تبئير داخلي للمكان.. البيت وفعل الأسطورة في رواية (خديعة الخديعة) للكاتب ياسين الغُماري
مؤيد عليوي
جسد البيت في رواية ” خديعة الخديعة ” مكانا مهما من المتن الروائي تتفاعل فيه الشخصيات التي صنعها وصنع أحداثها ومواقفها ياسين الغُماري ، فالمكان عنصر مهم كما يعبر ياسين النصير عنه بصورة عامة إذ كتب : (يمتلك المكان بعدا فلسفيا قلما تنبه له المبدعون، فالمكان يعني فيما يعنيه، البعد المادي للواقع، أي الحيز الذي تجري فيه لا عليه الاحداث، لذلك يقال، والقول كما اعتقد للنفري “أن المكان مؤنث” فما دام الحدث يجري فيه فهو مؤنث، بمعنى أنه مُولدٌ لفاعلية فكرية يوازي فعل الطبيعة، ويُحمل من خلاله أرادت الناس وتوجهاتهم، في ضوء ذلك لا يصبح المكان إلا رؤية مادية لتشكيل جسد القصة أو القصيدة، بل هو يشد أوصالهما ويرسي فنهما على شيء من الاصول الفلسفية) إشكالية المكان في النص الادبي ص ١٥٥؛ وقد جذب انتباهي البيت لعلاقته بأفكار واحداث ومواقف متصلة بالخرافة،في تونس من عهد بات اليوم عهدا قديما، إذا يبدأ المتن الروائي بموقف في البيت وينتهي ففيه أيضا ،وبين البداية والنهاية زخم متواصل من الأحداث أغلبها تجري
أما مصطلح تبئير داخلي للمكان/البيت : فهو تفاعل الشخصيات القصصية والروائية في البيت بما يكشف اثر البيت في ذلك التفاعل ،فقد كتبتُ هذا المصطلح واستعملته أول مرّة في كتابي” جماليات ما وراء القص في قصة “عرس الذيب”- القصة لهيام الفرشيشي من تونس- والكتاب مازال مدونة أو مخطوطة، فيما نشرته في كتابي الثاني الموسوم بـ” تبئير داخلي للمكان/البيت”، طبعة دار السكرية في مصر،2019، وفي بعض الدراسات النقدية الأدبية المنشورة في الصحف من مثل “تبئير المـكان/ زقـاق العمّة مريم في رواية زيد الشهيد ” الليلُ في نُعمائِه” في جريدة الدستور العراقية ٣٠ / ١١/ ٢٠٢٠ .
فالبيت بصورة عامة مكان اليف تنشرح فيه النفس ويعبر الإنسان عن رأيه ومشاعره وأفكاره مع من متواجد فيه من الأهل والضيوف ، وقد يتحول الى مكان غير أليف بحسب تفاعل الشخصيات فيه وفلسفتهم الناظرة إلى الوجود.. أما في رواية “خديعة الخديعة” التي تبدأ بالبيت الريفي من خلال تفاعل شخصية ،، رنين ،، في المطبخ بأسلوب الراوي وهو يجسد حركة مشاعرها مع اواني الطبخ وهواجسها في تفاعل خوفها ممن يطرق باب دار اهلها الريفي تفاعلا يتضح سببه فيما بعد أن الصراع مع التقاليد والعادات الاجتماعية، كانت مبينة على الخرافة والخوف من الحقيقة حقيقة حق الحياة بلاخوف من أية شيء ، وقد سربها من سربها إلى عقول تحت عنوان الأعراف والتقاليد وميثولوجيا علنية كأنها حقيقة جسدت قيم الماضي في بيت اهلها وبيت زوجها ، فصارت ،،رنين ،، تحمل هواجس الخوف ممن يطرق باب دارهم في الريف فقد كانت امها تلومها عندما فتحت الباب وتحدثت إلى عابر سبيل طرق بابهم طلبا للمساعدة في سيارته التي تعطلت، ولم تدخله بل إجابته عند عتبة الباب وذهب، هذا التفاعل في داخل شخصية ،،رنين ،، والخوف ممن تسميهم بالغرباء ولوم امها لها كأنها فعلت فعلة يعطي تفاعلا يدل على سلطة خوف ،،رنين ،، قيد المتن الروائي ، فلم يعد البيت اليفا بسبب خرافات شاعات في المجتمع ومنه البيت بوصفه مكانا يسور كل أسرة بأمان هكذا يفترض ولكن البيت في رواية “خديعة الخديعة ” كانت جدرانها تحمي البشر من الحيوانات في الغابة القريبة ،ولم تحمي عقولهم من الخرافة التي تسمى تقاليد ، لذا نجد التفاعل في البيت في المتن الروائي بين العقل والعاطفة الإنسانية وبين موروث الخرافة وسلطتها التي جسدتها ،، ريماس،، في بيت الزوج الذي اسمه ،،وزير،،في المدينة فيما بعد، إذ حوار ،،رنين ،، في بيت جارتها ،،ريماس ،، وحديثها عن ضيفهم الغريب الذي جاء به والدها ثم أصبح زوجها وانجبت منه طفلان..،كان هذا الحديث والحوار نقطة تحول في شخصية ،،رنين ،، باتجاه رفض الخرافة ورفض نظامها النفسي في داخلها فبدأ الفصل الثاني من الرواية عن تحذير ،،رنين ،،له من المرأة الساحرة التي تسكن الغابة وتقتل الرجال وهي تحكي لجارتها هذا ، يكشف هذا الحوار مدى تفاعل ،، رنين ،، بالضد من قول الخرافة الأسطورة بطريقة غير مباشرة تعرفها جارتها ،،ريماس،، التي تؤمن بتلك الميثولوجيا ،وقد جاء السارد بأسلوب الراوي بعاطفة ،،رنين ،، عن ضيفهم في تبئير داخلي لشخصيتها بحسب جينيت :(واذا بها تشتاق إليه شوقا مؤلما، هذا الرجل لا يمكن الاستهانة به ،وما كان تفرط به كذلك ، في الريف لا يشعر المرء بالحرية ، لا ينبغي أن تفجر ما بداخلها بالصورة التي عليها ، كما يبدو الأمر مخزيا،
«هل حذّرته من أولئك الّذين لا نتحدّث عنهم؟»
«أعتقد أنّه من الصّنف الّذي لا يأخذ بالنّصيحة»
«لعّله في عداد الموتى الآن»
تنكسف “رنين”. وتحمرّ كبطيخة مفلوقة.«يكفي عن قول هذا»
«لعلّه سلّال القلوب أيّتها البلهاء»
«كلّا، لا أعتقد»
وفي الإجمال، زعم السيّد “وزير” أنّها خُرافة ضاربة في القدم. شخرت جارتها كالخنزير المُدلّل «أمزح» وقد كان مزاجها مُلائمًا للهزل على الدوام.)
فيما يكون البيت عند رنين مع زوجها ،،وزير،، وطفليهما ،، محطة صراع نفسي داخلي في شخصية،، رنين،، من خلال توظيف ياسين الغماري لتيار الوعي والحالة النفسية وكذلك توظيف الأسطورة الشعبية في صراع وتفاعل رنين في البيت بيت الزوجية لم يكن تفاعلا عاديا بل كان تفاعلا قويا خاصة من خلال تيار الوعي كذلك يتجسد هذا التفاعل والصراع النفسي لرنين في خوفها مع موجودات البيت : حتى ينتهي ( كان لهذا الحادث وقعٌ مُضطرب عليهم. في ذلك الصّباح مضت “رنين” إلى متجر الغذاء. الطعام لا يكفيهم زادَ ثلاثة أيّام. كان التفكير مصدرًا لا ينضب من الأحزان العُظمى. قُعودها في هذا البيت كفّارة لأخطاء لم تأتِ عليها. استحال جسدها حُطامًا. بحثت عن أدنى سانحة للتلهّي لأنّ شُعورها بالفجيعة يُلقي بها في زوابع مُحلّقة. كأنّها حُفرة مُضطربة. كان الجو عاصفًا والسّماء كالحة الظلمة. يتعقّبها كل صباح شخص ما سيْرًا على الأقدام أ ليتأكّد من أنّها ستكون على أتمّ ما يُرام؟ زحف رأسها في تفكير عميق وتساءلت عمّا قاله لها مُحبّ الترصّد عن مُقارنة النظام ببئر برهوت. أي شخص يريد أن يعرف أدنى أسراره سيتعرّض للهُجوم بالموت. ماء الحنفيّة الّذي يتخلّله روائح المجاري يغلي وكانت الجدة تقطع البطاطس إلى قطع صغيرة متى جاءها مُحبّ الترصّد من الخلف. غطّس لها الرأس في الماء المغلي وأعاد مشبك شعرها المُتساقط. بدا وحشيًا بشكلٍ لا يُصدّق. دفعته الجدّة تتلوّى. انتفخ وجهها مُشوّهًا كالقروح. اقتنص مُحبّ الترصّد السانحة وأشعل النّار في المطبخ. «أما كنتِ تحبين حرقي أيّتها الحيزبون» أطبق الباب عليها وغادر مُتعجّلًا البيت. انتقلت همجيّة النّار وغطيطها إلى الجدّة. اختلج لهب ملسوع يهزّها ويلطخها. تستعر ألسنة اللهب المُتماوجة وباقات شررها في جلبابها. الحريق يلتهمها. تتحوّل إلى جسد يُشبه الظلام. تضخّمت صرخة تُذيع الموت. سقطت الجدة تتفلطح على الأرض. ترتعش لاإراديّا كالديك المذبوح. ثمّ صارت فاقدة الوجود. ولّت “رنين” عائدة إلى البيت وكان الدخّان يتسرّب كأعمدة تتشابك. فتحت باب المطبخ عنوة فلاقتها النيران المُضطرمة ضارية بأنوارها البرّاقة والمبهرة. وقد بنّجت الفجيعة أقدامها. استكانت عاجزة قُبالة مشهد احتراق الجدّة غير أنّها سُرعان ما وجدت نفسها مدفوعة بأيدٍ خفيّة إلى زوبعة اللهب المُقوّسة. تتشعث في اتّجاهات مُتفرّعة. ينبعث زعيق مُفجع لا طريق له. عَلت ابتسامة “ريماس” تتجسّم إلى أفعى جَائِشة تطرح السمّ في وجه من يقف في واجهتها. تصفعها بأعين حاقدة وناقمة. شخرت كالخنزير المُدلّل. تكتفي بتدبيج الكلمات الساقطة. ما كان يجعلها تتربّع في عوالم الرصد والخديعة دون هذا المُكر. لم يلبث اللهب المُهتاج بألوانه المُتراقصة ودهاليزه أن شرّع فمه وبُؤبؤه أثناء مُعانقتها وبدأ يأكل كل بوصة من جسدها حتّى أصبح يتأجّج ويعلو كوحش أسطوري يزرد الحياة وما يتّصل بها. تستحيل مَتعة من متع كهوف جلّادي المدينة. سحابة العقاب الحزينة تعبقُ. شيئًا خسيسًا مُفجعًا لم، وساديًّا يغرس صواعقه حدّ عتمة الموت.)
بهذه الأسطورة الأدبية التي وظفها الغُماري مفاهيم شعبية وربما اساطير مروية قديما تنتهي حياة ،،رنين ،، وصراعها مع مفاهيم الخرافة التي زرعتها في عقلها جارتها،،ريماس ،، والتي ترأت لها في نهاية الرواية بما يشير إلى أفكارها وكلامها، كما أن زوج ،،رنين ،، السيد ،،وزير،، كان له دور في حالتها النفسية بسبب بحثه عن بنات الليل في فندقه، بمعنى إهمالها في البيت وفي خروجها مع طفليه في المدينة إلى حدائق عامة أو على الشاطئ لم يفارقها هاجس الخوف من الغرباء كان داخلها متفاعلا بقول ،،ريماس،، الخرافة بعينها لذلك نجد هذا الفن الادبي يصور مواقفا ربما خيالية كما كتب الروائي ياسين العماري في المقدمة ، أو ربما حدثت بالفعل مع أناس لا نعرفهم ولا يستطيعون البوح بها لأنهم تجاوزوها ولم يصلوا على مرحلة ،،رنين،، ففي هذا التفاعل القوي لها عبر صفحات الرواية لا يمكن نقله كله هنا بل نقول إن ( الفن هو اثراء لخصوبة الحياة، ونوع من المناقشة بين أنواع الدهشة التي تنبه وعينا وتمنعه من الخدر) باشلار ، جماليات المكان ، ص ٢٩ ،
أما مايميز هذا الفن فهو توظيف اللغة المعبرة عن هذا تفاعل ،رنين ،،وغيرها من الشخصيات ،حيث أدت اللغة وظيفة إبداعية في تصوير المشاعر للشخصيات وأفكارهم في المكان بصورة عامة ومنه البيت بوصفه مكانا فيه قصدية البحث والدراسة النقدية ها هنا ، وفي النماذج المقتبسة من المتن الروائي ما يحقق الوظيفة الإبداعية غير المسبوقة وفيها بصمة تشير إلى رواية ،، خديعة الخديعة ،،
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي