
قراءة نقدية تحليلية ونفسية
لقصيدة “ضفاف الرحيل”
الشاعرة سمر الديك
بقلم : الناقد د.عبدالكريم الحلو
قراءة نقدية حديثة
مقدمة :
- في قصيدتها “ضفاف الرحيل”، تقدم الشاعرة سمر الديك صورة شاعرة عن الألم العاطفي والوجداني، مجسدًا في حبٍّ مثقل بالفقد والموت الرمزي.
- القصيدة ليست مجرد وصف لحالة عاطفية، بل تجسد تجربة نفسية وفلسفية معقدة تتأرجح بين الوجع والخلود، الفقد والوجود، الرحيل والاحتواء.
التحليل النفسي:
- في البداية، يتضح أن الشاعرة تُبني نصها على ثنائية متناقضة:
- الحب vs. الرحيل.
- لكن ما يجعل القصيدة تبرز ليس في مجرد هذه الثنائية، بل في الحالة النفسية العميقة التي تُنتجها هذه الثنائية. تفتتح الشاعرة النص بعبارات تُشعر القارئ بأن الحب – رغم حضوره – ليس طاهرًا أو نقيًا، بل هو حب مشوه، مطمور في جرح لا يشفى.
- “تبتعدُ ثمَّ تغيبُ
كأنّكَ تنوي الرّحيل” - هنا، لا تقتصر الكلمات على الحديث عن غياب المحبوب فقط، بل تُترجم الغياب إلى فعل قاسي يعبر عن إرادة الرحيل. إنها ليست مجرد خيبة أمل عابرة، بل هي غربة داخلية تسبح في عمق الذات.
الشاعرة تقدم أيضًا صورة نفسية مضطربة بقولها:
“وأنا أتقلّبُ في مخابئ الشّوق
وجمرِ الوله وصقيع الحنين”
- هذه الصورة تعكس التقلب النفسي بين الشوق الحارق (الذي هو جمر) والحنين البارد (الذي هو صقيع).
- هذا الصراع بين النار والبرد يُجسد حالة نفسية معقدة للذات المتألمة، التي تجد نفسها محاصرة بين الحنين المُبَرّد بالألم، والشوق المتقد بالمعاناة.
- الشاعرة تستخدم الرمزية النفسية بمهارة عالية، مما يعكس الصراع الداخلي بين الذاكرة والواقع، حيث تتداخل العواطف وتُخفي هوياتها خلف رموز فكرية، كما في هذا المقطع:
- “وسهامي ماعادتْ تصطادُ إلاّ النسيان”
- هذه العبارة تُعبّر عن تحول العلاقة النفسية مع الفقد، حيث كان النسيان – الذي يعتبر عملية نفسية للدفاع ضد الألم – هو الهدف الذي تسعى إليه الذات العاطفية. لكن، بالرغم من محاولات النسيان، يبقى الحب طاغيًا على الذاكرة النفسية.
- ثم نجد في القصيدة تطورًا في الوعي الذاتي للشاعرة، حيث تزداد الحدة في الخطاب تجاه الحبيب الذي يرحل. لكنها لا تلومه مباشرة، بل تلوم الفقد ذاته، وتقدم موازنة بين الألم الداخلي والرغبة في التحرر.
- “قدّم لي عذركَ
ثمّ ارحلْ كما تشاء”
هنا، تنتقل الشاعرة من المظلومية إلى القبول، حيث يبدو وكأنها قد اختارت قسوة الرحيل كي تتخلص من هذا العبء العاطفي الثقيل. لكن هناك ألم أكبر في هذا التحول، إذ يظهر الصمت كحالة نفسية بديلة لعلاقة الموت.
التحليل الفلسفي:
- على المستوى الفلسفي، تُقدّم القصيدة مفارقة وجودية بين الوجود والعدم، بين الحياة والموت الرمزي. عندما تقول الشاعرة:
“قدّمْ لي أعذاركَ ثمّ ارحلْ كما تشاء” - هذه العبارة تحمل تسليمًا فطريًا بمعادلة الحياة: الفقد جزء من الوجود. فالفقد لا يأتي بالضرورة ليفرض نهاية، بل ليُعيد ترتيب العلاقة مع الحياة، ومع الذات. في تلك اللحظة، يبدو الرحيل أقرب إلى الحرية الوجودية أكثر من كونه فعلًا سلبيًا.
- كما نجد أن الشاعرة تُحسن بناء التمزق الوجودي في هذا المقطع:
- “فمنْ أنتَ
حتى تجعلني هكذا ثلة أشلاء” - هنا، يُبدي النص بعدًا وجوديًا حادًا، كما لو أن العاشقة تُصارع فكرة العدم بعد اختفاء محبوبها. معركة الذات في النص لا تتمحور حول الغضب، بل تدور حول السعي لخلق معنى جديد في غياب المعنى السابق.
- الشاعرة تُقدّم الوجود العاطفي كصراع مرير بين الحضور والغياب، والوجود الأنثوي يُرسم هنا كوجود يبحث عن الهوية وسط فوضى الأحاسيس، لكن في النهاية يبقى الحب هو الكائن الأكثر صلابة:
- “حبّكَ علّمني كيف يكون الهذيان”
*وهو التعبير الفلسفي الأكثر دلالة على التحول الوجودي في الحب: أن يصبح الحب الهذيان، ويصبح الهذيان هو الوجود بعينه.
- منذ البيت الأول، تتكلم القصيدة بلغة الانكسار الأنيق، لا صراخ، لا عويل، بل أنثى تقف عند حافة الوجع، تُراقب الغياب كمن يشهد خسوفًا داخليًا، لا يُدهشه بل يُذوّبه.
- “تبتعدُ ثمَّ تغيبُ
كأنّكَ تنوي الرّحيل” - هنا لا تندب الشاعرة الفقد، بل تضعه على الطاولة كحقيقة نهائية، وتتعامل معه بوعي موجوع.
- القصيدة لا تتوسل، لا تشكو، بل تبني عالمًا من الرماد، تصنع من الألم مصلًا للنجاة. الحب فيها لا يسكن القلب بل الشريان، ولا يُروى بالماء، بل بجمرة الدمع.
- “أُسقيه جمرَ دموعي
ويتدثّر بالأنين” - كأنها أمّ تحضن وليدًا ميتًا وتوهمه بالدفء.
- تتحول القصيدة لاحقًا إلى خريطة للتيه:
- “أتقلّبُ في مخابئ الشوق
وجمر الوله وصقيع الحنين” - هنا العاشقة ليست ضحية رجل، بل ضحية لحبٍ أكبر من حدود الجسد، يتقلب في جسدها كعاصفة.
- هذا التيه ليس ضعفًا، بل فخامة الأسى النبيل.
- إنها لا تسقط، بل تُحلّق نحو الحزن كمن وجد فيه خلاصه.
- فلسفيًا، النص قائم على ثنائية: الغياب مقابل الحضور الداخلي، والفقد مقابل الخلود الرمزي.
الحبيب يرحل، نعم، لكنه يظل : “بمجرى الشريان”.
الحب يخفت، لكنه لا يموت:
“وسهامي ما عادت تصطاد إلاّ النسيان” - وهذا من أذكى مقاطع القصيدة:
فحتى النسيان صار هدفًا للحب. - لكن الشاعرة ليست مستسلمة، بل مُتيقّنة من المصير، تتلو صلاة الانفصال بلسان نبيّة منكوبة:
- “قدّم لي عذرك
ثم ارحل كما تشاء”
وهنا تكمن عظمة النص:
- أن الأنوثة لا تنكسر بل تعلو، لا تتوسل بل تُقاضي، لا تذوب بل تُعري الحب من قدسيته.
“حبك علّمني كيف يكون الهذيان
كيف يكون الغليان
عند سكون الأكوان”
- أي بيان !
- إنه تصوير عبقري لحالة الشوق حين يصير انفجارًا داخليًا، في لحظة الصمت الخارجي.
- القصيدة في هذا المقطع تمس تخوم الجنون، لكنها لا تنكسر.
بل تُجيد لعبتها حتى النهاية.
“فمن أنتَ حتى تجعلني هكذا ثلة أشلاء؟”
سؤال لا يبحث عن إجابة،
بل يرمي بها إلى قاع الحبيب
ليتعفن فيها.
ثم:
“قدّم أعذارك ثم ارحل كما تشاء”
- نغمة ختام تشبه ختم المرآة المكسورة على الوجه، لا تنهي الح
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي