النثر الفني وصدى الصمت للدكتور/ علي زين العابدين الحسيني
ناصر رمضان عبد الحميد
عضو اتحاد كتاب مصر
تفوق العرب في الشِّعر والنثر وعلومِ البلاغة والفصاحة؛ حتى بلغوا مبلغًا لا يستطيع أحدٌ الوصولَ إليه.
وعلى عكس ما يرى “الميسيو مرسين” أن النثر الفني دخيل على العرب، وأنّه جاءهم من الفرس، وهو قول خاطئ، وتابعه في ذلك الدكتور طه حسين، فإنّ العرب أتقنوا النثر كما أتقنوا الشعر جنبًا إلى جنب، فالخطابة نثر فني، وحديثهم في المسامرات والأعياد والأفراح، ولعل اشتغال الباحثين والدارسين بالشعر دون النثر أثَّر على النثر الفني، وأبعده عن مساحة النقد.
ومن أشهر أدباء النثر في العصر الجاهلي قُسُّ بن ساعدةَ الإياديّ، وخطبته الشهيرة بسوق “عُكاظ”، وكانت تدرس لنا في المرحلة الإعدادية: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج» إلى آخر هذه الخطبة الماتعة، وإن كان يغلِب عليها السجع إلا أنّها تنمُّ عن إتقان لهذا الفن.
لَبِيد بن أبي ربيعة، وأكثم بن صَيْفِيٍّ التميمي، وزهير بن جناب، ولستُ هنا في معرض الحديث عن النثر وأنواعه، وإنما هي مقدمة للولوج إلى عصرنا الحاضر، ولا يخفى على القارئ أن النثر في العصر الحاضر بلغ حدَّ الكمال، وتخلى عن السجع، وعن الموضوعات التي كانت قد تطرح في العصر الجاهلي.
من هؤلاء: طه حسين، مصطفى لطفي المنفلوطي، مصطفى صادق الرافعي، أديب أسحق، محمد عبده، رفاعة الطهطاوي، المعلم بطرس البستاني، أحمد حسن الزيات، محمد رجب البيومي، أحمد فارس الشدياق، الكواكبي، أحمد أمين، والقائمة تطول.
ينضم إلى هؤلاء الدكتور علي الحسيني، فهو امتداد لمسيرة أستاذه محمد رجب البيومي.
الدكتور علي زين العابدين الحسيني كاتب موسوعيّ، كشكول، أديب، باحث، مؤرخ، أزهري عتيق، طاف في كلّ ميدان، فترك بصمة الحب والإنسانية، وعرَّج على جميع الفنون بلحن عذب، ولغة سهلة ميسرة، سمح الطباع، لين العريكة، بديع البيان، فصيح اللسان.
صدر له:
(1) «الوجه الآخر للإنسانية»: مجموعة قصصية.
(2) «مداد النيل»: نصوص نثرية.
(3) «حديث الأموات»: تراجم.
(4) «مملكة كولابيكا»: مجموعة قصصية.
هو شعلة متقدة من البحث والإبداع، يحافظ أن يكون متواجدًا، فينشر إبداعه في كلّ مكان أتاح له ذلك بصدر رحب، دون مقابل ودون مِنَّة، ودون أن يتعالى أو يحيا في برج عاجيٍّ، إنّما هو إنسانٌ متواضع، متصالح مع نفسه، صوفيّ الطلعة بَهيُّها.
والذي يعنينا هنا الجانب الأدبي -النثر الفني- فصديقي الدكتور علي زين العابدين الحسيني بارعٌ في كتابة النثر الفني، ولا غَرو في ذلك، فهو تلميذ العالم الأديب محمد رجب البيومي، وامتداد له، محمد رجب البيومي الذي ملأ الدنيا أدبًا وعلمًا وإبداعًا.
في نصِّه المعنون «صدى الصمت»: نجد إنسانًا حائرًا، تلفه الحيرة، ويعتريه الصمت، حديثه ندم، وصمته تعب وألم، إنّه إنسان “عين” هذا العصر، الذي انتهى بفعل الرأسمالية المتوحشة، إنسان “عين” هذا العصر الذي يبحث عن الراحة والسعادة، فلا يجدهما، وهيهات له ذلك.
يقول الشاعر الكبير محمد عبد الرحمن صان الدين، في ديوانه «الإنسان في الميزان»:
راصد إنسان في عصر الهوى يمشي كئيبا
إذ يرى في كل يوم واقعًا منه عجيبا
بعد رصد الناس حينًا ينتقي منهم حبيبا
فيه أمن وائتناس إذ به يلقاه ذيبا
إن عيشًا بين ذؤبان محال أن يطيبا
إذن فما الحل؟ … الحل الصمت
الصَّمت الذي يقول عنه أديبنا: «فتشت عن الراحة والأمن النفسي؛ فلم أجد أحدهما إلا في لزوم أمرين: الصمت، والعزلة».
والصمت عزلة، والعزلة صمت، الدكتور علي صوفي، وضح لها الطريق، واكتمل له التحقيق، شهد الملكوت، واصطف خلف الرحموت، فكانت العزلة بيته، لا يخرج منها علينا إلا مبدعًا وكاتبًا، إنه عزلة فكرية مثمرة، ينظر فيها إلى الطبيعة، يقرأ الأفكار، ويَبوح لنا بالأسرار، من جوف المحار، يحلم بالجمال ويسعى إليه، يقول: «تتملكني رغبة جامحة في عزلة فكرية».
إنها الخلوة لأولياء الله الذين لا مكان لهم على سطح الكذب، والنفاق، وأمراض هذا العصر.
ثم يوضح الدكتور علي فوائد الصمت -قبل أن يسأله سائل: لماذا الصمت- فيجيب: «في أوقات الصمت تحيا العقول، فالفكرة تحمل الفكرة، والخاطر يتبع الخاطر، والمعنى يفسر المعنى». إنّها حالة صوفية نادرة تولَّدت من الصمت، والصمت خير من كلام لا يُسمع، ولا يُقدر، ولا يُفهم.
ثم يتحدث عن الروح الصامتة بأنها الروح التي تنظر فترى الكون سعيدًا، يحيا بالرضا والسرور، فتتحقق له النجاة، عهد وقسم، قطعه على نفسه أن يجدد حياته بالصمت، يلوذ به من الملمات والنائبات، أقسمت بيني وبين نفسي أن أجدد حياتي بالصمت، وماذا كانت النتيجة؟ زهت الحياة، فتح له الطريق!
في النهاية أقول لك يا صديقي: سِرْ في طريقك، واتَّكئْ على الصمت، وأخرج لنا ما بداخلك من كنوز وجمال: يجلّ عن النواظر أن تراه، ويعظم أن يكون له نظير
إذا بسط الجناح على بقاع
فإن العيش رفاف نضير
فتبتسم الحياة لكل حيّ
ويعبق في جوانبها عبير
سواء من تفيأ
ظل كوخ
ومن ضمته في النعّمى قصور
ألا ما أجمل الدنيا
وأصفى
إذا صارت بما يقضي الأمور
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي