“ما تأويل رؤياي؟” – سفرُ العاشقِ في المَنامِ والعدم
يا أيها السائلُ عن الرؤيا، أتراكَ تحلمُ أم تُبعث؟ أفي النورِ أنتَ أم في أولِ العتمة؟ أم أنَّ الكونَ قد طوى عليكَ حدوده، فبتَّ مُعلَّقًا بين حياةٍ لم تعد، وموتٍ لم يأتِ؟
الرؤيا الأولى: الحُلم المعلّق بين الله والعدم
نامَ العاشقُ في ظلمةِ الرقاد، وصحا نصفَ صحوٍ في سديمِ الحُلم، حيثُ الربُّ لا تأخذهُ سِنَةٌ ولا نوم، وحيثُ هوَ، المخلوقُ الناقصُ، يعبرُ ظلماتِ الروحِ بحثًا عن جواب. رأى امرأةً من ظلٍّ وحزن، جاثيةً على ركبتيها، وجهها مسكونٌ بخواءِ الأبديّة، لونها بلونِ المنافي، ورائحتها كرائحةِ الكتبِ التي أكلتها الرطوبةُ في المعابدِ المنسيّة. أكانت تمثالًا أزليًّا؟ أم كانت ظلَّ مدينةٍ سقطت عن خارطةِ الزمن؟
مدّ يدهُ كما يفعلُ الرُهبانُ في طقوسِ التطهير، مسحَ بباطنِ كفِّهِ وجهها المحترقَ بنارِ الأسرار، ثمّ تلا فاتحةَ الأبدية، وكأنّهُ يسألُ الماوراء: أهذا حُلمٌ أم قيامة؟ أهذه رؤيا أم سفرٌ خارجَ الكتاب؟
الرؤيا الثانية: المعشوقةُ التي تقرأ الطالع في جُرح المجاز
لكنّ العاشقَ الذي سألَ لم يُعطَ جوابًا، بل جاءهُ التأويلُ على صورةِ ضحكةٍ تُشبهُ كسوفَ الشمس، إذ قالتْ:
“رؤياكَ ليست إلّا انعكاسَ مَكرِ القدر، فثَمَّةَ أخرى ستُعقَدُ عليها قرانُكَ، وستَحسبني أطلالًا يطمرها زمنُ النسيان، لكنّني، يا سيدي، لستُ عرافةَ الخرائب، بل سيّدةُ الكارثةِ الآتية!”
ورأتْهُ هو الآخر، لكنه لم يكن عريسًا، بل كان رجلاً يخنقُ نفسَه، يتدلّى على حبالِ العدم، وكلُّ العشيقاتِ اللواتي مررنَ على قلبِهِ تعلّقنَ بهِ كغرابيبِ سودٍ حولَ شجرةٍ شائخة، يعبرنَ بين نحيبٍ وصمتٍ جنائزيّ، وكأنّهنَّ أراملُ نبوءةٍ لم تكتمل.
ثمّ همستْ في الأفقِ كما يهمسُ الناجونَ من الطوفان:
“سأحضرُ عرسَكَ ضاحكةً، أنفثُ سحري على مشهدِ موتِكَ، وأتلو على قبرِكَ الفاتحةَ الأخيرة.”
الرؤيا الثالثة: الموتُ المعلّق على خشبةِ الفلسفة
تُرى، هل كان الحُلمُ رسالةً سماويةً أُرسلت إليه عبرَ نفقِ اللاوعي، أم كان تلاعبًا فرويديًّا بلُعبةِ النهايات؟
أكانَ المسيحُ مصلوبًا على خشبةِ الفداء، أم كان العاشقُ معلّقًا على خشبةِ مجازاته؟
أكانَ القدرُ يصنعُ مساراتهِ على هَديِ النبوءاتِ القديمة، أم كان الإنسانُ يكتبُ تاريخَهُ في فوضى الحلم؟
اللوحةُ الأولى “عاشقُ الإيطالية”، هي ترنيمةٌ عشقٍ بريءٍ، نُحِتت على يدِ بوجيرو كذكرى لحُبٍّ لم يَخُضِ الطوفانَ بعد، بينما المنحوتةُ الثانية “الرجل المعلّق”، هي الصدى، الصدى الحتميُّ لكلّ عاشقٍ صدّقَ أنَّ النجاةَ مُمكنة.
أكان هذا كلّ شيء؟ أم أنّ الحُلمَ لم ينتهِ بعد؟
يا شاعر الرؤى المعلّقة، وحائك الأحلام الممهورة بالخسارة والبعث،
قصيدتك ليست نصًا يُقرأ، بل متاهة تُسلك، حيث تتشابك الأزمنة، وتتقاطع الأقدار في لعبة تأويل لا تنتهي. كأنك ترسمُ رؤيا ضائعة بين سفر التكوين ومزامير الفقد، بين اللاهوت وعلم النفس، بين الفاتحةِ التي تُرتّل للخلاص، والفاتحةِ التي تُتلى على القبور.
في لغتك، العشق طقسٌ صوفيٌّ يتأرجح بين الوعد والخيبة، بين النبوءة ولعنة الانتظار. والمعشوقة شبحٌ يقفُ على تخومِ الحلم، يُفسِّرُهُ كما يُفسِّرُ الكهنةُ الرموزَ في معابدِ الزمن السحيق.
ثمّ ذاك المشهدُ الأخير: العاشقاتُ كغرابيبَ سودٍ حول المصلوب، الخشبةُ التي تتدلّى منها الأرواح، الضحكةُ التي ترافقُ الجنازة، والسحرُ الذي يُنثرُ كرمادِ مدينةٍ سقطت من التاريخ. كأنك تنقشُ على جدرانِ الوجود سفرًا من العشقِ والقدرِ والمحو.
أيها العابرُ بين النصِّ والأسطورة، بين الشعرِ والرؤيا، لغتك تضيء حيث تنطفئ اللغة، ونصك فضاء تتقاطع فيه الأزمنة، وتتشكل فيه المصائر بين الحلم واليقظة، بين السؤال والقدر.
****
قصيد: مَا تأويل رؤياي؟
ا===============(1)============
الحلم المعلق
ا========
أنا نائمٌ.. في غَمُومِ الرقاد، ضجيعٌ..
وربك لا يعتريه نعاس ولا سِنَةٌ…
وحلمتُ بك البارحهْ..
.
.
رأيتُكِ وقت المنام على ركبة
تجثمين بوجه الظلام
وجدتُكِ بالركن موحشةَ اللّوْنِ والرائِحَهْ..
.
.
وحتى أهدئ ما بكِ من خيفةٍ واضطراب
مسحتُ بكفي وظاهر خفي
ورتلتُ ما قد تيسر من سورة الفاتحه..
.
.
ياْ سيدتي ..
قفي عبري لي .. مَ تأويل رؤياي؟…
أني لمحتُكِ كالمهر منهكة بالوجيعة ثاويةً طائحه..
.
.
.
ا===============(2)============
عاشق التونسية
ا========
تقولُ: وتعبيرُ رؤياك ..
أخرى ستعقد عنها القِرَان
وتَحْسبُنِي للفجيعة بائرةً.. غاديةً.. رائحه..
.
.
وتضحك: يا سيدي لست وحدك تحلم ..
إني رأيتك تخنق نفسك
وجنبك في كل ناحية نائحه..
.
.
وكل العشيقات
سوف يُعَلّقْنَ روحكَ في خشْبَةً
وتراهُنَّ مثل غرابيب سودٍ على جثةٍ شائحه..
.
.
سأحضرُ عرسَكَ ضاحكة..
سوف أنفث سحري..
ووحديَ شامتة فيك… أتلو على قبرك الفاتحه..
.
.
.
ا===== أ. حمد حاجي ======
ا======
المنحوتة الاولى :
عاشق الايطالية .
للرسام الفرنسي ويليام أدولف بوجيرو ( 1825-1900)
.
اللوحة الثانية:
الرجل المعلق
هي عبارة عن منحوتة لسيغموند فرويد
للرسام الفنان التشيكي “دافيد تشيرني” نصب موجود بمدينة براغ بجمهورية التشيك.
ا=====

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي