كلّ شيئ مظلم في سياسات التشغيل في تونس، وكل ما هو مظلم لا ينبغي كشفه، أو حتى بقعة من الضوء لا يجب أن تسقط عليه. مثلما هنالك مناطق يُحظر دخولها، هنالك أسرار يُحظر بثّها. ومن بين هاته الأسرار تتجلّى ظاهرة التشغيل عن طريق المناولة في تونس الّتي كانت تُتناول وراء ستائر الظلّ كلّما تناقلتها الأحاديث.
استقطبت ظاهر العمل بالمناولة اهتمام الشركات الكبرى في تونس، ولاسيّما البنوك التونسيّة، مثل بنك تونس العربي الدّولي المعروف اختصارًا بـ BIAT، الّذيُ يُعتبر رائدًا في شمال افريقيا. يُشير هذا المصطلح إلى طريقة شكل الانتداب-بعقود مؤقتة وظروف عمل قاسيّة وأجور مُتدنيّة، في إطار قانوني مُحكم-الّذي يتمّ عبر شركات خارجيّة وسيطة متخصّصة في تقديم خدمات الموارد البشريّة، ممّا يُقيّض للبنوك من زيادة الربحية دون تقديم أي واجب بتأمين ظروف عمل منصفة. عندما شرعتُ في تدريب إنهاء الدروس الجامعيّة في بنك BIAT أثناء مرحلة الماجستير سنة 2021، لم يخطر ببالي أنّ الموظفين الشباب ينتسبون إلى الشركة المنتدبة الوسيطة “آديكو” وليس للبنك نفسه. كان الموظفون الشباب في البنك مثل الأبقار، أدناهم مرتبة، يحلبهم كبار المسؤولين بكلّ ما أمكن من انتفاع ودون أن يجنوا ما يُثمّنهم. مدعاة لضغوط وفي اعتياصات نفسيّة. لديهم قُصور في العزو إلى شركتهم وهم على تأهّب لمفارقة عملهم حال حيازتهم على عرض أفضل. تعتمد الشركة على نشل أحلام الشباب وطاقتهم وأساليب قمعيّة أخرى. كرامتهم مسحوقة. ملطخين بعطر المهانة، وحتّى أثمن العطور لا يُخفي ما يُمارس ضدّهم.
يُمارس المسؤولون على الموظفين المنتدبين قوّة الترهيب. لأنّ الخوف يجعل النّاس خاضعين. إنّ للسلطة المطلقة مغبّة التسلّط. يصرخ المسؤولون متى شاءوا ويُقابلون بالصّمت. كان الصّمت لحافهم. أكان الصمت؟ الأرجح أنّه الخنوع من جرّاء قوانين المشغل تحت صمت الدولة. الخُنوع ديمومة وظيفتهم ومواصلة تلقي راتبهم. عادة مُثيرة أن يجدوا أنفسهم مدعاة لوابل من الاذلال، وحتى المزيد من الاذلال. كرامتهم مسحوقة. يُهانون وينصرفون إلى العمل من أجل لقمة العيش. ثمّة قاعدة توحدهم ألا وهي ألّا يتذمروا، وألا يُعارضوا، وألّا يطلبوا أدنى طلب. أثناء فترة تدريبي كنتُ أتخيّل أنّ موظفي البنك، يكسرون جدران زنزانتهم بجماع أيديهم، ويتوسلون من أجل الحرية.
أقرّت لي موظفة بالبنك اسمها “أميرة” أنّهم محض بيادق يعملون بالمناولة منذ ثلاث سنوات. ينتمون إلى وكالة مؤقتة تُمارس الرق الحديث وتُسمّى “آديكو”، مسؤول عنها مهدي العيادي في تونس. الشائعات تقول أنّه يُساهم فيها في تونس أرباب البنك كذلك على غرار مروان المبروك وشقيقه اسماعيل المبروك. وتقوم هاته الوكالة بتجنيد الشباب الطموحين برواتب شهريّة مخفضة دون وجود مساواة مع العاملين بالبنك، تتراوح هاته الأجور من ستمائة دينار (178 يورو)، وقد تصل إلى ثمانمائة دينار (238 يورو) إذا كنتَ حاصلا على الماجستير وعملتَ لمدّة ثلاث سنوات فما فوق. تقوم الوكالة بدفع الأجور بدلا من البنك نفسه وتحقّق ربحًا من خلال اقتطاع قسيمة من رواتب المنتدبين. تنتدبُ الوكالة طلاّبًا من جامعات النُّخبة ومن عائلات فقيرة ومُتوسّطة الدخل لاِسْتِرْقَاقهم ورميهم في عامهم الرابع. شعارها التخلّي عن الأحلام والقيم. أهدافها رفع أرباح المستثمرين باستغلال مُوظّفيها. كل تلك الشياكة والأصالة ليست إلّا زيفًا. إنّهم ليسوا بشرًا، وإنّما حيوانات مهضومة الحُقوق. لا يستمعون إلى هموهم اليوميّة. دخلهم بالكاد يُغطّي نفقاتهم. لا يُغلق البنك أبوابه أبدًا من السّاعة الثامنة صباحًا حتّى السّاعة الرابعة والنّصف مساءً. يُغادرون البنك السّاعة السابعة والنّصف ليلا أو حتى الثامنة ليلا. إنّهم لا يأخذون فاصلًا كما كِبار الموظّفين الّذين ينتمون إلى البنك. إنّها تنوب البعض أماكنهم في العمل ليتناولوا الغداء. يعملون ساعات زائدة غير مدفوعة الأجر خشية الطرد. إنّ حذاء الرئيس يُقدّر بنصف راتبها. وجودهم يخفتُ تدريجيًّا إلى أن أصبحوا مثل الأشباح. عبيد القرون الوسطى يقبضون راتبًا أكثر منهم. أقراص تخفيف الألم ردّ فعلي على التوبيخ، والقمع، والألم، ولعله ارجاء الانتحار بنفسه، وعلى الرغم من تفكيرهم الدائم بالانتحار فإنّ البنك سيتصل بالشركة المنتدبة “آديكو” لاستبدالهم، وهم غافلين عن جنازتهم، بموظفين آخرين.
أُلغيت العبوديّة كجريمة شكلًا لكنّها حاضرة مضمونًا. المُوظّف في بنك تونس العربي الدّولي لا يمارس الحُريّة، بل الخُضوع والطّاعة. ممّا يعني إِسْتِحْواذ شخص على آخر. الإنسان الّذي يجلس في قمّة هرم السلطة يحرم أولئك الّذين يجلسون أدناه لرفع من مردوديّة البنك. على حِساب انسانيّتهم. يُجرّد المسؤول العامل من صفاته ليتّخذ سِمة الرقيق. يُقنعه أنّه لا شيء. أمّا إذا حدث وقال “أنا إنسان” فإنّهم يتهدّدونه في الغُرف المظلمة بالبطالة والخصاصة والمرض إلى أن يعزف عن ثورته وينسى أنه خُلق كإنسان ويرجع إلى صفة لاشيئا. فرّقوهم إلى نصفين. نصف مالك للنّصف الآخر. شخص يستعمل شخص آخر. يأتي الاستعمال للأشياء وهم لا يبلغون ميزة الأشياء حتّى. يستقطعُ الموظفون المنتدبون إحدى عشرة ساعة من يومهم ليتزيّنوا بزيّ الرقيق لِقاء ستّمائة دينار (178 يورو) شهريًّا. لا بُدّ أن تظلّ القوانين على ما كانت. ألغى أحمد باي الأول العبوديّة في تونس في 6 سبتمبر 1841 لكنّ العبودية أخذت مُتَعَرِّجات أخرى أرقّ وأنظف. في غابر الزمن كان يُعرف العبد بشكله أمّا بعد ثورة الياسمين سنة 2011 فيُعرف العبد بمضمونه. رقيق الأمس يُباع بشكلٍ دائم أمّا رقيق اليوم فيُكترى لإحدى عشرة ساعة. كان هُنالك سوق للعبيد، اليوم يُوجد مكان عمل للعبيد. يتلاعبون بهم من خلال الخوف، فمن منهم لم يفهم ذلك بعد؟ إلّا من يتبّعون وصايا النّظام التونسيّ. يُشغّل البنك 700 موظّف شاب تونسيّ من خريجي الجامعات الرائدة من أصل 1800 طاقة عاملة التي تعتمد على المناولة. إنّها جريمة، الدولة التونسية صامتة عنها. ما يُخالف الفصول 28، 29، و30 من مجلة الشغل التي تنظم مجال المناولة في البلاد التونسيّة. تُوجّه الشركة المُنتدبة رسائل هاتفيّة إليهم تُنبّه الموظّفين المُتعاقدين من التورّط في الاضرابات إلا برضى المُشغّل.
في 26 جويلية 2021 تمّ توقيع اتفاقية لإنهاء العمل بنظام المناولة بحلول سبتمبر 2023 بعد التوصل إلى اتّفاق مع الجمعية المهنية للبنوك (CBF) عقب اضراب دام يومين، ومع ذلك ظل الوضع على حاله، وإنّما تفاقم سوءًا.
أصبح بنك تونس العربي الدّولي رائدًر في القطاع المصرفي التونسي، من حيث قيمة الأصول ورصيد السيولة والأموال الذاتية، ممّا فتح المجال لسائر البنوك التونسيّة، بما فيها الحكوميّة لتنتهج نفس المنهج في الانتدابات، حيث استعانت هاته البنوك بشركات المناولة-التي في تكاثر في تونس دون رقيب أو حسيب -بتوظيف آلاف التونسيين حديثي التخرّج من كليّات النُخبة بأجور متدنيّة تصل إلى ستّمائة دينار (178 يورو) شهريًّا للعمل لعدّة سنوات، في ظروف عمل مسمومة للغاية، وفي ظلّ استغلال فاحش، وكثيرًا ما يتمّ إنهاء عقودهم قبل نهاية عامهم الرابع، ممّا يعني قبل الحصول على الانتداب القانوني، بعد استنزاف قدراتهم العقلية والعلمية والبدنية، تحت صمت نقابة العمّال الّتي تُسبّق مصالحها على أي اعتبار والدولة التونسيّة المنفلتة مجملًا في هذا الشأن، بَيْدَ أنّ القانون التونسيّ يُحظر هاته الممارسات. وتُشير بعض المعطيات غير الرسميّة إلى أنّ عدّد العمال بنظام المناولة في القطاع العام يتجاوز الخمسين ألف عامل، بينما يزيد هذا الرقم عن حدّه في القطاع الخاص. ويبقى السؤال: لماذا هذه الشركات العالمية مثل “آديكو” و”مان باور” و”كريت” و”Artus” في دول أخرى تحت رقابة صارمة وقوانين تحُفظ فيها كرامة العامل، بينما تُزاول أنشطتها في تونس في ظلّ رقابة منفلتة تُركل فيها كرامة العامل؟
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي