الشاعر الأردني د.راشد عيسى لأزهار الحرف:
بالشعر، أمحو بقع الحزن عن جدران روحي
*حاوره الإعلامي سعدالله بركات
شاعر وأكاديمي ، عركته الحياة وجبلته عصاميا ، في تحديه صعابها ، وراح يبحر في علم الثقافة مبدعا وناقدا ، فقد تميز راشد عيسى ببراعته في اختيار مفردات شعره، بطريقة مختلفة عن مفردات الشعر المستخدمة على ما يقول النقاد . فيما قال عن نفسه ” أكتب القصيدة أولا لأعيش الحياة فيها .
ولذا رآه الأديب محمد العامري :” شاعرا يقضي يومه في اصطياد الحياة في الشعر ذاته ولا شيء غير الشعر، إلى جانب اجتهاداته في توليد المفردة الشعرية وإعادة انتاج اليومي المهمل ليأخذا تاريخا جديدا في القصيدة.
أهلا بأعزائنا القراء ومعا نرحب بك أستاذ راشد ،و أنت تطل علينا من ربوع الأردن الشقيق ؟
بداية أجمل الشكران لمجلة ،، أزهار الحرف ،، الغراء التي أصبحت موئلًا أدبيًّا للقلوب المتضررة بالجفاف العاطفي، كما أعلن شكري لك صديق سعد زميل فكر وقلم أنجبته سوسنة برية على كتف بادية حمص.
كيف تقدم نفسك للقراء الأعزاء؟
أنا كائن حي ولدت في مغارة بين ضلوع الجبل الشمالي في نابلس عام 1951م، رفض أبي لحظة ولادتي أن يؤذن في أذني، وإنما عزف بشبابته ميجنا وعتابا [يلعن أبوكِ ما احسنك يا بلادنا]. نشأتُ في بيئة برية بامتياز فآخيت الحشائش والحجارة والحشرات. هذه البيئة سمحت لي أن أن أتبرأ من عبودية الزمن والمكان والفكر الجاهز وأخلاق المدن وما يسمى بالمستقبل ، فأصبحت دون أن أدري نوعًا من الصرخات الوجودية التي تستمتع بلذة اليأس، ولعل مايوضح في ندائي هذا:
“يا أمي سامحك الرب.
ما دمت عرفت بأن الدنيا مجنونة.
فلماذا ترضين لطفلك أن يكبر من غير سبب.
ولماذا لم تلديني زنبقة أو زيتونة
يا أمي ليس عليك عتب.
فأنا جبل يتثاءب في قنينة.”
للأسف كبرتُ سهوًا عني حتى قيل إنني شاعر وأكاديمي وناقد وما إلى ذلك من ألقاب يحتاجها غيري وليس أنا. للحق أخجل من هذه الألقاب لأنني لست في أحسن الأحوال إلا صقرًا متسامياٌ أو ذئبًا عفيفًا في صورة إنسان. شاعريتي ظهرت منذ طفولتي المبكرة حينما انكسرت ساعة المنبه في بيت جدي فقلت له: لقد مات الزمن في الساعة.
اضطررت أن أصبح أكاديميًّا من أجل تعليم أبنائي وبناتي، وقد بدأت الدراسة الجامعية في الأربعين حتى أكملت أعلى رتبة أكاديمية وطوّرت أدواتي النقدية بعد الاطلاع على وحدة الروح الأدبية في العالم، لكنني لن أغادر معناي البريّ الأول:
“نور الشمعة يكفي
فأنا لا أحتاج لشمس تمحو ليل
الأرض ولا تدخل كهفي”.
علاقتك بالأدب، هل بدأت دراسة وتخصيصًا أم جذبتك ثقافة وتماهياً؟
أبي عازف ناي محترف، وزجّال مجنون، وراقص دبكة، ورّثني الهرمونات الموسيقية وجينات الخيال الشجاع. فرأيت في الفن والأدب مسوّغ بقائي حيًا. المشكلة أنني أدركت مبكرًا أن الحياة أكذوبة ونوع من اللعب الممتع بالشقاء، فأكملت دراستي لأنتقم من الفقر، وواصلت انتمائي لجنون الشعر لأثبت للحياة بأني قادر على أن ألاهيها وأضحك عليها وأعيشها لا لأفهمها بل لأحقق مسرات أمحو بها بقع الأحزان عن جدران روحي.
تقول أنك “تكتب القصيدة ولا تفكر بالجمهور على الإطلاق”، ما جدوى الشعر بلا جمهور مستمعًا أو قارئًا وأنت شاعر منبري معروف؟
بمعنى لا أكتب شعرًا من أجل شهرة أو مكسب أو غاية خارج أنيني الوجودي الخاص أو إرضاء مقصودًا لجمهور. إنما أدركت في بداية موهبتي أن الشاعر الذكي يستطيع أن يجذب المتلقين بنعومة ألفاظه وخشونة معانيه، وبتلوينه التعبيري في الإلقاء. فالإلقاء الجيد نصف القصيدة. للقصيدة رسالة جمالية بالدرجة الأولى فليس الشاعر مصلحًا اجتماعيًّا ولا مرشدًا أخلاقيًّا. إنه بلبل متشرد لا يعرف لماذا يغرد.
فيما قرأتُ، لك حكايا حميمية مع الأمكنة، كيف قاربتها في إبداعك وما أبرزها؟
حكايتي مع أخلاق الأمكنة كثيرة جدًا وهي التي صنعت شعريتي. ومن أمثلة ذلك أنني كنت أنام بين أغصان شجرة التوت كلما غضب مني أبي. أبني سريرًا من الحبال والعيدان. فصادقت دودة القز هذه الإمبراطورة العظيمة. وعندما أجوع آوي إلى أمي العظيمة البقرة، أحضن عنقها ثم أرضع منها الحليب فأتراكل مع عجلها الذي أصبح صديقي وأخي في الرضاعة على مرّ الأيام.
تراني أقول:
“إني أعانيك مجروحا بأسئلتي
ولا أظن جواب الحب يكفيها
لا تحسبي غربة الأوطان تجرحني
فالروح أصدق جرحا في منافيها
أنا جبال من الأحزان عالية
لكنني في قميص الغيم أخفيها
لو أن جرحي بجسمي ما نظرت له
مريضة بي هي الدنيا لأشفيها
لا تأخذيني الى قلبي فيحرجني
قلبي بلاد ولكن لم أعش فيها”
كنا في الصيف نرحل إلى نهر الأردن ليصاد أبي السمك ونبات الحلفا فنسكن في خصّ من أغصان الشجرة، وتعودت أن آكل السمك نيئًا بعد تنظيفه. عشت معجبًا بالسمكة، وما زلت أحبها لكن أخجل من أكلها فهي راقصة فنانة غنية بتقاسيم الأنوثة والنعومة.
قال الشعراءْ:
“الكلْمةُ سَمكَةْ
والمعنى شبكَةْ
والشاعرُ يصْطادُ الماءْ”.
كونك شاعرًا، تتعرض لمقاربات نقدية ولكن تمارس النقد في الوقت ذاته كيف يستقيم الأمر، ثمة من يدّعي المقايضة مثلًا؟
ثقافتي النقدية عبر مناهج النقد الأدبي قديمها وحديثها ساعدتني على بث رؤاي النقدية كما أريد. يعتمد النقد بالدرجة الأولى على الذائقة المثقفة، فلكل قصيدة مفاتيح جمالية وأسلوبية. أما المقايضة فليست من سبيي. فالنص العالي يأخذني إليه لأكتب عنه دون غرض شخصي أو نفعي خارج متعتي، أكتب النقد بحرية لأعزز الجمال وليس لتعزيز الأشخاص. فثمة قصيدة أفضل من قصيدة بعيدًا عن شهرة الشاعر ومكانته.
الشعر العظيم لا ينتظر ناقدًا يكشف عظمته. فربّ رأي لقارئ عادي يصبح نقديًا أهم كثيرًا من آراء النقاد.
فمثلما أن الشعر تجريب فإن النقد تجريب، خذ مثلًا كيف قلَّ نقاد نزار قباني من الناحية الفنية، وكثر نقاد شعر أدونيس، لكن نزار كسب الجمهور وخسر اهتمام الباحثين، في حين خسر أدونيس الجمهور العام قياسًا بنزار وربح النخبة.هذا رأي نسيت من قاله. أما رأيي فهو أن محمود درويش تمكن من ربح الجمهور والنقاد معًا، لأن شعره يمثل منطقة وسطى بين حماسة الجماهير العاطفية، وعلوّ التخييل والتجليات البلاغية التي يبحث عنها النقاد.
كيف ترى حالة النقد الأدبي أردنيًا وعربيًا؟
ثمة نوعان من النشاط النقدي: إما انطباعات وآراء خفيفة تميل على الأغلب إلى تبجيل نص ما أو كتاب ما، يكتبها أدباء غير متخصصين في علم النقد. وإما نشاط نقدي للمتخصصين يتم عبر المؤتمرات والندوات الكبيرة الموسمية. ولكن لا يوجد برنامج أو خطة قُطْرية أو محلية تعاين اتجاه نوع أدبي معين أو تعمل على إبراز المبدعين. للحق لا يعوّل على النقد الأدبي الذي ينزع في العموم إلى حلقات شللية معينة. وليس ثمة اهتمام من وزارات الثقافة بعمل برامج نقدية سنوية تتابع البارز من الظواهر الأدبية، أو تسوّق المبدعين.
تعرضتَ للسطو على نتاجك الشعري، كيف عالجت الأمر؟ وما الحال الشامل لمشكلة الملكية الفكرية في زمن الفيس؟
مثل هذا السطو معروف في تاريخ الأدب عربيًا ودوليًا. وهو يسمى السرقات الأدبية. وهو ثلاثة أنواع: مسْخ وسلخ ونسْخ. فأما المسخ والسلخ فلا يعدان سرقة، لكن النسخ الحرفي هو السرقة. ولا تكون السرقة إلا في المعاني المبتكرة الخاصة. وللأسف لا يوجد في اتحادات الكتّاب العرب لجنة متخصصة لدراسة مشاكل السرقات ضمن مفهوم حقوق الملكية الفردية، ولا سيّما أن مصطلح السرقات تطور إلى مصطلح التناص الذي نادت به جوليا كريستينا لترى أنه لا يوجد سرقة أدبية فجميع النصوص في العالم تتداخل فيأخذ النص اللاحق من السابق ، فيكتسب النص الجديد شخصية فنية جديدة.
بالنسبة لي ولمن سرقوا مني قصائد كاملة فقد أحَلْتهم إلى نقاد قاموا بفضحهم فلاذوا بالفرار من الساحة. إلى اليوم لم تتدخل المحاكم في مثل هذه القضايا.
الحالة الشعرية في الأردن هل تحاكي الواقع؟
لا أظن ذلك في جميع الدول العربية. ثمة فئة قليلة من الشعراء تعبّر عن نبض المرحلة وهم غير مؤثرين. كل شاعر مشغول بستويق نفسه وجعل الشعر وسيلة لكسب مالي يعينه على لقمة العيش. الشعر العربي إجمالًا يعاني حالة اضطراب بسبب المشاكل السياسية المتلاحقة.
يتميز الشاعر بكونه يستحضر الجمال كما تستحضر البصارة ملوك الجان. والمرأة إحدى آيات الجمال. كيف قاربتها في شعرك؟
نعم، المرأة أيقونة الأنوثة الكونية. وهي تغْني بجمالياتها المختلفة عن كل ما يسبب البهجة الوجدانية.. شخصيًا استدعيتها جدّةً وأمًّا صانعة رجال، وحبيبة، وصديقة.
لكن أغلب شعر الغزل العربي هو شعر هرمونات، يتغزّل بالمحاسن المثيرة، ونادرًا ما نقع على شعر الحب الصافي. هل تعرف يا صديقي شاعرًا تغنى بأخلاق امرأة ومكارمها ومعانيها ودورها الحضاري والإنساني؟ أغلب شعر الغزل نداءات ذكورية ولكن الجميل فيه هو التفنن بالصور الشعرية والاستعارات التي تجدد دم الشعر، وتجبر خاطر الحبيبة، وتضمد جراح العاشقين.
(( رجوى ))
«ورجوى لو رأى طير مداها
لصلى في أصابعها إماما
ورجوى لو رأى نهر خطاها
توقف عند خطوتها احتراما».
إلى مجلة أزهار الحرف:
أبارك لهيئة التحرير مبادرتها الحضارية في جعل المجلة منتجعاً للنصوص الأدبية، ومأوى للحنين الجريح ولطيور الروح المهاجرة. المجلة الآن متنزّه للمعاني المنتصرة للحرية والجمال والإبداع. حسْبُها امتيازًا أن أزهارها تنادي على النحل الشّريد عبر أريجها الذكي السعيد.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي