دراسة غلاف ديوان (لين) للشّاعرة يقين حمد جنود (دراسة تقاربيّة)
مما لا شكّ فيه أنّ اختيار صفحة الغلاف وما تختزنه من ألوان وزركشات وإضافات من أكثر الأمور التي تشغل بال الكاتب، وتعدّ من أصعب المهام التي يقوم بها الكاتبُ أو الشّاعر أو الرّوائيّ؛ لأنّها تبعث دلالات ظاهرة أو خفيّة يرسلُها الباثّ إلى المتلقّي في سبيل شرح ما يحتويه الكتاب، أضف إل ذلك إن اختيارَ الألوان والزّخرفات لا يكون خبط عشواء، بل يكون مقصودًا وعلى القارئ الفذّ أن يبحثَ في دلالاتها ومكنوناتها وإلامَ تهدف وترمي.
صحيح أنّني زاملتُ الشّاعرةَ أربعةَ أعوامٍ في الجامعة – وأنا أتقصّد كلَّ مفردةٍ في هذه العبارة، أي أنّها لم تكنْ صديقة لأنّه لا صداقةَ بين جنسين، والأيام معها كانت فرح وسعادة ونجاح لذلك استخدمتُ مصطلح عام- إلّا أنّني لم أسألْها عن سبب اختيار ألوان الغلاف والسّمات التي فيه، وسأقوم – في حدود اطّلاعي – بتأويل ما جاء فيه ما استطعتُ إلى ذلك سبيبلا.
أوّل ما يلفتُ الانتباه ويسبّب الصّدمة عند المتلقّي اللّون الأزرق الذي يغطّي جُلَّ الصّفحة، وهو العنصر الأبرز في الإدهاش والمفاجأة، وكأنّ الشّاعرة تريد أن توصلَ رسالةً مفادها أنّ الألوان الأخرى لا تؤدّي وظيفة هذا اللّون. وكما هو مألوفٌ فإنّ اللّونَ الأزرقَ لونٌ ذكوريٌّ بحت وفق العادات والأعراف التي تحكمنا، مع العلم أنّ الكاتبةَ والتي من أجلها صيغَ هذا الدّيوان إناثٌ؛ إلّا أنّها اختارت هذا اللّون بوعيٍ منها تارةً ولا وعيٍ طورًا على سبيل التّشويق والإبحار في عالمها الدّاخليّ.
إذًا، جاء هذا اللّون مخالفًا للمعروف مغايرًا للمألوف، يشبه البحرَ المليء بالعطاء والخير الذي يقدّمه للنّاس، وما يبثّ فيهم من حياةٍ ونضارةٍ هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى يشبهُ البحر الهائج الثّائر بأمواجه، هي أمواجُ الحنينِ المتلاطمةِ إلى ابنتها الوحيدة (لين) التي تعيش بعيدةً عنها في بلد آخر، وكأنّها تقتبس من الشّاعر خليل مطران ما قاله في قصيدة المساء:
شاكٍ إلى البحر اضطراب خواطري فيجيبني برياحهِ الهوجاءِ
ثاوٍ على صخرٍ أصمَّ وليت لي قلبًا كهذه الصّخرةِ الصّماءِ
ومن جانب آخرَ ربّما تكون الشّاعرة قد تقصّدتْ هذا اللّون الذّكوريّ لتلبسه هي، وترتدي ما فيه من مسؤولياتها الطلابيّة والتّعليمية وتأمين احتياجات، فتكون بذلك أخذت دور الأبوين، وبخاصّةٍ أنّها سافرتْ وربّما تهجّرت إلى أكثر من دولة في سبيل الحصول على وظيفةٍ تسدُّ بها رمق الجوع والحاجة لابنتها ولها.
والشّيء بالشّيء يُذكَر، فإنّ من جملة الوظائف التي عملت بها الشّاعرة كانت (التّسويق) وبما أنّ الإنسان ابن بيئته كما يقول رائد علم الاجتماع ابن خلدون – أي أنّ سلوك الإنسان وثقافته ما هي إلّا امتداد لعناصر بيئته وطريقته في التّواصل والتّعاطي معها، فإنّها قد تأثّرت بهذا المجال؛ لأنّ اللّون الأزرق في علم التّسويق يدلّ على النّجاح والثّقة والاعتزاز بالنّفس، هذا النّجاح الذي لم يأتِ من فراغ، بلْ كان بعد جهدٍ ومحاولاتٍ وفشل ووقوعٍ يتبعه نهوض حتّى وصلتْ إلى رتبةٍ علميّة أكاديميّة عالية، إذ إنّها قاب قوسينِ أو أدنى من مناقشة رسالة الماجستير في الجامعة اللّبنانيّة، وكأنّها بهذا اللّون تتمثّل قولَ الشّاعرِ:
فكأنّني بالرّمحِ أضربُ قائلًا الأرضُ أرضي والزّمانُ زمانيه
ولأنّ الإنسانَ أسيرُ ما يبديه وسيّد ما يخفيه، ومن خلال معرفتي للشّاعرة فإنّها من الأشخاص المتأثّرينَ بعلم الفلسفة وعلم النّفس، وهذا اللّون بعلم النّفس يدلّ على الهدوء والثّقة والسلام، والشّاعرة قد غلبَ عليها الطّبع التي نشّات عليه فكانت أسيرةً لما أبْدَتْ، فهي هادئة كاللّيل، فيها من السّلام ما لو وُزٍّعَ على هذه الأرض لأنهى الحروب وأوقفَ المجاعاتِ وجعلَ الأرض جنّة.
والنّاظرُ إلى الغلاف الخارجيّ لديوان الشّاعرة والقصيدة المختارة، يجد أنّ الشّاعرة تبحثُ عن ذاتها في كلّ يوم وفي كلّ مكان، تبحث عن ذاتها أمام المرآة فلا تجدها إلّا في عيون لين ( هدية الإله ) تلك العينين اللّتين تشبهان السّماءَ والبحر وورود شقائق النّعمان، وربّما عينا لين الزّرقاوتين كانتا أكبر مؤثّرٍ في اخيار لون الغلاف.
ثمّ يجب الأخذ بالحسبان اللّون الأبيض سواءً من الكتابة ( عنوان الدّيوان، اسم الشّاعرة) أم من الأشعة المتساقطة من السّماء – أو كما أراها أنا أنّها أشعّة – هذه الأشّعةُ البيضاءُ التي تخترقُ ظلمات البحر العميق لتبعثَ الأمل بالحياة، وتجدّد الهمّة التي تكاد تنطفئ، وتتحدّى الصّعاب وتعلن السّلام الدّاخليّ والرّضا الذي يملأُ قلب الكاتبة تجاه كلّ المشقّات والصّعاب التي ألمّت بها، بعد أن رفضت الاستسلام وقرّرت المواجهة بكلّ بساطة ونقاء وحياديّة، وكلّ هذه الصّفات تخصّ اللّون الأبيض.
أمّ بالنّسبة إلى تلك الخطوط أو الأشّعة فرأيتُ أنّ عددها سبعٌ، وهذا الرّقم له من الدّلالات والإيحاءات الإيجابيّة ما لا يُحْصَى، فهو دليلٌ على الكمال الرّوحيّ الذي ملأ فؤاد الشّاعرة حتّى فاض على غلاف ديوانها البِكْر، كما يدلُّ أيضًا على الحظِّ وحسن الطّالع، فمَن يملكُ لين وعيون لين واتسامة لين لا يمكن أن يكونَ إلّا محظوظًا. وحتّى لا أغوصُ في الكتبِ المقدّسةِ ودلالة هذا الرّقم فيها فأُحَمّلُ التّأويل ما لا يَحْتمل، سأقولُ في الختام: إنّ ألوانَ الطّيفِ سبعةٌ جُمِعَت في هيئة لين، ونغمات السّلّمِ الموسيقيّ سبعة جُمِعَتْ في صوت لين وهذا على لسان الأمّ الشّاعرة يقين حمد جنود
محمود عبد الرّحيم المغيزل 10/ أيّار/2024
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي