تغريد بو مرعي.. وفلسفات على حافة الروح
بقلم/ محـمـود قـنديـل
كاتب مصري
في كتابها النثري “فلسفات على حافة الروح” تذهب بنا الأديبة اللبنانية “تغريد بو مرعي” إلى عوالم شفيفة تمزج الواقعي بالخيالي، والحقيقي بالأسطوري، في محاولة منها لجذب ذائقة المتلقي نحو الاستمرار في قراءة نصوصها، وتفقُّد رؤاها المفعمة بألق التصوير الفني الجميل.
ولعلَّ العنوان يشير إلى علاماتٍ ثلاث: الحكمة الموجودة في كلمة “فلسفات”، والحافة المتعلقة – أساسًا – بالمكان، والروح الذي هو مخلوق نوراني لا أحد يعرف ماهيته عبر مختلف العصور؛ وإن كان يحمل – في كل الأزمان – معنى السّمو والحياة.
الكاتبة تغريد حين أتت بهذا الثالوث لم تأتِ به من فراغ، بل دفعت به عبر بوتقتها الإبداعية، بُغية تحقيق هدفها الفني وفكرها العميق، ولتعطي للقارئ جرعة دسمة ينشدها دومًا.
إنها تضعنا وجهًا لوجه قُبالة أعماقنا لنرى أنفسنا – على حقيقتها – دون زيف وبغير رتوش، ولابد – هنا – أن نؤكد على أن ثمَّة بواعث حرَّضت كاتبتنا على صياغة هذه النثريات الثرية، وتأتي في مقدمتها، الواقع بتشظيه وتشرذمه، بالإضافة إلى وجودية الإنسان على الأرض، بما يحمله من انقسام وتناقض وازدواجية.
واللافت للنظر ما تتمتع به تغريد بو مرعي من قدرة خلَّاقة على التصوير الفني المنبثق عن ثقافةٍ عريضة لا تخطئ طريقها، ولا تضل الوصول إلى مرادها المنشود.
تقول أديبتنا في مقطعٍ وسمته بـــ “أرصفة الظِّل”:
سقطتْ أرصِفةُ الظلّ
وأنتَ الوهمُ الذي راهنَ على أساطيرِ الأوّلينَ تترقّبُ حبلًا سرّيًا يربطُكَ بِسِفرِ التّكوينِ.
كان المرئيّ منكَ مرهقًا باللعناتِ، وكان مِن الصّعبِ على الوقتِ أن يسيرَ في ظلّكَ التّائهِ،وقدماهُ ملتصقتانِ. بِعرقِ التّبلّدِ.
لنلحظ – هنا – علاقاتٍ شائكةً ووشيجة، تتبدى في الأرصفة والظل، حيث لا يمكن للظل أن يتحد بأصله، كما تتبدى في علاقة الجنين بأمه من خلال حبلٍ سري يضمن له بقاء الحياة وهو في رحمها، وقولها (يربطك بسفر التكوين) ربما يعني التكوين العضوي والنفسي والروحي، المرتبط تمامًا بالتكوين الكوني، كما أشار الكتاب المقدس في أول أسفاره (في البدء كانت الكلمة).
وكثيرًا ما تستدعي تغريد مفرداتٍ دينية، أو تتناص مع نص إسلامي كي تضيء للمتلقي طرائق مقصدها ومبغاها.
وفي نصها “رَعْشَةُ الْأَرْضِ”، تسعى الكاتبة إلى إيجاد نوعًا من التفاعل بينها كإنسان، وبين ما حولها من أشياءٍ تؤنسنها، فتتأثر بها وتؤثر فيها، ويصبح التفاعل الحسي متبادلًا، لدرجة أن الحِجارة – بقسوتها – أضحت تعض شفتيها ندمًا، وربما تعاطفًا مع البطلة أو تشفِّيًا فيها:
لَا أَنكُرُ أَنَّ الرعشةَ الَّتِي هَدْهَدَتْ ترابَ الْأَرْضِ،
رَمقَتْني بِدَهْشَةٍ.
أَغْواهَا امْتِدادُ الخلاء الصّارم فِي أَكْفانِ السُّكُونِ.
مَا حَاجَةُ الْهَرْجِ والمرجِ،وَفِي الزّوايا تعلّقَ الْبَائِسُ بذيلِ الصَّمْتِ، فَوَقَعَ فَرِيسَةَ العَراءِ وَالسَّقَمِ.
مَا حَاجَةُ نَبْضُ الْقَلْبِ،إنْ كَانَتِ الْحِجَارَة تَعضُّ شَفتيهَا ندمًا.!
وتواصل أديبتنا ألقها، في استلهام لُغة فنية تناسب أجواء عوالمها، وتنسجم معها وتتوحد بها، فتقول في أحد مقاطعها:
الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَبَثِ وَالْعَبَثِ، بَلاَهَةٌ سَرْمَدِيَّةٌ .
كَانَ يُبَالِغُ فِي تَصَوُّراتِهِ وَظُنُونِهِ،وفِي أَوَّلِ فُرْصَةٍ لِلْخُرُوجِ،كَانَ يَمْتَصُّ لِيْنَ حِّرّيَتهِ وَيَفِرُّ مِنْهَا.
وَرَغْمَ ذَلِكَ، كَانَ يُحِبُّ الْفَلْسَفَةَ الدِّيكارْتِيَّة، وَيَعْشَقُ المَادِّيَّات والصُّدَفِ الَّتِي تَهُزّ رَأْسهَا بِعَلَامَاتِ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِفْهَامِ.
رَنَّةُ السُّخْرِيَة فِي فَلْسَفَتِهِ،أشْعَلَتْ مَا يُسَمَّى بِالإخْتِيَارِ.
أَنْ تَكُونَ أَوْ لَا تَكُون.
كَأنْ تَنتَحِرَ وأنتَ تَمارِسُ حُرِّيَّةَ الْعَدَمِ مِنْ الْوُجُودِيَّةِ.
فمن المفترض حين نطرح لفظة الفرق بين كلمتين؛ فلابد من وجود خلاف أو اختلاف بينهما، لكن تغريد تعنون هذا المقطع بــ “الفرق بين العبث والعبث…” وتصف ذلك بالبلاهة السرمدية (لا بداية لها ولا نهاية)، وينشأ العبث (الفعل الذي لا جدوى منه) والعبث (بحسب ما يتصوره كل فرد) من هذا التباين حول الأفكار والرؤى.
وذِكْر تغريد لديكارت كصاحب فلسفة (أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود) تدل على الجدلية التي نحياها كل يوم، وموقفنا منها وموقف العالم منَّا.
وتعزف الكاتبة – طيلة نثرياتها – على التضاد (كَأنْ تَنتَحِرَ وأنتَ تَمارِسُ حُرِّيَّةَ الْعَدَمِ مِنْ الْوُجُودِيَّةِ).
إن هذه العجالة لا يمكن أن تفي حق أديبتنا الجميلة تغريد بو مرعي، لكنها إرهاصة لمن يريد الولولج إلى عالم الكاتبة، بحثًا عن أمكنةٍ نورانية عنوانها الفن والإبداع.
ولا نبالغ عندما نقول إن تغريد – بنصوصها المائزة – تستحق العديد من المقالات والدراسات، ذلك أنها سعت – دومًا – إلى سبر أغوار الحقيقة ومشاعر الإنسان.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي