
“شمسُ المقاومة… في مدار القصيدة”
قراءة في ديوان “خلف حدود الشمس” للشاعرة ليلى بيز المشغرية
في زمنٍ عربيٍّ يضيق فيه الهامشُ أمام الفعل الشعريّ، ويتحوّل الإبداع إلى صدى لمآسي الواقع، يبرز ديوان “خلف حدود الشمس” للشاعرة ليلى بيز المشغرية كوثيقة شعرية ذات بعد نضالي وإنساني وروحي، ترصد من خلالها تحوّلات الجرح العربي، وتؤرخ للمقاومة في وجه الاحتلال، لا بوصفها لحظة سياسية، بل بوصفها هوية كاملة، ممتدة في الوجدان والذاكرة والمصير.
ليست “الشمس” في العنوان مجرّد استعارة للضوء أو للنهار، بل هي مركز الكينونة، الحدّ الأعلى للوعي والحرية. أما “خلفها”، فذلك الفضاء الذي تتجاوزه القصيدة بحثًا عن المعنى العميق، حيث لا تقف الحقيقة عند المشهد الظاهر، بل تتخطاه إلى الجوهر المخبوء في ظلال الفقد والشهادة والأمل.
في هذا الديوان، تصوغ الشاعرة قصائدها على خريطة الجرح العربي، فتبدأ من الجنوب اللبناني، وتحلّق فوق غزة، وتعود لتغتسل بروح السيد حسن نصر الله، فيتحوّل الديوان إلى نشيد رثائي مشحون بالعاطفة من جهة، وبالوعي السياسي من جهة أخرى.
القصيدة بوصفها بوصلة للوجدان الجمعي
في قصيدتها “نور العدالة”، تفتتح الشاعرة ديوانها برثاء السيد حسن نصر الله، في صيغة أقرب إلى النشيد الجمعي منها إلى التعبير الفردي، مما يدل على إدراكها للدور الرمزي الذي مثّله الرجل في وعي الشعوب. هذا الرثاء لا يُقرأ بوصفه بكاءً على الغياب، بل إعلانًا ضمنيًا عن استمرار المسيرة، وعن أن القائد الشهيد تحوّل إلى فكرة باقية، يتناسل منها المجد كما تتناسل القصائد.
اللغة في هذه النصوص مزيج بين الفصاحة والتلقائية، تقترب من الخطاب المباشر حينًا، وتنساب في نهرٍ من المجاز والرمز حينًا آخر. وهذا التوازن بين التعبير السياسي والفني هو ما يمنح الديوان طاقته التأثيرية.
الوطن كمعنى لا يُحتل
تكشف قصيدة “سوف أعود” عن بُعدٍ آخر في تجربة الشاعرة، حيث الغربة لا تُقرأ فقط كابتعاد جغرافي، بل كإحساس وجودي بالنفي من الذات الجماعية. وهنا تندمج القضية الفلسطينية بالغربة الشخصية، لتصبح العودة مرادفًا للعودة إلى الذات، إلى التاريخ، إلى الجذور الأولى التي لا تموت رغم النفي الطويل.
أما “أحقًا هو الاستقلال”، فتتساءل القصيدة لا لتشكّك، بل لتُحرّض على إعادة تعريف مفاهيم الاستقلال والحرية في ضوء التجربة اللبنانية والعربية عمومًا. فالقصيدة هنا لا تُسقط التاريخ، بل تُعيد قراءته بأدوات شعرية.
السيد نصر الله كرمز شعري
الحضور الطاغي لشخصية السيد حسن نصر الله في معظم نصوص الديوان ليس تعبيرًا عن انتماء سياسي، بقدر ما هو اختيار شعريّ لرمز تتقاطع فيه معاني القيادة والفداء والكرامة. وفي قصائد مثل “سيدي الأقدس” و”إني رأيتك سيدي”، نلمح حالة من التجاوز الصوفي لشخص القائد، حيث يتحوّل إلى تجسيد للبطولة الكبرى التي تتماهى فيها الذات الجماعية بالشخص الواحد.
هذه القصائد لا تكتفي بالمدح، بل تعيد صياغة العلاقة بين الشاعر والقائد، بحيث لا يكون الثاني موضوعًا بل جزءًا من نسيج النص ذاته، مناخًا لغويًا وشعوريًا يُحيل القصيدة إلى ما يشبه المَقام الروحي.
ما بين البداية والنهاية: التضحية ثمرة المجد
تضع الشاعرة قصيدتين في طرفي الديوان: “نور العدالة” في البدء، و”فلسطين سيدة المجد” في الختام، لتصوغ بذلك قوسًا شعريًا مفعمًا بالرمزية. الأولى تودّع القائد، والثانية تحتفي بالقضية التي فداها. وكأنها تقول: كل تضحية حقيقية تثمر حريةً قادمة. في هذا البناء الرمزي، يتجلى العمق البنيوي للديوان، حيث يُعاد تشكيل الزمن الشعري وفق منطق التضحية والفداء، وليس وفق تسلسل زمنيّ تقليدي.
في النهاية : القصيدة كفعل مقاوم
ليس “خلف حدود الشمس” ديوانًا مناسباتيًا، بل شهادة شعرية على لحظة مصيرية في الوعي العربي. فيه تتقاطع المأساة مع البطولة، والموت مع الخلود، ويصير الشعر مقاومة لا بالكلمة فحسب، بل بالذاكرة والحلم والتوق إلى المعنى. الشاعرة ليلى بيز المشغرية تُثبت بهذا الديوان أنها لا تكتب من خارج اللحظة، بل من داخلها، لتمنح اللغة حرارتها، وتمنح القارئ جسرًا بين الألم والكرامة.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي