ماوكلي: من قصور القطيعية إلى رشد الإنسانية
بقلم: عُلا شيب الدين
في (كتاب الأدغال)، أبدعَ روديارد كبلينغ (1885 ـ 1936)، شخصيةَ “ماوكلي”، ذلك الطفل الرضيع الذي يتوه في إحدى الغابات؛ فيربِّيه قطيعٌ من الذئاب.
ينشأ “ماوكلي” في الغابة، حيث الذئاب، الضباع، النمور، الثعابين، الدببة…حيث يسود قانون الأدغال: (القوي يقتل الضعيف، فالضعيف طعام للقوي. والجريح والمريض هما هدفان للصيادين)، وحيث لا يسود الخير والشر بالمعنى الإنساني القصديّ، ففي “عالم” الطبيعة البحتة، ما من قصدية، كون هذه الأخيرة شيمة للعقل البشري وحده، إذ هو الكائن الوحيد الذي يقصد خيراً، أو يقصد شراً، بينما بقية الكائنات هي كائنات غير قصدية، لا تقصد..لا تنوي.. ولا تُضمِر.
في الغابة،يحاول “ماوكلي” التكيف، لكنه يفشل في البداية، فهو ليس لديه مخالب كالذئاب التي بات “جزءاً” منها، وليس لديه أنياب طويلة تُمسك بالطريدة وتُخضِعها، كما أن سرعته ضئيلة جداً بالقياس إلى سرعة الذئاب، لذلك لم يستطع اصطياد الفرائس في البداية، وتعمَّق في داخله شعور عميق بالنقص.
وكان قد قبل ذات مرة، تحدّي التسابق مع إحدى الذئبات، كونه “شخصية” غير مستسلِمة، مغامِرة، ومقبِلة على الحياة، وكون السباق هو، في معنى ما، تنافس على صنع الأفضل؛ غير أنه أخفق، وبقي متمنياً لو أن لديه مخالب وأنياب وسرعة هائلة. وحيث أن كل الحيوانات تتغلب على تحديات الطبيعة، بوسيلة تكيُّف معينة، فإن “الصدفة” كانت قد هدَتْ “ماوكلي” إلى اكتشاف أهمية وجود “الأداة” في حياته بوصفه “بشراً”، حتى لو كان “جزءاً” من قطيعِ ذئاب..الأداة بوصفها وسيلة تكيف بشرية..أداة من “صنعه” هو، يستثمرها في التكيف الضروري للتغلب على تحديات الطبيعة، ولاستمرار الحياة. لقد اكتشف ماوكلي أداة صيْدٍ، منحتْه ثقةً بالذات، بعدما كادت هذه الثقة تنعدم، من جراء انعدام وجود وسائل تكيف طبيعية كتلك الموجودة لدى الذئاب. إنها أداة للصيد، جعلته يتغلب حتى على أعتى الحيوانات (النمر شريخان). لقد تغلب على “شريخان” رمز الشر، وأتباعه من الضباع، رمز النذالة؛ عبر المبارزة لا الغدر، وعبر أخلاق القتال الرفيعة.. أخلاق الفرسان الشجعان، إذ أن الأشرار يقتلون الحيوانات والبشر على حد سواء!. هناك “شر” رفيع، وهناك شر نذل ودنيء، والشر الرفيع هو ذاك القتال الشجاع، الحامل لقضية محِقَّة، ولمعنى ومغزى حقيقيَّيْن أصيليْن.
يحاول “ماوكلي” إثبات أنه قد كبر ونضج، عبر الإصرار على النجاح في الصيد، لكن ثمة جوهراً إنسانياً بشرياً، ما ينفك يلحّ ويلحّ، ليثبت أن الإنسان يكبر وينضج عبر الاستقلال عن القطيع، إذ هناك ماوكلي “الحيوان”، وماوكلي “الإنسان”، وإذا كان الأول غريزة وفطرة، فالثاني عقل ورشد.. حكمة واختيار.. حُلم وتطلّع. ينضج الإنسان ليس بالشعر الذي يغطي الجسم، ولا بالمخالب والأنياب، بل بالعقل..بالانسلاخ عن الحالة الأُمِّيَّة المَحْضَة..بالقطع مع القطيع. وربما هذا ما يُفهم من طرد أمّ “ماوكلي” الذئبة، لأولادها من الوكر، كونهم قد كبروا، وصار لا بد من الاستقلال عنها..عن حالة الأمية المحضة. إنه الانشقاق والانفصال الذيْن من شأنهما إحداث صدمة تُفضي إلى النضج والرشد والاستقلال والانتقال من مرحلة التلقي التام.. من مرحلة الحيوانية البحتة، إلى مرحلة الفعل والإنتاج والإنجاز والخلق والإبداع. إن جميع الحيوانات تخضع لاختبارٍ يُدعى في قصة “ماوكلي”:(اختبار بداية الحياة)، وهو اختبار يميّز القوي من الضعيف، فيكون الضعيف طعامٌ للقوي. أما بداية الإنسان بوصفه إنساناً، فهي الرشد ـ التعقل والتفكر. في النهاية، يقول “أكيلا” كبير قطيع الذئاب التي طالما ربَّت “ماوكلي” ورعته: “أُخرج من القطيع. أنت إنسان..إنسان“. كان ذلك، قبل أن يقرر “ماوكلي” ـ أخيراً وبعد تردد كبير ـ الذهاب إلى القرية، قائلاً: „ أيها القطيع، لقد قررت أن أخرج من القطيع، وأذهب إلى قرية البشر. أنا مخلوق من البشر ويجب أن أخرج من الغابة”. كانت تلك لحظة حاسمة وصعبة بالنسبة إليه، كونه كان قد تماهى مع الغابة وانصهر فيها مدة من الزمن.كانت وقفة أمام الذات..أمام الحقيقة.
قبل خروجه من القطيع، كان قد التقى برجل عجوز داوى قدمه المجروحة، فبُنيت بينه وبين ذاك البشري أواصر ثقة، من جراء معاملة المسنّ اللطيفة له. ( يُحكى أن الحضارة بدأت، عندما عالج أول إنسانٌ إنساناً آخر مريضاً!). لقد علَّمَه الرجل اللطيف كيفية مقاومة الوحوش بالعصا وبـ”الحيلة”، عندما هاجمتهما الضباع.
كان “ماوكلي” بريّاً، قبل الانتقال إلى القرية ـ الحضارة، حيث بدأت رحلة تهذيب الوحشية بالحب وباللغة، واللطف والخير المتمثل بالفتاة “ميشو”، حفيدة الرجل العجوز الذي طالما داواه وأحسن معاملته. فالحضارة رقة في قبالة التوحش، والإنسانية لطف في قبالة الخشونة. ربما يشدنا هذا إلى التفكر والتأمل بملحمة (جلجامش)، وبـ”عشتار” إلهة الحب والجمال في حضارات منطقة بلاد الرافدين، عندما قادت “أنكيدو” المتوحش، إلى الحضارة.
أخذت “ميشو” على عاتقها، تعليم “ماوكلي” اللغة، وكانت “أزهار”، هي أول كلمة تَعلَّمَها، فصار يميز ـ باللغة ـ النهرَ من السحاب، من السماء..، بعدما كان يعيش في الغابة حياة القطيع..حياة سديمية دونما أدنى قدرة على التمييز. لقد صار ـ الآن ـ يميز الجمال أيضاً ويدرك قيمته حين علمته “ميشو” أن “الزهرة جميلة”، والتمييز، وخاصة تمييز الجمال، خاص بالإنسان فقط..بالإنسان الراشد. وقد يذكّرنا هذا، بما قاله يوماً ما، سيجموند فرويد: „بدأت الحضارة، عندما قام رجل غاضب لأول مرة بإلقاء كلمة بدلاً من حجر”.
مافي القرية ـ الحضارة، يكتشف “ماوكلي” أيضاً العمل وفكرته، حيث يبدأ بتعلم تقطيع الخشب، وفي القرية سيتعلم أيضاً تناول الطعام باليد بدلاً من الفم (أوَلم تبدأ الحضارة ـ أيضاً ـ بأصابع اليد/العمل؟!). ثم، أليست الطائفية..العنصرية..الفئوية..الشعبوية، هذه كلها وما شابه، هي قطيعية قاصرة قصور الضباع و”شريخان”، فيما الإنسانية هي رشد وحكمة..نضج، تعقل، وتفهم؟.
____
عُلا شيب الدين، كاتبة سوريّة، حاصلة على الجنسية الألمانية، تُقيم في مدينة كولونيا الألمانيّة منذ أواخر سنة 2015.
درَستْ كلًّا من الفلسفة والاقتصاد في جامعة دمشق.
عملتْ بعد ذلك كمعلِّمة لمادة الفلسفة في المدارس الثانوية العامة بمحافظة السويداء جنوب سوريا.
كتبتْ في العديد من الصحف والمواقع والمنابر الثقافية العربية.
صدرَ لها في العام 2015 كتاب (ثورة الحريّة السوريّة: أفكار وتأمّلات في المعنى والمغزى) عن دار كتابوك في باريس. وفي عام 2017 صدر لها كتاب (الزَّوبعة) عن دار كتابوك وهارماتان في باريس. وفي عام 2020 صدر لها كتاب (هذا العالم هذه الحياة: مفاهيم وإشكاليات) عن دار الدراويش للترجمة والنشر، فرع بلغاريا. وفي عام 2021 أُعيدَت طباعة كتابها (ثورة الحرية السورية: أفكار وتأملات في المعنى والمغزى) لدى دار الدراويش للنشر والترجمة، فرع ألمانيا.

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي