القراءة حياة
لم تكن القراءة يومًا مجرد عادة أقوم بها، بل كانت دائمًا شغفي الأول، النافذة التي أطل منها على عوالم لا تنتهي، والجسر الذي أعبر به نحو فكر أعمق، ونحو إدراك أوسع للحياة. منذ صغري، كنت أجد في الكتب صديقًا لا يخذلني، ورفيقًا يفتح لي أبواب المعرفة، فأمضيت سنواتي بينها، أتنقل من كتاب إلى آخر، وأرتشف من كل صفحة فكرة، ومن كل سطر حكمة.
حب الاطلاع هو الذي حرّك في داخلي هذه الرحلة الطويلة. لطالما كنت أسأل وأبحث، لا أكتفي بظاهر الأمور، ولا أقبل بإجابات سطحية. كنت أؤمن أن كل سؤال يقود إلى باب جديد، وكل إجابة ليست سوى بداية لمغامرة أخرى في دروب الفكر. لم أقرأ لأملأ وقتي، بل قرأت لأفهم، لأكتشف، لأتحرر من قيود الجهل، ولأصنع لنفسي عالمًا أكثر اتساعًا من حدود الواقع.
لم أكن يومًا وحيدًا، حتى في أكثر لحظات العزلة، لأن الكتب كانت معي، تهمس لي بأسرارها، وتقدم لي أجوبة لم أكن أجدها في أي مكان آخر. مع كل كتاب كنت أعيش حياة جديدة، أسافر عبر الأزمنة، وألتقي بعباقرة الفكر، وأناقش أفكارهم وكأنني أجلس معهم في غرفة واحدة. كل كتاب قرأته ترك أثرًا في داخلي، وصاغ جزءًا من شخصيتي، وجعلني أنظر إلى الحياة بعيون أكثر وعيًا.
اليوم، بعد كل هذه السنوات التي أمضيتها بين الكتب، أدرك أن الرحلة لا تزال طويلة، وأن كل ما قرأته ليس سوى قطرة في محيط المعرفة. لا يزال الشغف في داخلي متقدًا، ولا تزال الأسئلة تطرق ذهني، تدفعني إلى المزيد من البحث، إلى التعمق أكثر، وإلى مواصلة هذه الرحلة التي لم تكن يومًا مجرد ترف، بل كانت وما زالت جوهر حياتي.
“القراءة للعقل، كالماء للجسد”، وأنا لم أشأ يومًا أن أترك عقلي يذبل، بل رويته بالمعرفة، وأسقيه كل يوم بجرعة جديدة من الفكر، لأنني أدركت أن الإنسان بلا قراءة، مجرد كائن عابر، بينما القارئ يعيش آلاف الحيوات، ويترك أثرًا لا يُمحى.
لعلي، قبل فوات الأوان، أدرك أن رحلتي لم تذهب سدى، وأن الإنسان هو من يحدد طريقه، ويختار بين أن يكون قطرة في نهر المعرفة، أو أن يجف في صحراء الجهل.

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي