حديث اليراع لجمال عبيد والهمّ العربيّ
بقلم رئيس ملتقى الشّعراء العرب
ناصر رمضان عبد الحميد
ـــــــــ
حديث اليراع
حَديثُ اليراعِ هوَ الكِتابُ الثَّالِثُ لِلأَديبَةِ جَمَال عُبَيْد، بَعدَ كِتابِها الأَوَّلِ “عَلى هَامِشِ الحَيَاةِ” وَكِتابِها الثّاني “نُفُوشٌ مِنَ الذَّاكِرَةِ”. يَأْتِي كِتابُها الجَديدُ “حَدِيثُ اليَراعِ” لِيَتَضَمَّنَ مَجمُوعَةً مِنَ النُّصوصِ الأَدَبِيَّةِ الثَّرِيَّةِ، حَيْثُ تُعَبّرُ عَنْ تَجارِبِ الحَياةِ بِقَلَمِ الأَدِيبِ وَتَأَمُّلاتِ المُبْدِعِ بِرُوحٍ تَتَّسِمُ بِأُسْلُوبٍ رَاقٍ وَشَاعِرِيٍّ، وَتَعْكِسُ رُؤْيَةَ الكاتِبَةِ حَوْلَ الحياةِ وَالكَوْنِ وَالإِنسانِ والهَمّ العربيّ. تُبْرِزُ جَمال عُبَيْد مِنْ خِلالِ نُصوصِها المُتَنَوِّعَةِ عُمْقَ المَشَاعِرِ الإِنسانِيَّةِ وَتَفاصِيلَها المُعَقَّدَةَ، مُسْتَخْدِمَةً لُغَةً فَصِيحَةً، سَهْلَةً وَجَذَّابَةً، مِمَّا يَجْعَلُ الكِتابَ يَتَناوَلُ قَضَايا إِنسَانِيَّةً عربيّة بالأساس وَاجْتِمَاعِيَّةً بِتَعْبِيرَاتٍ شَفّافَةٍ وَرُؤًى فَلْسَفِيَّةٍ عَمِيقَةٍ.
فِيهِ مِنَ النَّقْدِ وَالقِصَّةِ وَالشِّعْرِ وَالمَقَالِ، كَشْكُولٌ – إِنْ صَحَّ التَّعْبِيرُ – مِنَ المَعْرِفَةِ وَالإِبْدَاعِ وَالثَّراءِ الفِكْرِيِّ وَالثَّقَافِيِّ وَالاجْتِماعِيِّ وَالبَلاغِيِّ.
قسمت الأديبة جمال عبيد كتابَها إلى خمسة أقسام كالتّالي :
ـالمقالات
ـالحوارات
ـالقصص
ـالشِّعر
ـالدّراسات
وتدور في معظمها سِياقًا وسباقًا ولحاقًا وعرضًا وطيًّا ونشرًا ولغةً وبلاغةً حول الهَمِّ العربيِّ والاهتمامِ بالنّهضةِ العلميَّةِ والتّعليمِ وبناءِ الإنسان، ولعلّ مَرْجِعَ ذلك يعودُ إلى طبيعةِ عَمَلِ الكاتبةِ جمال عبيد إذ إنّها عَمِلَْت لفترةٍ طويلةٍ منَ الزّمنِ معلّمةً وعانَتْ ما يُعانيه المعلّمُ، ورأَتْ وشاهدَتْ وطافَتْ وعَلِمَتْ أنّ البدايةَ تكونُ منَ التّعليمِ والاهتمامِ بالمدرسةِ والمُدَرِّسِ والمنظومةِ التّعليميّةِ كَكُلّ.
لا تعيشُ الأديبةُ جمال عبيد في كتاباتِها معزولةً عنِ العالمِ الخارجيِّ وإنّما تكتُبُ عمّا تراه وترصُدُهُ عنِ الوَضعِ العربيِّ المأزومِ، فتكتُبُ عنْ غزّةَ وما تمرُّ بِهِ القضيّةُ الفلسطينيّةُ وصَوْتُ الأديبِ المناضلِ يسكُنُ داخلَها، وما يمرُّ به لبنانُ في هذه الأيّامِ من مِحَنٍ ودخولِ بيروتَ على خطِّ النّارِ.
وهذا هو المثقّفُ الحقيقيُّ والأديبُ العضويُّ كما يُطلَقُ عليه مصطلحُ “المثقّف العضويّ”، وهو مصطلحٌ دشّنَهُ المفكّرُ الإيطاليُّ أنطونيو غرامشي أيِ الفاعلُ والمُتفاعلُ معَ ما يجري حوله. فالقضيّةُ لَيْسَتْ تحصيلًا واطّلاعًا ومناصب ودولارات وإنّما هي الثقافة الّتي تفيدُ النّاسَ؛ والمثقّفُ مَنْ يلتحِمُ معهم. الأمرُ ذاتُهُ ينطبقُ على الجامعاتِ والأساتذةِ وقائمةٍ طويلةٍ عريضةٍ والمجمتعِ العربيِّ كما هو مستهلَكٌ ومستنزَفٌ مادّيًّا وأخلاقيًّا وصحّيًّا، فبماذا نفعَتْهُ الجامعاتُ والمعاهدُ العليا… الخ
وهذا ما سوف يلاحظُهُ القارئُ لهذا السّفرِ الماتعِ. “حديث اليراع”
إنّهُ حديثُ الحُبِّ للعَرَبِ والعُروبةِ وجمال عبد النّاصر ومصر .
الأديبةُ جمال عبيد في “حديث اليَراع” معلّمةٌ ومربِّيَةٌ تأخذُ بيَدِ الأجْيالِ في ثَوْبٍ قصصيٍّ ماتعٍ، تحذِّرُهم منَ الحُبِّ الافتراضيِّ والحُبِّ السَّريعِ، تَصِفُ الدّاءَ وتَضَعُ الدَّواءَ.
وحتّى لا أحرِمَ القارئَ من متعةِ القراءةِ والحَجْرِ عليه قبلَ الاطّلاعِ، سأتركُ له شغفَ الإمتاعِ والإبداع.
سوف أقفُ فقط معَ نموذجٍ واحدٍ منَ الشِّعرِ وآخرَ منَ القصصِ نقدًا وبحثًا يليقان بقامةٍ أدبيّةٍ عربيّةٍ، اسمُها حُفِرَ وَسَطَ الكبارِ، إنّها جمال عبيد.
في نصِّها المُعَنْوَنِ
“الزّمن الضّنين”
أستمعُ إليها:
“أيّتها السّحُبُ، أراكِ تركضين،
أليس الفضاءُ الرَّحبُ
مُلكَكِ في مداراتِ العيون؟
كالطَّيرِ في جوِّ السّماء، تُحلّقين وتسبحين؟
تُرى، هل أنتِ
هاربةٌ من الأيّام، من جَوْرِ السّنين؟
أم أنّ عهدّكِ رَفْضُ ظُلْمَ الظّالمين؟
مَن يسخرون منَ الشّعوب
ويسرقون وينهبون،
والبحر
مأوًى للحيارى الهاربين.
تركوا الدّيار
وكلُّهم شوقٌ إلى وطنٍ أمين،
لكنّه القدرُ الدّفينُ
يزِفُّهم للموتِ
في ثوبٍ حزين.
الله يا الله، مِن قَهْرِ الرّجالِ
ومِن ضَياعِ العُمْرِ
في الزّمن الضّنين”.
النّصّ يُعبّرُ عن همومِ الإنسانِ العربيِّ الّتي تتعلّقُ بالظُّلمِ والقهرِ وضياعِ الأمَل. تنطلقُ الأفكارُ منَ التّأمّلِ في حركةِ السُّحُبِ كرمزٍ للحرّيّة، لتنتقلَ إلى تصويرِ مأساة الإنسان العربيّ المتعلّقة بالهجرة واللّجوء ومعاناة الشّعوب المُستضعَفة. يطرح النّصّ تساؤلاتٍ عن العدالة والظّلم، ويبرز المفارقة بين الحُلْمِ بوطنٍ آمنٍ والواقعِ المريرِ الّذي يُفضي إلى الموت والقهر.
إنّه صراعُ الإنسانِ معَ القَدَرِ والظّروفِ الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ القاسية.
ومن هنا تُعَرّي الكاتبةُ الظّلمَ والقهرَ اللّذينِ يدفعان الشّعوبَ إلى الهجرةِ القسريّةِ، وانعكاسَ ذلك على الضّياعِ الإنسانيِّ في “الزّمن الضّنين”.
لجأت هنا المبدعة إلى:
- الرّمزيّة:
السُّحُبُ هي رمزٌ للحرّيّةِ والانطلاقِ، لكنّها في النّصّ تُظهرُ حالةً منَ الهروبِ والقلقِ، ممّا يعكسُ اضطرابَ الإنسانِ أمامَ الظّروفِ.
- البحرُ وهو رمزٌ للمجهولِ والخطرِ، ومأوًى للهاربينَ من واقعٍ مؤلمٍ.
- أمّا الزّمنُ الضّنينُ فهو تعبيرٌ عن شُحِّ الزّمنِ بالخيرِ والعطاءِ، حيثُ يضيعُ العمرُ دونَ تحقيقِ الأمنياتِ.
-استخدامُ الصُّوَرِ البيانيّة: - “أيّتها السُّحُبُ، أراكِ تركضين”: استعارة تُجسِّد السّحُبَ ككائنٍ حَيٍّ يحملُ سِماتٍ إنسانيّةً (الهروب والرّكض).
- “يزِفُّهم للموتِ في ثوبٍ حزينٍ”: استعارةٌ مؤثّرةٌ تُصَوِّرُ الموتَ كَحالةٍ احتفاليّةٍ ساخرةٍ، ما يُبرزُ المفارقةَ المؤلمةَ.
- “من قَهْرِ الرّجال”: تعبيرٌ مجازيٌّ يدلّ على الانكسارِ النّفسيِّ والإنسانيِّ أمامَ جبَروتِ الظّروفِ. -الإيقاع الموسيقيّ:
استخدام السّجَع والجناس غير المتكلّف في عباراتٍ مثل: “تحلّقين وتسبحين”، “يسرقون وينهبون”، ممّا يُضفي انسجامًا موسيقيًّا على النّصّ.
-التّكرار في “الله يا الله” يعكسُ نغمةً دعائيّةً وشحنةً وجدانيّةً تُعمّقُ التّأثيرَ العاطفيّ.
-التّناقض (المفارقة):
بين “الشّوق إلى وطنٍ أمينٍ” و”القدَر الدّفين”، وبين “حلم الحياة” والموت في “ثوبٍ حزين”. هذه المفارقة تضاعف الشّعور بالمأساة.
-الجانب العاطفيّ (الوجدانيّ):
النّصّ مشحون بالعاطفة، حيث يمزج بين الحزن العميق والاحتجاج ضدّ الظّلم. تتجلّى مشاعر القهر، والخوف، والحزن بشكل بارز، ممّا يجعل النّصّ يلامس القلوب ويثير التّأمّل لدى المتلقّي.
-الأسلوب الإنشائيّ:
- استخدام النّداء في “أيّتها السّحب” لإظهار حالة التّوجّه إلى عنصر غير إنسانيّ كوسيلةٍ للتّعبير عن الاغتراب.
- الأسئلة البلاغيّة مثل “تُرى، هل أنتِ؟” تدعو القارئ للتّفكير والتّفاعل مع النّصّ.
- الأسلوب التّقريريّ:
في المقاطع الّتي تَصِفُ معاناةَ الشّعوب، مثل: “مَن يسخرون من الشّعوب ويسرقون وينهبون”، وهذا يمنح النّصّ واقعيّة.
ومن الشِّعر إلى القصّة
وقصّتَها المعنونة
“ريم والشِّعر والحرب”
كانت ريم الشّاعرة الإماراتيّة، تجهّز حقيبتها بحماس قبل سفرها إلى لبنان. كان المهرجانُ الشّعريُّ الكبيرُ في بيروتَ هو حُلْمُها الّذي تحقّق بعد سنواتٍ من الانتظار، حيث كانت ستلتقي بأشهر الشّعراء وتُقدِّم قصيدتها أمام جمهور يُقدّر الكلمة.
“سأكون بين الأحبّة، سأستمع لصوت الشّعر بين الجبال والبحر”، كانت تقول لنفسها وهي تُغلق حقيبتها. في قلبها كانت الأحلام كبيرة، تأمل أن تعيش لحظة فخرٍ واعتزازٍ بإبداعها.
عندما وصلت إلى بيروت، كان الجوّ يعجّ بالحياة. الشّوارع مزدحمة، والجميع يتحدّث عن المهرجان الّذي سيبدأ قريبًا. لكنْ وفجأة، تردّدت أصوات انفجارات بعيدة، ثمّ تتابع الأصوات بشكل أقوى. ريم استدارت بصدمة نحو السّماء، وعيناها تتّسعان من الرّعب.
بدأت الحروب تنقضّ على المدينة، وبيروت الّتي كانت على وشك أن تصبح ساحة الأدب، تحوّلت إلى ساحة للدّمار. النّاس يركضون في كلّ مكان، والمدن تسقط تحت وطأة القصف.
ريم، الّتي كانت قد حجزت مقعدًا في المهرجان، وقفت هناك، قلبها يخفق بعنف. لم تعد تذكر القصيدة الّتي كانت تنوي إلقاءها، فقد أُخِذَ منها كلُّ شيءٍ تحت وطأة الحرب.
“كيف لأحلامنا أن تبقى حينما تُمطر السّماء صواريخ؟” قالت في نفسها، وهي تغادر المكان، تاركةً وراءها حلمًا تلاشى وسط دمار الحرب.
القصّة تسلّط الضّوء على صراع الإنسان العربيّ مع الحرب الّتي تدمّر الأحلام، وتسلب الأمان، وتحوّل لحظات الفرح والتّطلّع إلى كابوسٍ مليءٍ بالخوف واليأس.
ومن هنا جاءت
الفكرة الأساسيّة: تأثير الحرب على الأحلام الفرديّة والإبداع الإنسانيّ،ثمّ الفكرة الفرعيّة: الحلم، الأمل، والخذلان النّاتج عن الصّراعات.
-الشّخصيّات:
- ريم: شخصيّة محوريّة تجسّد الشّاعرة الحالمة الّتي تجد نفسها في مواجهةٍ قاسيةٍ مع واقع الحرب. هي نموذج للإنسان المثقّف الحالم الّذي يصطدم بواقع مدمِّر.
- الحرب: شخصيّة غير مباشرة، لكنّها المحرّك الرّئيسيّ للأحداث، وتمثّل قوّةً قاهرةً تدمّر الأمل والبهجة.
- الحبكة:
البداية: تبدأ القصّة بحماس ريم واستعدادها لتحقيق حلمها الأدبيّ.
العقدة: الانفجارات الّتي تقلب أجواء الفرح إلى خوف ودمار.
النّهاية: النّهاية مفتوحة ومأساويّة، حيث تترك ريم خلفها حلمها وسط صدمة الحرب.
الزّمان والمكان:
الزّمان: معاصر، ومرتبط بفترة الانفجارات في بيروت والحرب الدّائرة هناك.
المكان: بيروت، مدينة تحمل رمزيّتها الثّقافيّة والجماليّة، لكنّها في القصّة تتحوّل إلى مسرح للحرب والدّمار، ممّا يبرز المفارقة بين الجمال والخراب.
-الرّمزيّة:
- الشّعر والمهرجان يرمزان إلى الإبداع والأمل والطّموح.
- الحرب هي رمز للدّمار والقهر اللّذين يواجهان الإنسان.
- السّماء الممطرة بالصّواريخ: استعارة قويّة تبرز التّناقض بين طبيعة السّماء الحاضنة للحرّيّة والسّلام وبين تَحَوُّلِها إلى مصدرٍ للخوف والدّمار.
-الأسلوب:
- السّرد البسيط المكثَّف: اعتمدت القصّة على سردٍ بسيطٍ لكنّه مليءٌ بالمشاعر، ممّا يسهّل على المتلقّي التّفاعل معها.
- التّكرار: استخدام العبارات مثل “الحرب” و”الحلم” لتأكيد الصّراع الرّئيسيّ في القصّة.
- الحوار الدّاخليّ: يظهر في تفكير ريم مثل: “كيف لأحلامنا أن تبقى حينما تُمطر السّماء صواريخ؟”، ممّا يعكس التّوتّر والدّهشة.
- الاستعارة:
“كانت بيروت على وشك أن تصبح ساحة الأدب، تحوّلت إلى ساحة للدّمار”. وذلك يجسّد التّناقض بين الجمال الثّقافيّ والحرب.
“تُمطر السّماء صواريخ” استعارة تصوّر الحرب كعنصرٍ طبيعيٍّ يقتحم الحياة فجأة.
- التّشبيه:
“ريم، الّتي كانت قد حجزت مقعدًا في المهرجان، وقفت هناك، قلبها يخفق بعنف”، تشبيه ضمنيّ يعكس شعور الخوف والاضطراب.
. الّتناقض والمفارقة:
المفارقة الكبرى تظهر بين استعداد ريم لتحقيق حلمها الأدبيّ في مدينة الثّقافة والجمال (بيروت) وبين تحَوُّلِها المفاجئ إلى مكانٍ مدمَّر بفعل الحرب.
. العاطفة:
القصّة مشحونةٌ بالعواطف، بدءًا من الحماس في البداية إلى الخوف واليأس في النّهاية. الانتقال العاطفيّ السّريع يعكس التّأثير الصّادم للحرب على الإنسان العربيّ. كما تُبرز القصّة تأثير الحروب على الإنسان العربيّ وأحلامه، وتدعو بشكل غير مباشر إلى التّفكير في معنى الإنسانيّة وسط صراعاتٍ لا ترحم.
القصّة تعكس أهمّيّة السّلام وأثره في الحفاظ على الإبداع والحياة. فالحروب تريد أن تقضي على إبداعنا؛ إذ كيف يُبدع مَن يقفُ تحت النّيران؟! ربّما هو ينتظر الموت ولم يجده.
في النّهاية أباركُ للأديبة جمال عبيد وأتمنّى لها التّوفيق والسّداد.
ومعها أردّد مع شوقي أمير الشّعراء:
“إنّ الّذي جعل الحقيقة علقمًا
لم يخل من أهل الحقيقة جيلا”.
في ماتعته
“قم للمعلّم وفِّهِ التّبجيلا
كاد المعلّم أن يكون رسولا”.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي