“””شعرية السّرد في البنائية التكوينية
لقصص ” تأبط دم الحكاية ” لنجاح إبراهيم من سوريا “””
مؤيد عليوي
البنية عند غولدمان : (النظام أو الكلُّ المنظم الشامل لمجموعة من العلاقات بين عناصره؛ هذه العناصر التي تتحدّد طبقاً لعلاقاتها داخل الكلِّ الشامل، ولكنه يستخدم البنية في كتابه (نحو اجتماعية القصة) بمفهوم الشكل القصصي أحياناً، والنظام الداخلي للقصة أحياناً أخرى، ثم يقرن هذا المفهوم الأخير بالبنية الفكرية والإجتماعية للعصر) أ.د عهود ثعبان الأسدي ، البنائية التكوينية والبلوة الغولدمان،، في موقع جامعة كربلاء، تاريخ النشر ٢١ / ١٢/ ٢٠٢٣ وقد تمظهر المضمون الفني للمجموعة القصصية قيد البحث بشكلٍ جديدٍ غير مألوف في كتابة مجموعة قصص قصيرة، جسدت كلُّ قصة مفهوم البنية عند غولدمان، وهناك علاقات للنظام الكلي في لغة قصص المجموعة تشمل كلَّ جزء وكل سطر فيها، كما أنَّ القصص تحققُ أصل البنائية التكوينية عند غولدمان، الأدب والحركة الإجتماعية الواقعية اليومية ، ومن هنا ينطلق البحث في دراسته متعاملاً مع قصص” تأبط دم الحكاية” على أنها إبداع قصصي خرقَ السائد والمألوف في شكلِ كلِّ بنية منه، أقصد في شكل كلّ قصة ، بعد أن صار المضمون الفني يجسد مقاومة الاحتلال اليومية هذا المضمون الذي كان ومازال يجسد معاناة الشعب الفلسطيني، بل هي في صميم الواقع اليومي المعاش في فلسطين اليوم بعد طوفان الأقصى ، فمضمون القصص واحد جميعها خاضع للنظام الشمولي للغة المجموعة القصصية من خلال علاقات الأجزاء من داخل كل قصة ونظامها الداخلي الذي يجعل منها بنية متصلة بالنظام ككلّ عبر اتصالها بأجواء مثلها في المجموعة القصصية ، فتكون المجموعة القصصية برمتها عبارة عن قصة واحدة كتبت في وقت إنساني حرج على الإنسانية عندما سكتت أنظمة الغرب وأمريكا عن حقوق الإنسان في غزة ورفح وباقي الأراضي الفلسطينية ، وخرجت شعوب امريكا وأوروبا بقيادة طلبة الجامعات والمعاهد العلمية مع أستاذة وعلماء وفنانين يطالبون بوقف الحرب على غزة فلسطين ، لتوصل لغة قصص تأبط دم الحكاية رسالة إنسانية في السلام وحق العيش على الأرض التي تملكها الشعوب مشفرة بشفرة الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل أرضه ووطنه عبر تاريخ طويل يصل إلى أكثر من سبعين سنة.
وبحسب نظرية توصيل النص الأدبي رسالة ما إلى متلقيه، لقد اختارت القاصة نجاح إبراهيم رسالة إنسانية يطالبُ بها أغلب أبناء آدم وحواء في المعمورة ، وهي رسالة المطالبة بالعيش بسلام وكرامة في أوطانهم عبر تاريخ البشرية ، ومنهم الشعب الفلسطيني المطالب برفع الظلم الإسرائيلي عنه.
أما شكل القصة البنية فقد أخذ منطقتين من الشكل لأنّ المضمون الفني أخذ منطقتين فنيتين كما سنرى، المضمون الفني بما يشبه رقيم طيني أو حجري من حضارة قديمة فكان الشكل بكلِّ ما له علاقة بأرض الشام قبل اتفاقية سايكس – بيكو، وتراثها في الحكاية أقصد الفعل الشفاهية وعملية الحكي في الموروث الشعبي ، الذي مارسته مجتمعات سوريا ولبنان والأردن وفلسطين في المدن والقرى، فكان المضمون الأول- الجزء الأول – تمثله قصص تحمل لغة ( كان يا ما كان / كان في فلسطين….. ) وهي مضامين الفعل الشفاهي مضمون فني له شكله، ثم تنسلُّ القصة إلى أجواء مقاومة الشعب الفلسطيني اليومية بين الماضي والحاضر الذي توثقه القصة إلى المستقبل من خلال المضمون الفني الجديد وشكله الجديد، فلم يكن الماضي النضالي في قصص الجزء الأول منفصل تماماً عن الجزء الثاني، وكذلك الأخير، إذ هنا و هناك نبرة موسيقى في اللغة وتوظيفها، نبرة خفيفة تشبه رشة ملح وبهارات خفيفة على الطعام ، من الحاضر النضالي والمعاصر للشعب الفلسطيني في قصص الجزء الأول ، وقد ميّزت القاصة تلك القصص التي تبدأ بفعل شفاهي عن قصدية إبداعية احترافية عندما وضعت عنوان لجميع قصصها في الجزء الأول ” موتيف ” مُرقمة من ١- ١٠ ، كما تبدأ كل قصة منه ب( كان يا ما كان / كان في فلسطين…) فيما يرى النقد الأدبي أنَّ هذا المضمون الفني يشير ويرمز إلى قدم وتاريخية الإنسان الفلسطيني على أرضه ،والذي تحوّل إلى شكل فيه رائحة الأرض والإنسان والحقِّ والجمال بجمالية توظيف الفعل الشفاهي الماضوي ( كان يا ما كان / كان في فلسطين ..) عندما كانت الجدّات تحمي أوطانهن بالحكاية الوطنية للأحفاد قبل اكتشاف الكهرباء كانت تضاء جلسة الحكاية بشمعة أو فانوس، أو فتيل كاز، وهو ذات الفعل من قصّ الحكاية القديمة عن الأرض وأهلها في فلسطين عند الرّجال إلى أبنائهم في مجالس الرجال ،أو هو فعل شفاهي مارسه الحكواتي أو القصخون فيما بعد، هذا الشكل في القصة يعطي رمزية إلى أنَّ الفلسطينيين هم أصل في فلسطين عبر تاريخها الطويل يتفق مع مضمون البنية الفني، أقصد قصة الموتيف ١- ١٠ الذي تحوّل إلى هذا الشكل المبدع الجديد ، لتكوّن جزءاً في بناء بنية أكبر من القصة متكون من بنيات صغيرة قصص في نظام اللغة الشمولي للمجموعة ، يتصلُ بعلاقات النظام اللغوي نفسها بجزئه الثاني قصص الحداثة التي يتغير فيها المضمون الفني مع بقاء الدلالة الفلسطينية المقاومة بيومياتها نفسها، متصل من خلال اللغة نظامها الكلي ، ومضمونها الفني، لينتج المضمون الفني في الجزء الثاني شكلاً جديداً يجسّد الحداثة، متكون من بنيات صغيرة فيه أيضاً هي قصص مضمونها الفني وشكلها حداثوي يشيرُ إلى اليوم واستمرار النضال مع الأمس الذي لا يخلو منها بإشارة أو لمحة ، فتكون المجموعة القصصية قصة واحدة في المضمون الفني لها، الذي أخذ منطقتين، فصار له شكلين يكوّنان قصة واحدة بحسب غولدمان لأنَّ لهما نظام لغة واحد ومضمون فني واحد، فيكون شكلها الجديد ” تأبط دم الحكاية ” ضرب جديد في كتابة القصة المعاصرة من أدب المقاومة الفلسطينية لتكمل مسيرة الإبداع القصصي في هذا الأدب بجانب قصص سبقتها، إذ عنوان المجموعة ” تأبط دم الحكاية ” بمعناه من خلال الفعل في بدايته ( تأبطَ) الفعل الماضي قصة لرجل واحد ، له دلالة الشعب الواحد والأرض الواحدة ونضاله واحد ومستمر، والسبب أنَّ الجملة الفعلية العنوان التي بدأت بالفعل الماضي، تدلُّ على الحركة والاستمرارية من حيث الفعل له دلالة الحركة والحدوث والزّمن ، على غير الاسم أو الجملة الإسمية، لذا نرى توظيف الفعل الشفاهي في شكل المنتوج القصصي قد أخذ مداه من الماضي ليشير إلى حالة الاستمرارية في حداثة الشكل الجديد ، فنلاحظ التغير في المضمون الفني وشكله من الجزء الأول ” موتيف ١-١٠ ” قد تحوّل إلى مضمون فني وشكله الجديد أيضاً في الجزء الثاني ، تحوّل من رمزية الموروث إلى رمزية الحداثة في النضال والجهاد، إذ يبدأ به الجزء الثاني بسطرين للشاعر محمود درويش وشعره الحداثوي بدلاً عن عبارة موتيف وترقيمها ، وكذلك تختفي عبارة ( كان ما كان ….) وينطلق السرد بأحداث فلسطينية يومية عاشها الشعب الفلسطيني المقاوم ومازال يعيشها.
أمّا من جهة علاقات المضمون في داخل كلِّ قصة التي تشكلُ بنية، فتجد أسماء شهداء المقاومة والانتفاضات الفلسطينية منذ ١٩٤٨ والقصص تدورُ حول مواقفهم الوطنية وسماتهم الإنسانية في دفاعهم عن الإنسان والأرض، كما تجد صمود أبناء الشعب الفلسطيني مرآة أو طفل أو شيخ مسن ، أو .. في جميع القصص لأنها حكايات و قصص شعب يريد العيش بسلام على أرضه مثل باقي شعوب الأرض التي تعتدُّ بالسلام والكرامة.
ثم ننظرُ إلى المضمون الفني الجديد ككلٍّ بدأ من عنوان المجموعة ومضمونه بوصف المجموعة القصصية قصة واحدة على وفق البنائية التكوينية عند غولدمان ، سنجد أنَّ المجموعة القصصية توصل رسالة إنسانية تمثلُ طموح أغلب البشرية في إيقاف حرب غزة وانهاء معاناة الشعب الفلسطيني ، وليس للحكومات الدولية والمحلية دخل في هذا الطموح الإنساني، بل هو تيار إنساني يطالب باسم الإنسانية إيقاف الحرب، ثم هذا الشكل يأخذ مضموناً مستقبلياً. إنَّ قصص الواقع اليومي المعاش للشعب الفلسطيني صارت عبارة عن رسالة إبداعية إلى أجيال قادمة، وهو في ذات الآن رسالة إلى كلِّ محتلٍّ لأرض غيره، إذ ( المضمون الفني يتمثلُ ويتجسد في الشكل الفني.. ) العلاقة العضوية بين المضمون والشكل الفنيين، مجلة الثقافة الجديدة ، عدد ١٠ ، بغداد ، ١٩٧٠ ، ص ٣٩ .
ثم نقرأ نماذجاً من الجزء الأول نتفحص المضمون الفني في قصة موتيف ١ ( كان يا ما كان / كان في في فلسطين رجلٌ يُدعى إبراهيم، من قريةٍ اسمها المزرعة، يجتمعُ مع رفاقه أبناء قرية المنشية الفلسطينية.. كنتُ صبياً وقتذاك، أجلسُ بينهم، فأُصغي إلى رواياتهم، أتعلّم منهم الكثيرَ، فأحشو قلبي وجلدي بالتضحية والوفاء وكيفيةِ الحكي …) من هذا المضمون الفني الذي بدأ بأسلوب الراوي ثم تحوّل إلى صوت المتكلم في ذكريات إبراهيم ومثله موتيف ٢ الذي يتصلُ من الماضي وموروث الفنِّ و الإبداع ناجي العلي وحنظله الطفل الفلسطيني الشهير في لوحاته:
( كانَ يا ما كان، كانَ في فلسطين رسامٌ من قرية الشّجرة، اضطرَّ عام 1948 للرّحيل عنها هو وأسرته، وظلَّ مثابراً على الرّسم حتى لحظةِ اغتياله.
وكان أنْ تركَ في كلِّ لوحاته وَلداً في العاشرة يُدعى حنظلة، تركه كإمضاءٍ له، فرسمه غاضباً ومقهوراً وعاقداً يديهِ خلفَ ظهرهِ عقوداً
وثمّة رجلٌ وقفَ أمام إحدى اللوحات، التي كانَ فيها حنظلة مصلوباً للمرّة الألف، ليقولَ للمرّة الألف متوسلاً: استدرْ ولو مرّة!
لكنَّ الصبيَّ يهزُّ كتفيهِ ويقولُ: ليسَ بعد.
فيطرحُ الرّجلُ عليه سؤالاً قبل أن يمضي: متى تكبر؟!
فيردُّ حنظلة دون أن يلتفتَ: سأبقى كما أنا إلى أن يغيَّر الله أمراً.
كانت قدما الصبي عاريتين، وكبيرتين، التقطه الرّسام من إحدى الحارات الشعبية وهو يصيحُ: ” مالحٌ وطيّبٌ يا لبلبي!”
أخذه وأشعلَ به وجعه في لوحاته، فاحتجَّ الصبيُّ على رسمهِ حافياً، وطلبَ منه أن يحققَ حلمه ويهديه حذاءً يقي قدميه من البردِ في الشتاء والحرِّ في الصّيف، فردَّ عليه الرّسامُ قائلاً: أنتَ ابن مخيم، فقيرٌ ومعتّرٌ، والأحذية ليست لأمثالك.
زعل الصبيُّ حنظلة، تضايق وانطوى على حزنٍ كبيرٍ وصمت أكبر، بينما الرّسام جعله منذ نكسة حزيران موتيڤاً يتكرّر في كلِّ لوحاته، يركنه في إحدى زوايا اللوحة، ليعيد له الحضور في أخرى.
في السّابع من أكتوبر من هذا العام، وقفَ الرّجلُ وهو ينظرُ إلى اللوحة، فرأى شيئاً غيرَ عاديّ، شيئاً يتحرّك، اقتربَ بتوجّسٍ فلم يصدّقْ عينيه، فركهما جيداً كي يرى بشكلٍ أفضل، مدَّ أصابعه المرتجفة إلى الشيء المتحرّك في اللوحة، فلمسَ قطراتٍ حارة تتساقط، حدّقَ بقوّة حتى تيّقن أنَّ القطرات هي دموع حنظلة، الذي استدارَ نصفَ استدارةٍ وراحَ يبكي من الأخبار السّارة التي هبّت من جدارِ غزّة. ) هنا نلحظ أنَّ الحوار بين الرّجل ولوحة حنظلة من رسوم ناجي العلي ، مرموزاً به إلى الحوار واقع الطفل الفلسطيني في غزة اليوم مع العالم في نهاية القصة، فمن خلال الماضي لوحة تعدُّ قديمة اليوم في عالم الانترنت ، ولم يتخذ الحوار شكله العادي المألوف كما في القصة القصيرة ، بل حوّله السرد إلى حوار سردي منفتح على مضمون فنّي تحوّل إلى شكله السردي في القصة موتيف ٢، بما يناسب الفعل الشفاهي في الواقع الشعبي وليس بما ينسجم مع القصة الحداثة المدوّنة كما نجد أمثال الحوار السردي أينما كان ثمة حوار ، إلاَّ في موتيف ٨ ، فقد تحوّل الحوار السردي الذي له دلالة الحوار القديم مع الإسرائيليين ثم يتحوّل إلى الحوار القصصي المألوف بين زوجة السجين الفلسطيني و الضابط الإسرائيلي ليدل على أنَّ الفلسطينيين يدخلون حواراً تلو الحوار من أجل قضاياهم بحداثة لكنهم لا يحصلون منهم إلا على القليل كما أنتج الحوار : ( بعد مرورِ سنوات في المعتقل استطاعت زوجته أن تزوره، وتمَّ اقتيادها إلى قسم التحقيق وأخبروها أنه سيكون بضيافتهم ثلاثين مؤبداً، فردّت بثقة: أيها المحتلون، ثقوا أنكم لن تبقوا كلَّ هذه المدّة فوق أرضنا.
” اقتربَ منها المحقق، نظرَ في وجهها فقرأ تحدّياً وإصراراً، وسأل:
- من قال لك ذلك؟
فردّت: - الأرض.
قهقه، ونظرَ إلى أعلى السقفِ وقال متسائلاً: - الأرض؟!
هزّتْ رأسها وأجابت: - نحن كنا، وسنبقى، أما أنتم فأتيتم وقتلتم، وسترحلون أشلاءً.
- نرحلُ أشلاءً؟! هه، هه، كيف نمشي ونحن قطع ؟!
ردّت: لن تنتهي المعجزات. - قال وهو يكزُّ على أسنانه: سنبقى.
- ردّتْ: لن يبقى هنا سوى الذين لهم أقدام تجذّرت في هذه الأرض.
- قال بغضبٍ:
- أيتها اللعينة، نحن نبيدكم، ولن تبقوا، ستنتهون.
- أيها المسكين، كيف ننتهي وأرحامنا تفيضُ؟!
- قرّب وجهه من وجهها، وهمسَ:
- كيف؟ وزوجك سيموتُ هنا.
- ستعرفُ أننا أبناء المعجزات.
- عاد إلى مكانه وهو يضحكُ، ثمَّ شعر بحنقٍ وغضبٍ كبيرين، وأمر أن يُدخلوها إلى زوجها.)
- وفي قصة موتيف ٣ نرى الحوار السردي ذاته في قصة موتيف ١ و ٢ ، لكن بين شخصين غير فلسطييين يكشفهما الاقتباس ، بما يدل على قدم الموضوع والسؤال الإنساني هل يقبلُ الإنسان أن يمارس الظلم الذي وقع عليه بأن يظلمَ الناس بالطريقة ذاتها وكأنك تقرأ فعلاً أسطورياً خيالياً من المضمون في هذا السرد ومن خلال السؤال في نهاية القصة:
(كان يا ما كان،كانَ في فلسطين شابٌّ ألمانيٌّ يعملُ صحفياً، أوفدته الجريدة التي يعملُ بها فيها مصوراً إلى تل أبيب، لتوثيق احتفالِ اليهود بذكرى من قُتل منهم على يد النازية في الحربِ العالمية الثانية، فزار “يادا فاشيم” ورأى الاحتفال والطقوس، وسجّل عبر كاميرته كلَّ ذلك، واستمعَ إلى محاضراتِ شهودِ عيان نجوا من المحرقة، وراحوا يتفننون في سردِ عذاباتهم والمذابح التي ارتُكبت في حقّهم، وتكلّموا عن الآلام التي عانوا منها على طريقِ النفي والتشريد. - وفي اتصالٍ مصوّرٍ لهذا الصحفي عبر ” الماسنجر” لأحد أصدقائه بُعيد عودتهِ إلى بلاده قال: لفتَ انتباهي كثيراً تلك الجملة التي كرّرها المحاضرون في احتفال ” يادا فاشيم” عن لسانِ مبشري المسيحية في أوربا أثناء طردهم لليهود، إذ كانوا يقولون لليهودي أينما وجدوه:” ليس لك الحقّ في العيشِ بيننا.” ولهذا لاحقوا اليهود، وأحرقوا وذبحوا، وطُردَ من طُرد، ولك أن تتساءلَ يا صديقي آرثر مثلي: كيف يسلكون ذاتَ الجريمة بحقِّ الفلسطينيين؟ كيف يعذبون ويقتلون ويحرقون هؤلاء وهم على أرضهم؟
- قال آرثر: احكِ لي يا أكسل
- هزَّ الصحفي أكسل رأسه وقال: شاهدتُ بأمِّ عيني المذابحَ في شوارع فلسطين، والتدمير في كلِّ مكانٍ يسكنون فيه، ورأيتُ قتلهم للأطفال دون رحمة، وهدم البيوت فوق رؤوسِ ساكنيها، ودفعهم إلى النزوح.
- تساءلتُ يا آرثر”: كيف يمارسونَ ما قد مُورس عليهم؟ كيف ارتضوا أن يجيدوا دورَ النازية على شعبٍ يحبُّ الحياة في وطنه؟!
- لن أنسى ما جرى هناك يا صديقي! قتلوا طفلة أمامي حين ركضتْ في الشارع تسألُ عن أمِّها التي جرجروها من شعرها ودفعوها إلى السيارة. رحتُ أصوّرُ المشهد، ألاحقُ جنونَ الطفلة المكلومة، ودموعها و صراخها، بينما أطلق أحد الجنود الاسرائيليين النارَ على رأسها، فسقطت وهي تمدُّ يدها صوبَ السيارة التي انطلقت بأمها. وحين أحسّوا بتصويري المشهدَ ركضوا نحوي وأشبعوني ركلاً وضرباً وتمزيقاً، وأخذوا الفيلم من الكاميرا وقذفوها في وجهي
- هل تسمعني يا آرثر؟! انظر إليَّ
- أما ذلك المشهد الذي حفرَ في ذاكرتي ولم أستطعْ نسيانه، أو تنحيه، وأراني أعيده كلَّ لحظة حتى في منامي أراه ككابوس. هو مشهد الجرّافة التي جاءتْ وهدمت بيتاً، وخلعت أشجار الزيتون من أمامه، فركضتْ صاحبة البيت وهي امرأة مسنّة، أمسكتْ بشجرة زيتونٍ قبل أن تنتشلَ من تربتها، وضعتْ وجهها على جذعها وتمسكتْ بقوّة وراحت تصيحُ، بينما أسنانُ الجرافة تخترقُ جسدها لتموتَ المرأة دونَ أن تفلت يداها الجذعَ.
- كلّ يومٍ كانت الجرّافات تأتي لتهدمَ المنازلَ وتخرجَ أهلها منها، إنهم لا يراعون لفعلهم هذا وقتاً، ولا حرمة، بينما هؤلاء الفلسطينيون المساكين لا يعرفون أيَّ جهة ييممون وجوههم صوبها. رأيتهم حائرين، خائفين، حفاة، وبردانين، ومع ذلك تقرأ تحدّياً في قسماتهم، وانتقاماً في عيونهم.
- ماذا نسمي هذا يا آرثر؟
- تخيّل، سألت مرّة صحفياً يهودياً لازمني ذاتَ مذبحة، قلتُ له: لماذا تقتلونَ وتشرّدون الناس؟ فردَّ إنها أرضنا ندافع عنها، إنها أرض الميعاد.
- سألته: وهؤلاء الفلسطينيون؟! أجابَ: إنهم دخلاء.
- لا أصدّق يا آرثر أنَّ من يتشبّثُ بأرضٍ وأمٍّ، وشجرةٍ وماءٍ وترابٍ هو دخيل! لا أصدّق أنَّ من يرضى بموتهِ في بيتهِ وحديقتهِ هو دخيل!
- أنا ما زلتُ في صدمةٍ كبيرةٍ، وما زلتُ أبكي بحرقةٍ، فهل أنتَ تبكي مثلي يا صديقي بعدما رويتُ لك؟!
- أخبرني هل أنتَ معي يا آرثر؟).
في حين تشكلُ قصة موتيف ٧ قصة الحاضر للأجيال القادمة بطريقة ( كان يا ما كان ) بمعنى هذه العبارة تقال للأجيال القادمة في المستقبل ،تماشياً مع النسق التاريخي لنضال الشعب الفلسطيني المستمر بين الماضي والحاضر والمستقبل .
أما في البنية الجوانية من قصص الجزء الثاني وفي مضمونها الفني من البناء التكويني، الذي جعل المجموعة كقصة واحدة باتصاله بالبنية الجوانية من الجزء الأول ، فنرى التحوّل إلى أسلوب الحداثة في قصة ” أثرُ الفراشة ” عنوان لها ، ثم يأتي بعده قول محمود درويش بطريقة الشعر بما يناسب العنوان : " هو جاذبيةُ غامضة يستدرجُ المعنى، ويرحلُ حين يتضحُ. السبيلُ."
وأسفل الشعر اسم الشاعر محمود درويش عن قصدية تحوّل أسلوب الكتابة من توظيف الموروث إلى الحداثة، والمضمون فني جديد في أدب المقاومة، وكذلك يتغيّر أسلوب الروي عما سبق في الموتيفات من البداية بأسلوب الراوي الذي يشيرُ إلى الحكواتي ، إلى البداية بأسلوب صوت المتكلم الذي يشير إلى أسلوب القصة القصيرة المدونة ثم بعده يعودُ أسلوب الراوي كما في مدونات القصص الحديثة : (بدايةُ الخَيط:
ليس من صوتٍ علقَ ببابي، لكنَّ طرقة البابِ أصمّت أذنيَّ.
ليس من فراشةٍ على نافذتي، لكنَّ الرّيح تجرُّ قدميَّ نحو أراضٍ باردة.
كان مشهدُ الجموعِ التي تغادرُ القرى والمدن مُحزناً؛ نساء انطفأ الكحلُ في أعينهن، وشيوخٌ يتوكؤون على جوعٍ، وأطفال نائمون. بعض الأغراض القليلة حُملت على الأكتاف المهدودة في صرر من خرق، ووجوه توزّعُ ملامحها في الوجوه، وكان الكثير من الذهول والقهر في العيون.) ثم التغيير في المضمون الفني إذ نجد كلمة ( بداية الخيط ) بدلاً من كلمة ( كان يا ما كان ) في النسق السابق ، ولا تغادر لفظة الحكاية هذا النص بوصفه نقلة، أو تحويلة بين نسقين، ولكن تأخذ معنى فنياً يدلُّ على نسق مضمر داخل بنية القصة ألا وهو التاريخ الطويل لنضال الشعب الفلسطيني:
شعرية (قالت الحكاية:
امتدَّ سعيرُ حلمهم، وأصابعِ أذاهم وحقدهم إلى المسجد الأقصى..) إذ بعبارة ( قالت الحكاية : ) ترجع الأمور إلى حقيقتها في أصل الصراع ، بداية العدوان الإسرائيلي على مقدّسات الفلسطينيين والمسلمين والعرب ، فيحيل النصُّ الى مشروعية جهاد ونضال الشعب الفلسطيني في الدفاع عن حقه في أرضه واحترام مقدساته كما يتضح في النصِّ ذلك .
أما في قصة ” السراج ” فقد كانت البداية بعد العنوان حديثاً نبوياً شريفاً :
(السّراجُ
” من أسرجَ في بيتِ المقدسِ سراجاً، لم تزلْ
الملائكة تستغفرُ له مادام ضوؤه في المسجد . “حديث شريف”)
من المعاصر إذا مازال المسلمين يقرأون المدوّن من الحديث الشريف، بمعنى ليس من الفعل الشفاهي والأحاديث الشريفة مدونة في الكتب الناس تنهل منها ..كما أن البنية الجوانية للنصِّ تدلُّ حركة النضال والجهاد الفلسطيني في وقت التصدي لمحاولات الصهيونية الإسرائيلية أن احتلال المسجد الأقصى، ولكن السرد القصصي يتحرّك بطريقة فيها نوع الألفاظ التي تتصل بالجزء الأول وهي تنزاح إلى الحاضر لتوصل رسالة إلى المستقبل من مثل ( توطئة والحكاية ) في توظيف فني لها ضمن نسق الحداثة، ثم يتحول المتن القصصي في تقسيمه المضمون الفني إلى ما يشبه الرواية الأدبية فنجد (الفصل الأول )
(والفصل الثاني) بما يشير إلى أسلوب المعاصرة والحداثة .
وكذلك نجد أن يتقدّم مع عنوان القصة توصيف مناسب مرة من القران الكريم وهو أيضاً نصٌّ مدوّن غير شفاهي يحاكي الاقتباس منه أحداث القصة، أو نجد أقوال الأدباء من الإنسانية ترافق عنوان القصة هذا في قصص أخرى.
حتى تصل إلى القصتين الأخيرتين من المجموعة تنبلج السطور مع العنوان بتلميح إلى نجاح إبراهيم في أولهما، في القصة الأخيرة تعلنُ اسمها مع العنوان بدلالة الحاضر حيث عنوان القصة ” الحطابون الصغار ” :
” منذ أن سقطت أسنانه اللبنية،
حمل مقلاعاً، وتبنّى القضية. نجاح إبراهيم)
لتحيلك الى عنوان المجموعة القصصية ،، تأبط دم الحكاية ،، المرتبط بها فهي مؤلفة القصص كما ينزاح الشعر هنا إلى فعل استمرارية حكاية المقاومة والانتفاضات الشعبية من الأجداد إلى الأبناء إلى الاحفاد ، الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي ، وهذا يتصل أيضا بمقدمة المجموعة القصصية الذي تتصل بها بعد عنوان المجموعة عبر أسلوب الراوي في بداية القصة :
(مرّت ليلةٌ باردةٌ على الجميع في المخيّم.
لقد قطعوا طريقاً طويلاً، ركبَ الناسُ سيارات وشاحنات، وعربات تجرّها الحمير، بينما أم رامي قالت لأولادها: علينا أن نصلَ مشياً على الأقدام إلى الجنوب، فنحن لا نملك ثلاثمائة شيكل التي طلبها سائق العربة.
في الطريق الذي اكتظَّ بآلاف النازحين، طريق صلاح الدين، رفع الكثيرون راياتٍ بيضاءَ أثناء النزوح من الشمال إلى الجنوب تفادياً للهجوم الإسرائيلي، وللقصف العشوائي، بينما حملَ بعضهم حُصراً وبطانيات وخياماً، فكّكوها من محيط مستشفى ناصر.
أما عائلة رامي المؤلفة من أم وأخوين له، فليس ثمّة ما يحملون سوى الجوع والبرد والقهر، ولكنهم سمعوا أنَّ سكان سيناء قد هرّبوا لهم خياماً وخبزاً وماء، فسقطت عنهم نصفُ الأوجاع.
نصبَ النازحون الخيامَ على عجلٍ ودخلوها احتماء من المطر والرّيح، وقبيل الغروبِ نال منهم التعبُ، ولكنه لم يحطمهم ولم يثنهم عن مزاولة الحياة، واستقبلتهم برودةُ الخيام، وصقيع وحشتها، فألقوا بأجسادهم، وببقايا صبرهم وناموا ليلتهم، بينما في الخارج كانت الرّيحُ قوية، مشاكسة، مزّقت بأنيابها بعضَ جدرانِ الخيام ومن بينها خيمة عائلةِ رامي. ) ثم يتحول أسلوب صوت المتكلم ليعود بعده مرة أخرى إلى أسلوب الراوي الذي تنتهي به القصة بما يتصلُ بمقدمة المجموعة القصصية والتي هي أيضاً أسلوب الراوي فالمقدمة، أو التمهيد أيضاً أخذ منطقتين إحداهما متصل بالموروث كما الجزء الأول والثانية متصلة بأسلوب القصة الحديثة :
( موتيڤات فلسطينية
لابدَّ من القول:
مازالت الجدّات والأجدادُ، والأمهاتُ والآباءُ يثيرونَ الحكايات.
وفي كلِّ مرّة يكرّرونها، فتبعثُ فينا اندفاعاً، واخضراراً وحافزاً على الصّمود والحياة، حتى صارت تطريزاً في ثيابهن، ورائحةً في كوفياتهم، وموتيڤاً في عروقِ الحكاية.
بإيجاز:
هي روايةٌ واحدةٌ،
وأنا لستُ الرّاوي الوحيد، ملايين الرّواة انسلّوا منّي، ومن أسلافي، رحنا نرويها كلَّ حينٍ حتى سكنتْ الدّمَ والنبضَ والحلمَ.
فإنْ سألتَ متى نروي، أخبرك أننا:
نروي ونحنُ واقفون،
نروي ونحنُ جالسون،
نروي ونحنُ نقاتلُ،
ونحنُ نمسكُ بالحَجرِ والمقلاعِ، ونحنُ نطلقُ صواريخ وقذائفَ الياسين المضادة لدباباتهم، وطائراتٍ بدون طيارٍ لإسقاط قنابلهم.
نروي ونحنُ نزرعُ عبواتنا الناسفة في أجسادنا، وبين أسناننا، ونطلقُ طوربيدنا العاصف.
نروي ونحنُ نستشهدُ.
لم تتعبنا يوماً هذه الحكاية الأثيرة!
هذه التي لا تنضبُ، ولا تجفُّ على ألسنتنا.
نروي على طولِ الطريقِ، ورائحةِ البياراتِ، وبخورِ المساجد.
نروي ما تقدَّم من حكاياتٍ، وما تأجلَ منها.
لم نختلفْ على رويها، وعلى وضعِ عناوينَ لفصولِها، فقط اختلفنا على منْ يسلّم الرّوح لباريها أولاً، ليتابعَ الثاني إضافةَ سيرته إليها.) نرى شعرية السرد الجديد في البنائية التكوينية وجعلها المجموعة القصصية قصة واحدة، فالشعرية هنا بحسب تودوروف .
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي