مقالة للناقد طالب عمران المعموري
طالب عمران المعموري
تتميز الرواية عن سائر الاجناس الادبية الاخرى ببنائها السردي التي تنطوي فيه الحكاية فيكون المتلقي بين أمرين ايديولوجية الروائي وايديولوجية الواقع بملابساته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والذي يعد الوعي الجمعي للمجتمع ..
ان الواقع الروائي هو عامة رفض للواقع وهذا الرفض يتحقق بخلق عوالم متخيلة بديلة او محاكيه له وليس بمعنى القطيعة المطلقة بين عالم الرواية وعالم الواقع ..
وهذا ما يلمسه القارئ في رواية بنات النفس الصادرة عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع ،2024 . بدءً من عتبة العنوان لأنّه أوّل عتبات النص التي يمكن من خلالها الولوج إلى معالم النص واكتشاف كنهه إنه البداية الكتابية التي تظهر على واجهة الكتاب كإعلان إشهاري ـأو علامة، يتشكل الانطباع الاولي للقارئ انه امام رواية نفسية ،
من خلال عتباته الاولى تصورية متخيلة رغم انها واقعية بسبب ما يجري من أحداث
” هاته الرّواية خيال محض ولئن تباينت بعض الشخصيات بالواقع فهو غير مقصود من الكاتب “
ما ان أقف عند مناصات الرواية ، وبما للمناص من دور مهم في تنشيط فضول القراء وتحفيزهم على القراءة مبتدأً بلوحة الكتاب السريالية الذي تربع في اعلاه العنوان بخطه الاحمر العريض ذات التمظهرات الأيقونية باعتباره نصاً مرئياً مفتوحاً للقراءة وقابلا للتأويل حيث يعد نمطاً سردياً في الفنون البصرية، يظهر فيه وجوها تكعيبية ذات أحداق وافواه مفتوحة تعبر عن دهشة وخوف ورعب مما يلفت نظر المتلقي نحو بؤرة جذب محددة يعبر عما ينطوي عليه العنوان من دلالات وابعاد نفسية
تنفتح خطوط حكايتها بلسان راو متكلم عليم، يستلم دفة السرد على عاتقه هيكلة النص وهندسة ملامحه من أحداث واستدعاء شخصيات، ويفسح لها المجال للتكلم عن ذواتها وتمارس أفعالها، بانضمام عنصر الزمان مع البيئة المكانية للشخصيات وحبكة ونقل الاحداث من طور الحكاية الى خطاب روائي باستنطاق النص من خلال العلاقة القائمة بين الراوي والمتلقي، استهلها مدخل الرواية بعرض اجواء خريفية متقلبة تتناسب مع الجو النفسي للرواية “”كانت الشمس على اهبة المغيب وكان الجوُّ بارداً الى أقصى حد من الحالات . كان خريفا غاضباً بارتباكات والتواءات وتحولات وتقلبات . مكنونات بشرية أرادها جلية ، على مرمى البصر. حتى الهمهمات تبدّت حادة الانكسار من صقيع ينزف .”
محاولا ان يلبس الرواية حلة جديدة يتجاوز فيها الظاهرة الشكلية في الرواية التقليدية محطمة بذلك الحدود الفاصلة بين الرواية وباقي الاجناس الادبية من منطلق ظاهرة التجريب التي اضحت مظهرا من مظاهر الابداع الروائي المعاصر .
التناص:
وظف الروائي الخصائص الاسلوبية في خطابه الروائي منها اسلوب التناص والانزياح حيث استهل في جميع فصول الرواية تناصاً سواء كان في الأدب والفن، ورموز لشخصيات أدبية وفلسفية ونفسية “افلاطون ، فرويد، راسل براند ، فردريك نبتشه ،وودي آلن ، قسطنطين جيروجيو، سيلفيا بلاث، أحلام مستغانمي، فيكتور هيجو، سيمون دي بوفوار،ميخائيل شيشكين، آلان مور، وفلاسفة تنوعت مواضيعها بين الصوفية والفلسفية والشعرية والدينية والفنية.
في تقنية فنية تعبيرية وجمالية وظف الروائي تناصاً يتضح من خلال المفردات التي وظفها مفردات نفسية
” أود لو أن أتقيأ قلبي ” سيمون دي بوفوار
“مشاهد قريبة وبعيدة . سماء الذاكرة متكدرة بضجيج وصخب في لحظة خرس كادت أن تتراقص خارج هذا الدماغ المشوه بالكسل . هذا الدماغ ثقيل بالأفكار والعقاقير والكلمات والذكريات والشروخ . هذا الدماغ النازف تقريباً الى حد أعصاب أصابع الاقدام ” ص112
شخصيات مأزومة
استطاع الكاتب ان يلج في اعماق الشخصيات ويحلل سلوكها ويقدمها لنا من جميع الابعاد الجسمية والنفسية حيث يصور عالمها الداخلي والخارجي وعلاقتها الاجتماعية محاولا بذلك ربط الأحداث حتى يتمكن المتلقي من رسم صورة شبه ناضجة حول تلك الشخصية حيث تعمل الشخصية كمحرك أساسي للعمل الفني فهي القطب الذي يتمحور حوله الخطاب السردي يستخدمها الروائي لتصوير هذه الحوادث ومن خلال الشخصيات المتحركة ضمن خطوط الرواية الفنية ومن طبيعة العلاقات التي تربط كل شخصية يستطيع الكاتب مسك زمام عمله وتطوير الحدث من البداية حتى لحظات التنوير :
“في أحد أمسيات نوفمبر . يمتثل ” نديم على الرصيف ، يتأبط كآبته ، مرتقباً سيّارة أجرة . سرح نظره الى نفسه وتساءل : منة أنا؟ أنا لمن ؟ أي شيء أفعله ؟ لمن أرتب نفسي كل يوم؟ ألى أي حد يشعر بالمضاعة ؟ عارٌ أن يجد نفسه في هكذا صخب . لم يكن حقيقياً ولا زائفاً. كان يشعر فعلا بأشياء كثيرة ومنها رهيبة ” ص6
استخدم الكاتب ادوات وآليات السرد الفنية باستخدام المنولوج والحلم والتداعي التي بواسطتها رصد وضع المجتمع من خلال شخصياته الروائية بأبعادها المختلفة كالبعد الجسمي والبعد النفسي للشخصية والاهتمام بعملها الداخلي وبنوازعها وأفكارها وما تواجه من رعب سياسي” أجهزة الدولة التي تراقب الناس من مستقرهم ولا تتردد في ترهيبهم ” 168 ، وردود أفعالها ومواقفها والسلوك الفعلي للشخصية في بنية النص الروائي وكل بعد من هذه الابعاد تساهم في رسم صورة ناضجة عن الشخصية الروائية :
” استولى عليه أخطبوط الاذرع الغضبى واعتصر جسده خشية النجاة من هاته المدينة ، شعر أن القيء يستلّ من فمه وقطراته تتساقط ” ص103
احتوت الرواية مهارات سردية عالية وانتقالات بين مستويات السرد زمانيا ومكانيا حيث غاص الروائي في أغوار النفس والكشف عن حالات شعورية واعية، من خلال تفعيل أركان السرد الاخرى من أحداث وشخصيات وعلاقتها وأنشطتها البشرية كما يقسمها فرويد الى ثلاثة:( اللعب ، التخيل ، والحلم ) فالإنسان يلعب طفلا ويتخيل مراهقا ويحلم أحلام يقظة أو نوم وهو في كل هذه الحالات يشكل عالما خاصا به وما اشبه، المبدع بالطفل الذي يلعب عندما يصنع عالما من خيال يصلح فيه من شأن العالم.
” النافذة تذبح بدلا من الحياة .السقف يدمى، ساق المنضدة يبتر، الجدران تخدش . الاثاث يجلد .حفيف الرياح. مدركاً بشيء ما. رافعا ركبتيه ومكتئباً. خائر المبادرة .أدرك الصباح . كان ممزقاً. يتفصد عرقاً” ص19
نلمس أن الصورة المرتسمة في ذهن الكاتب صور تنزاح عن الواقع فهو لا يستنسخ الواقع وانما يحاكيه ويفارقه باستدعائه لمرجعيات المتخيّل عبر فاعلية الخيال او التخيل ليعيد صياغتها وانتاجها..
نراه يوظف مخلوق اسطوري (البعبع )والذي يعني بالانكليزية (Bogeyman ) وهو نوع من مخلوق أسطوري المستخدمة من قبل الكبار للأطفال فيخيفونهم مما يؤدي الى حسن السير والسلوك ، يتم تصويره في الغالب على انه وحش .”البعبع يتعتع الباب ، يستميت في تهشيمه ، عيناه تجولان في الشقة . الساعة تدق. أي شيء عساها ان تفعل؟ تنقر مخالبه المعقوفة بانتظام على خشب الباب وتهمس أنفاسها من صدرها الضيق ” ص169
رسم لنا الروائي شخصياته وتصويرها لذا لجأ الى وسائل وأدوات لرسم شخصياته بدقة وعناية ، تصوير الشخصية من خلال سلوكها وتصرفاتها في اثناء السرد والحوار والصياغة الفنية ليتبين أبعاد الشخصية الخارجية المادية ، البعد الجسدي والملامح والقسمات والابعاد والملامح الخارجية عن طريق تقنية الوصف ليبين ملامح الشخصية التخيلية والاقتراب من واقعيتها وابعادها النفسية والفكرية والاجتماعية ، حيث اجتهد الروائي على لسان سارديه التعبير عن معاناة الشخصيات وتعرية الممارسات اللاأخلاقية لبعض الشخصيات. حيث يعبر لنا في تناص له :
“يبدأ النّاس في الابتعاد عنه وتجنبه .
فذلك هو حال الناس دوما ،
اذا لم يكن لديك شيئا لتقدمه لهم ،
فأنهم دائما ما يذهبوا ويتركوك وحيداً” ميخائيل شيشكين ص118
تطرح الرواية ايضا من اشكالات وقضايا يتعلق بمشاعر وأحاسيس الانثى عندما يمارس عليها القهر جسديا ونفسيا وهي لشخصيات التي كان حضورها عبر السرد الروائي: “انتفخت عينا (نور) عن آخرهما ، كما لو أنهما أطباق ، متفردة في مجابهته . محمومة تواجه هجماته . تفتش عن الخيط الهادي في كومة من الطرقات المتشعبة ، كان لجسدها ذلك الكابوس الطفولي ، يتقاسمه الآلاف مثلها ، تعج بالحركة يخنقها بكلتا يديه . يلاطف ما فوق فخذيها بركبته . يعض طرف أذنها . توقظ الشهوة الغامرة في دواخله الرجراجة …” 195
استثمر الكاتب كل طاقاته الابداعية وتجربته الروائية ليجعل منها نصا مميزاً عبر سارد فاعل في عملية البناء الروائي.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي