بين الفنجان والوتين: ميتافيزيقا الاحتضار
نصّ يتخطّى حدود القصيدة ليشيّع مراسم انكسار الكائن في مرايا متشظّية، إذ يفقد العالم خرائطه، ويصبح الدم فيضًا يشير إلى الجهة التي لا وجهة لها. فالقهوة هنا لا تقتصر على كونها مشروبًا يوميًا، بل تتبدى كبرزخ زمني، نقطة عبور بين اليقظة والعدم، حيث الموعد المرتحل في العيون يعبُر ممرًّا آخر نحو هاوية بلا اسم. والإصبع لا يحمل بصمة فحسب، إنّما يخلّف أثرًا في الزمن، كأنّ الوجود ذاته يشقّ ندبةً على جلده.
ثم يظهر المشهد الطافح بالدمّ، الذي لا يتجلّى بوصفه صورة حرب فقط، وإنّما جغرافيا جديدة يُعاد رسمها بلون النّزف. وتتجسّد بلاد الملح كيانًا مصعوقًا، متخشبًا، تائهًا بين الغياب والاستغاثة. هنا يتلامس الواقع بالميتافيزيقا، فتصبح الدموع ذاكرةً تسيل من السرّ الدفين، ومن الهاوية التي اتخذت شكل عينين تحدّقان في اللّاشيء.
اللاجهات… هي انحراف عن يقين الاتجاهات، ذاك المصطلح الذي يلغي مفهوم الخرائط، فلا شمال ولا جنوب، بل فراغ مطلق، يزحف نحوه الجراد،. إنّها حالة وجوديّة، وإرث فناء زاحف على أطراف الخرائط. ومن يشتري خرائط الخراب غير الجراد؟ هو التجسيد الأعمق للموت اللّانهائيّ وغير المعلن الّذي يزحف ببطء، ويمتصّ ما تبقى من احتمالات النجاة
أمّا “أنتِ”، فهي ليست امرأة، ولا كائنًا بعينه، بل كينونةٌ تذوب في الصمت، وموتٌ لا يكتمل، احتضار بلا كفن، نجم لم يمنحه الليل فرصة الانطفاء، فاغتاله الفجر قبل أن يشيّعه الظلام.
هذا النص لا يقف عند حدود الألم الفرديّ، بل يتعدّاه ليُحاكي مأزق الوعي ذاته. بين إدراك الخراب كحالة قائمة ومحاولة البحث عن وعي آخر يتجاوز هذا الفناء، تتجلى القصيدة كفعل مقاومة ضد العدم، لكنّها مقاومة لا تجنح إلى يقين، إنّما تفتح سؤالًا أكثر خطورة: أيّ وعي يمكنه النجاة حين تصبح الجهات بلا معنى، وحين يذوب الحدّ الفاصل بين ما هو كائن وما لم يعد ممكنًا؟
هنا، يتحول النصّ من تسجيل لمأساة إلى طرح فلسفيّ، حيث إنّ العالم ليس متشظيًا فقط، بل هو في حالة إعادة تشكّل دائمة، إذ لا ثابت إلا السيولة المطلقة: دم، دمع، ملح، وزمن يتسرّب ببطء، كأنّه لم يكن.
علي نسر… حين يصبح الشعر معراجًا للكينونة
القصيدة نصّ يفتح كُوًى في جدار الوجود، حيث تُنزف الكلمات وتُختبر المعاني. في هذه المساحة المتماهية بين الفلسفة والشعر، بين الخراب والتشكّل، ينسج د. علي نسر مشهدًا كونيًّا تتقاطع فيه المأساة مع التأمّل، والوجع مع الكشف، والعدم مع ولادة سؤال لا ينتهي.
تتشظّى اللّغة في القصيدة مرايا تعكس وجوه الحقيقة المتعدّدة: الغياب، الاغتراب، احتضار الوطن، تيه الجهات، وانسياب الألم في شكل دمٍ ودمعٍ وذاكرةٍ عالقة بين انطفاءٍ وانبلاج.
تتحوّل القصيدة من وثيقة للفقد إلى بنية شعريّة تتجاوز الألم الفرديّ نحو أفق فلسفيّ أرحب، حيث الخراب مشهدٌ ميتافيزيقيّ، والدم جغرافيا جديدة يُعاد كتابتها في غياب الخرائط.
هنا، يتجاوز النص الحزن إلى وعيٍ أشدّ خطورة، حيث العدم ليس غيابًا مطلقًا، بل تشكّلٌ دائم. هذه هي قوّة شعر علي نسر؛ يجعلك لا تكتفي بقراءة قصيدة، بل تقف على حافّة هاوية فكريّة، تتساءل مع كل سطر إن كنت تسقط أم تتحرّر.
تحيّة للشّاعر والنّاقد د. علي نسر، الذي لا يكتب شعرًا بقدر ما يعيد تشكيل الوعيّ باللّغة، في تجربة تنتمي إلى ذلك الشعر القادر على زلزلة القارئ، بما يخلّفه في النفس من أثر لا يُمحى ولا يهدأ.
***
القصيدة
روائحُ بنّ لها في العيونِ
ارتحالُ المواعيدِ
في ليل فنجانها يرتخي
وتر الإصبع المنحني
يترك البصماتِ عليه تُغيرُ
لتقطع وصل الوتينِ
أرى في سيول الدماء
بلادا من الملح مصعوقة تستغيث
كأنّ مرايا مهشّمةً
من بعيد تشيرُ
الى اللاجهاتِ
خرائطها يشتريها جرادٌ غفيرُ
وراياتها في انهزامٍ بلون الأنينِ
وأنتِ تموتين صمتا بلا كفن
كنجيمات فجر غزاها انبلاج الضياء
وعيناي وادٍ سحيقٌ
كسرّ دفينِ
يسيل على جانبيه الحزينين
دمعٌ غزيرُ
علي نسر…من الديوان

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي