رغم الخيبة والانكسار. أحيانًا
نستمع إليها في نصّها المعنْوَن (خيبة):
“سبحت نحو بحار الشّوق ظمآنا
فعاد قلبي بخمر الحزن نشوانا
بالعمر أفدي حبيبًا ساكنًا خُلدي
تهفو له الرّوح أشواقًا وتحنانا
له بقلبي مكان لا ينازعه
به على الدّهر والأيّام إنسانا
قلبي له ملعبٌ والنّبض ساحته
يا ويح قلبي من الهجران كم عانى
هو الحبيب الّذي ما مثله بشر
متوّج فوق عرش القلب سلطانا”.
إنّ المُتابِع لديوان (على رصيف الحلم) يجد أنّ الشّاعرة لديها تمسّك بالخالق جلّ وعلا، واللّجوء إليه والتّمسّك بالأخلاق والمبادئ، وهي طبيعة عربيّة أصيلة. ورغم الغربة يظلّ الحلم معلّقًا وله تجلّيات تشرق لتجعل القارئ لا يحيا طيلة النّصّ في حالة كآبة وإنّما تفتح له كوّة من الأمل.
في نصّها المعنْوَن (يازهرة العمر):
“يازهرة العمر ياحلمًا يناجينا
وينشر السِّحر لحنًا في مغانينا
أنت البلابل تشدو في مرابعنا
صداحها العذب بالأنغام يُحيينا
حبيبة القلب مثل اليوم قد ولدت
فأصبح العمر أزهارًا ونسرينا
تبارك الرّبّ ما أحلى صنائعه
في وجهك الحلو تصويرًا وتكوينا
سمّى جمالك إشراقًا تزيّنه
محاسن الخلق تعطيه العناوينا
من بين عينيك خلت الشّمس قد سطعت
فتاه قلبي بهذا الحسن مفتونا
ما أجمل الوجه نلقاه فيغمرنا
بالبشر من أجله تحلو أغانينا”…
إلى آخر هذه القصيدة الماتعة.
تحيّاتي للمبدعة السّوريّة مريم كدر وإلى مزيد من النّجاح والإبداع والتّقدّم.
الروائية العراقية ساهرة سعيد تعدّ من الأصوات الأدبية المميزة في الأدب العراقي المعاصر. تمتاز كتاباتها بالغوص في عمق التجربة الإنسانية،...
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي