د . منى نوال حلمى / مصر
——————————————
تفادى ” الألم ” خيانة عظمى لأنفسنا وللحياة
================================= قال محمود درويش ، 13 مارس 1941 - 9 أغسطس 2008 ، شاعر أقدره وتختبئ فى أعماقى بعضا من حكمته ، وطريقة تذوقه للعالم : " من حُسن حظى أننى أنام وحيدا ، فأصغى الى جسدى ، وأصدق موهبتى فى اكتشاف الألم " . هذه المقولة الفلسفية الشاعرية ، التى تتدفق شِعرا ، وشجاعة وفهما عميقا للحياة وللذات ، اختبرتها عقليا ، وأيضا عشتها بأعصابى وعواطفى واغترابى . وهى تناسبنى تماما ، وتتناغم مع طباعى فى النوم وحيدة ، بجسد أملكه وأقرر أنا ولا أحد غيرى ، مصيره وسلوكياته ومعايير شرفه وكرامته . مقولة تعتبر أن اكتشاف الألم ، موهبة ، تحتاج الى وحدة ، واستغراق وتركيز ، تماما مثل كتابة الشِعر ، والرواية والقصة . وهكذا ترتفع مكانة الألم ، ويفتح لنا دروب أسراره العظيمة ، التى لا تقل أهمية عن أسرار الكون والنفس . أغلب البشر ، يتفنون فى تفادى الألم ، ويهرولون الى المتعة ، وهم يعتقدون أن هذه هى السعادة ، والحياة ذات المعنى . أعتقد أن القضية ليست فى الألم ، أو فى المتعة فى حد ذاتهما . ولكنها كيف ننظر الى الألم ، والى المتعة . كيف يكون الألم طريقا للمتعة ، وسببا جوهريا لعمقها ، وشرطا لا غنى عنه لجنى الثمار المتفردة المفيدة . هناك سوء تفاهم أزلى أبدى ، بيننا وبين الألم . البعض يراه شرا ، والبعض يراه عدوا ، والبعض يراه ضعفا ، والبعض يراه شؤما ، والبعض يراه نحس الحظ ، البعض يراه عائقا أمام الابداع والانجاز ، والبعض يراه سُما فتاكا قاتلا ، والبعض يراه شقاءّ ، والبعض يراه مؤامرة ، والبعض يعتبره داءّ . لكن الحقيقة أن الألم ، هو مصدر كل الاكتشافات العظيمة ، وهو سر النبوغ الفكرى ، وهو الدواء المُرْ الذى نشربه ، من أجل الشفاء وقهر المرض . الألم ، يصنع الفارق بين الانسان الحقيقى ، والانسان الديكور . الانسان الصلب والانسان الهش . الانسان الحكيم والانسان الأحمق . الانسان فى أعلى مكانته والانسان فى أدنى مراتبه . الألم ، هو البطاقة الشخصية الدالة على منْ حقا نكون الآن ، ومنْ سنصبح فى
المستقبل .
لقد عانقت سحابات من الجمال ، لكننى لم أمطر ، ولم أذق نشوة التحليق ، الا حينما امتزجت ، واحتفيت ، بلحظات الألم .
بل أننى أدركت ، أن كل متعة حقيقية ، لا تستطيع الدخول الينا ، الا اذا أخذت ” تأشيرة ” معتمدة ، من الألم .
لا شئ يؤهلنا لمعرفة ، وتذوق الجمال ، مثل ألم ، تنزف له الروح ، وتضطرب معه ، كيمياء الجسد . ألم ، يعتصر الكيان ، ويأبى الا أن نشرب حتى الثمالة ، رشفات المرارة .
الألم ، ليس عضوا غريبا ، ينمو فى جسد الحياة . انه ” القماشة ” المتجددة ، التى صنعت نسيج الحياة ، فى اتقان مبدع . الألم اذن ، هو قدر البشر .
تكمن مشكلة الانسان ، فى كل زمان ومكان ، فى محاولته المستمرة للهروب من نصيبه الطبيعى ، من جرعة الألم ، مدفوعا بقناعة خاطئة ، أن الحياة بدون ألم ، أجمل .
لكننى أعتقد أن الحياة الخالية ، من الألم ، حياة ، لا طعم لها .
وإذا كان الألم ، هو المادة الخام ، أو النسيج الطبيعى ، اختارته الحياة ، لتصنع مأساتها النبيلة ، فإن تفادى الألم ، يعد خيانة عظمى للحياة .
إن الشخص الذى ينتحر ، يقول : ” ألم الحياة أكثر مما أحتمل “.
وأكثر الناس ، يريدون الحياة ، بشروطهم هم ، لا بشروط الحياة . يريدون حياة
هاجرت من وطن الألم . وهذا مستحيل . مثلهم ، كمنْ يريد للطائر التحليق ، شرط
أن يقص جناحيه .
ان الرغبة فى استبعاد الألم ، ليست فقط خيانة للحياة . ولكنها أيضا ، خيانة
لأنفسنا . فقط الألم ، يكشف عن طاقاتنا الكامنة ، وعن قدراتنا المختبئة .
و المفارقة المدهشة ، أنه كلما ازداد الألم ، كلما ازدادت عظمة ما نكتشفه .
الألم نار ، تحرق النفوس الضئيلة ، الخاوية . لكنه نور ، يضئ النفوس الممتلئة ،
الثرية . اذن الهروب من الألم ، ضرر جسيم .
تجارب الألم ، تجعلنا نعيد ترتيب الأشياء ، وتجبرنا على اعادة تأمل الحياة ، وكيف نعيد الانتماء اليها ، والخروج بصياغة جديدة ، تقوينا ، تسعدنا ، وتمنحنا ، الحكمة .
من تجاربى الخاصة مع الألم ، أقول أن كل الأشياء ” الجميلة ” ، تنطوى على قدر ما ، من الألم . المنظر الجميل ، مؤلم . الذكريات الجميلة ، مؤلمة . الفن الجميل ، مؤلم . والانسان الجميل ، مؤلم . والحب الجميل ، مؤلم .
علمتنى الحياة ، ألا أخاف لحظات الألم . علمتنى أن أفتح لها الباب ، أحسن استضافتها ، أتعطر ، وأرتدى لها أجمل أثوابى . أجالسها وأشرب معها نخب زيارة ، لست من الحماقة ، أو التطفل ، لأردها .
الإنسان القادر على التألم العظيم ، هو وحده القادر، على الإحساس العظيم . هو المثقف الأكبر ، والمتحضر الأرقى ، القادر على إعطاء الآخرين إضافة حقيقية ، من المعرفة ، والمحبة ، والفرح .
============================================
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي