قبلتها الأخيرة
أمال شلهوب
أذكر أنهم أقاموا مأتماً لي, فتلوا الصلوات فوق رأسي, لم أذكر تماماً في أي يوم حدث ذلك, حينها رأيت المطر ينزل شلالات من سماء أمي, حتى طافت القنوات, وغمرتني المياه بسخونة مشبعة, جعلتني أغمض عينيّ, لأبحر في أعماق ذاكرتي ربما تساعدني في العثور على أجزائي المبعثرة. لكن صوت أمي المتماهي مع صوت أزيز الرصاص, قد شرذم انسجامي مع الذاكرة, فبتُّ طافياً على سطح الماء, وهم يشيّعون من جسدي القطع التي هلعَتْ من الطلقات الفارغة.. المتساقطة على سطح النعش الخشبي, فراحت الأجزاء تتماسك ببعضها, لتصبح قطعة صغيرة واحدة في المكان الواسع. تهرب من زاوية إلى زاوية أخرى فوق الأيدي المتراقصة التي لحقتْ خلفها حبيبتي “شمس” وهي تلوّح لي, حاولتُ أن أمسك راحتها, لكنها ظلت وحيدة .تبحث عن يدي الضائعة بين الشتات بعد أن فقدوا الأمل في العثور عليها.
لم أر سوى يدها المرتفعة, وكأنها ترقص معي في يوم إعلان خطوبتنا. في تلك الليلة لم تهدأ عصفورتي, وهي ترفرف حولي بثوبها الليلكي القصير.
رقصةٌ تواصلت مع حركاتنا التي كنا نقوم بأدائها منذ الصغر, في أحضان بستان المنزل الذي يفتح عينيه كل صباح على صغيرين متحدين في طراوة الروح . كان بساطه الأخضر يقرأ اتحادنا الأبدي بابتساماته الدائمة لنا, فترتوي اليقظة من حلم صغير.
وعلى إيقاعات الشوق حملتها بين ذراعي, وبدأتُ أطير بين الحضور.
عانقتني بقوة وسألتني بهمس: تحبني ؟!
قلت لها: أحبكِ حتى الموت .
فأدركَتْ أن الكون ملك يديها, وأدركْتُ أن القمر لي وحدي, لأنه سيضيئ الليل بأكمله, فلا خوف من الظلمة بعد اليوم . هكذا أخبرتني أمي وأكّدتْ لي حين جثتْ بالقرب من حافة اللوح الرخامي الذي أطبق عليّ قالت: انظر يا ولدي كيف اشتد خصب الأرض في ليلة واحدة, ها هو الربيع يزهر رغماً عن أعدائك الذين استقصوا ذريتك, وجعلوك عقيماً. انظرْ كيف دموع “شمس” تسقي الزرع, لينبت حولك ألف طفل. اطمئنّ يا عمري! سوف يلقون القبض على قاتلك.. أجبتها باختصار: أنا لا يهمني قاتلي .
سُررتُ لسماع صوت أمي, أسرعتُ للاقتراب من وجه “شمس”, كي أمسح دموعها, فاحترقتْ وجنتي عندما لامستْ خدَها, لكن عطرها الممتزج بندى عرقها مرّ كالنسمة, ليخفّف عن وجهي ألم الاحتراق .
حملني عبيرها على أجنحته, وأنا أتهيأ للالتحاق بالكتيبة العسكرية, ليعيدني إلى طيف المشهد الذي كانت تتمرأى به شمس أثناء وداعي على شرفة المنزل. تحت أشعة الشمس الحارقة, وفي نبضاتها ألف سؤال يطرق باب قلبي, كلما تزاحمت الاستفهامات بداخلها, حتى وجدتُ نفسي ملتصقاً بها, ويداي تطوّقان خصرها .قبّلتُ عنقها الذي مال نحو رأسي بحنان. تطالب قبلاتي بالإجابات السريعة التي انهالت دفعة واحدة على قبضة البندقية, عندها استدارت “شمس”.. حضنتني بقوة, لتترك على بندقيتي.. قبلتها الأخيرة التي دفعتني إلى الأمام.. نحو نقطة نور تبعتُه بعينيّ الثاقبتين .
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي