المغزل
(قصة قصيرة ) ليلى عبدلاوي – المغرب
جلست كعادتها تغزل الصوف بعد أن أدت صلاة المغرب،أتأملها،نظرة قاسية،وجه عبوس،أعرف الآن عن تجربة أنه كان قناعا لقلب ناصع البياض.
ترملها وهي في مرحلة الشباب ألغى كل أثر للأنوثة،لا كحل، لاحناء ولا انشغال بملابس أو غيرها مما تتوق إليه النساء،لا أحد يكاد يحادثها من أهل بيتنا.
تتخذ من غزل الصوف عملا يشغلها طول النهار ثم تأخذ الخيوط إلى الدرازين في المدينة القديمة يبتاعونها منها أحيانا،وأحيانا أخرى يعتذرون لكثرة العرض وقلة الطلب فتعود خائبة منكسرة.
اقتربت منها عند عودتي من المدرسة، حييتها ،لم ترد تحيتي، واصلت العمل وعيناها لا تفارقان المغزل. سألتها:
-كيف حالك جدتي..؟
لم تجبني، نظرت إلي طويلا،خيل لحظة أني ألمح شبه ابتسامة على محياها الشاحب ،عادت تمرر الخيط الأبيض بين اصابعها.
-لم لا تبتسمين يا جدتي؟
قالت:
-ومن أين للابتسام أن يعرف طريقه إلي يا ابنتي، أنا حكاية الزمن ومأساة تمشي على قدمين.
ركزت نظري عليها وهي تحول الخيوط الرقيقة إلى كرات متساوية الأحجام .تردد أذكارا بصوت خافت ،ترمق باب المطبخ بين الحين والآخر حيث والدتي تعد طعام العشاء، ترشق جدتي بنظرات شزراء من نافذة المطبخ، تهمهم بكلمات:
_أنت تتعبين عينيك يا مسكينة ،لن يشتري منك أحد هذه الخيوط.
أمي تومئ إلي أن أقوم من مكاني، فهمت أن الوقت قد حان لأنجز تماريني المدرسية،توجهت إلى غرفتي، أبي العائد من رحلة صيد فاشلة يرتاح في الغرفة المجاورة منتظرا الطعام ليخلد إلى النوم باكرا، غدا ينتظره يوم طويل كادح في مكتب البريد، أتحاشى الاقتراب منه،أعرف أن قلة حظه هذا اليوم ستجعله سريع الغضب، متصيدا أخطاءنا.
رشقني بنظرة نارية قبل أن يصرخ في وجهي.
-هل حفظت دروسك ؟
رددت عليه وأنا أرتجف:
-نعم يا أبي حفظت كل شيء.
تفرس في وجهي بعينين ملتهبتين وقال متكئا على كل حرف..
- متأكدة؟
أومأت براسي أن نعم ثم مرقت من الباب بسرعة،عدت الى مجلسي قرب جدتي، ايماءات والدتي تتتابع ،نظراتها تتوعدني اكثر.
مائدة العشاء جاهزة، جدتي غارقة في شرودها تجمدت يداها على المغزل، لمحت دمعتين تسيلان على خديها دون أن تفعل شيئا لإيقافهما أنا في المطبخ أوصالي ترتجف ،أتحاشى الاقتراب من مكان أبي، أمي تضع الأطباق والملاعق بعنف على المائدة،سمعتها تمتم:
تبا لحياة لا طعم فيها ولا لون ولا رائحة.
يجلس أبي أولا، يتخذ الجميع مجلسه المعتاد،يتقرفص إخوتي حول المائدة، يامرنا أبي بالبسملة قبل الشروع في تناول الطعام.
الصمت يملأ المكان،يلح أبي على النطق بالبسملة، نشرع في الأكل، تقف اللقمة في حلقي ،لا أحد يتذكرك يا جدتي، لا أستطيع أن أبتلع شيئا، أقوم من مكاني، أسمع أبي يناديني: - الي اين انت ذاهبة.؟
لم أجبه، أقصد غرفة جدتي،أجدها غارقة في الظلام،أناديها:
-لماذا يا جدتي لم توقدي المصباح.؟لقد جن الليل منذ حين، أدخلت الغرفة المظلمة ،يتراءى لي المغزل في مكانه،جدتي نائمة، اقترب منها،أناديها،لا تجيب،أهز كتفها برفق، تميل على الحائط،لا تجيب، نائمة اكيد،الظلام والدموع يحجبانها عني .أناديها،استغرب كيف يمكن لأحد أن ينام بأعين مفتوحة.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي