
حرب في الجوار
رزان نعيم المغربي
من شاشة هاتف لا يفارقني، تصفحت الفيسبوك، ضغطت على اسم صديقي الشاعر هادي، وفتحت نافذة الرسائل. الكتابة إليه كانت منقذة لفهم هل أنا في منتصف حلم؟
– كنتُ بين النوم والصحوّ، قرأت نصًّا وضعت عليه علامة إعجاب، رأسي مازال على الوسادة بنفس الوضعية. الآن أكتب لك على وقع حرب أهلية تُدار من قبل هواة لا يجيدون الاقتتال، أسمع صوت تفجير قوي اهتز له البيت، هل يهم؟ لا أدري. لحظة… سأنهض لاستطلاع ما يحدث؟ الاسترخاء في السرير نعمة لا تُقدّر بثمن، أفضل من النوم في ممر البيت الأكثر أمانًا في معظم الأوقات، ونتناول ما تيسر من بقايا الطعام في الثلاجة ريثما يتعب المقاتلون وتحدث هدنة.
دعنا من ذلك، لماذا تعجب بنص تعلم بأنه يتناص مع آخر معروف لشاعر كبير؟ هل قرأته؟ أم وضعت “لايك” فقط؟ أكتب دون انتظار إجابة منك لأعرف أني قرأته ولم أكن أحلم.
– مجنونة رسمي أنت؟
أتابع الكتابة: ابتسم، لأنني بكامل وعي قبضت على حادثة تناص أو سرقة، حتى نحتمل صوت القذائف العشوائية ونستمر في العيش، كل شيء يدعونا للجنون. أريد أن أستلف بعض البهجة مما يعني أني ما زلت على قيد الحياة. حدثني، ماذا تفعل الآن؟ بشكل اعتيادي.
– في الحانة أحتسي البيرة مع الرفاق، قبل لحظات اندلق الكأس على الطاولة، كنت على وشك الخروج، رسالتك طردت آخر ثمالة حصلت عليها. لماذا لا تأتين إلى هنا؟ قرري وسوف تجدينني بانتظاركم على بوابة رأس إجدير.
– تمزح أكيد؟ حقائبنا الصغيرة جاهزة منذ أسبوعين، يوم تم حرق المطار أصبت بانهيار عصبي، بكيت، ثم استسلمت للأقدار.
– إذا ماذا تنتظرين؟
– جواز سفري عالق، كان موعد استلامي صبيحة انطلاق هذه الحرب اللعينة، أغلقوا المقرات، أخبرتك أن صديق زوجي يحاول بالتفاوض مع بعض المقاتلين أن يجد حلاً هناك.
صحوت عندما قرأت نصًّا لصديقك، يحكي عن جسد امرأة يبالغ في وصف رغباته، وتلك الملذات التي صارت من الماضي بالنسبة لي. أيقظني التشابه، ونسيت متابعة أحداث الحرب بالجوار الآن، مثلما حدث! تخيل، سأنهض للبحث بين الكتب عن ذاك النص الشبيه. لقد صحوت تمامًا معك (هههه).
– ألست معنية بالبحث عن أسباب الخراب والدمار؟
– لا طبعًا. الحرب وقعت، وقبلها حاولوا التخلص مني وفشلوا. لهذا أستمتع بالعزلة الموحشة. أبنائي يضعون سماعات الأذن ويستمتعون بما تنقله هواتفهم، ربما ابنتي تتحدث مع صديقها المراهق، وابني يشاهد في أحسن الأحوال مباراة، وزوجي بعيد، ينام عند شقيقه بعد أن تقطعت السبل بيننا، كل حركة غير محسوبة مخاطرة.
– اكتبي ما يحدث.
– نكتبه. اسمع: هل جربت اكتشاف سحر الحياة في ظل خطر محدق؟ تتنفس هواء ملوثًا برائحة البارود، ثم فجأة أثناء سيرك في الشارع المفخخ بكل الأخطار، تشم عطر امرأة تتجاوزك وتمضي، تخمّن؟ هل لديها موعد عاطفي في هذا الوقت؟ كيف أفسر لك تلك المتعة لا أدري؟ إنما توقع حدوثها في أي وقت هنا. كل شيء عادي تمارسه هنا يُصبح بمثابة مواجهة للعاصفة! أنت تكتب عن الحياة هناك، والحرب هنا تجعلك مادة للكتابة.
– نصك قتالياً، ليكن الأدب، لا أستسيغ الاستمناء من حروفه، ألسنة اللهب ترتفع من حولك، تلسع القارئ، تميته وتحييه من جديد. اقتبسي نار جهنم المشتعلة حولك، واكتبي.
– لم تجب بعد! هل التناص حلال أم حرام يا صديقي؟
– هل وقعتِ على نصٍّ ينهش الروح ويصور الخسارة الفادحة في سرقة أرواح الأجساد التي يخلفها القتال؟ يلامس ألمك مما يجري، وعاجزة عن كتابة ما يشبهه؟
– لا، سأجيبك عن هلوسة النهوض من نومي على صوت تفجير قريب. وكيف صارت خطواتي في البيت محدودة، وأحلامي بإعداد فنجان قهوة دون خوف من شظية تخترق نافذة المطبخ.
عن شهر مر علينا أخشى فيه الاغتسال تحت مياه الدش الدافئة. لطالما خشيت أن تسقط قذيفة على نفسي لو حدثت … ماذا أفعل بهذا العري؟ هم تعروا، ماتت أخلاقهم. وصنعوا مني امرأة تتلفّت حولها خائفة من سرقة حقها في الاستحمام، خشية ضمائرهم، تُصبح صور جسدها على ركام منزلها العاري خبرًا في الفيسبوك.
سرقوا مني بهجة الصحوّ، واحتضان أطفالي، ومداعبة قطتي، وغفلة رفة العين مع النعاس. صرت أنام بملابس الخروج ونادرًا ما أخلع حذائي، تحسبًا لمداهمة ما. زرعوا الخوف ويدفعون بك نحو الرحيل أو الموت تحت أنقاض بيتك، الذي كان لك، ولا تعلم لمن يؤول بعد مغادرتك، سواء أقفلت بابه أم تركته مفتوحًا للصوص.
مضى أسبوع لا نفتح باب البيت إلا بعد قرعه ثلاث مرات متتالية، صبي البقالة يضع الطعام، وكلما عاد الأكياس بجوار الباب، اسحبها بخفة، لا وقت محدد لوجباتنا. أرتب جواز السفر على مزاج التيار الكهربائي المتقطّع، وأتواصل بالإنترنت مع زوجي، يقول: حصلنا على طريقة الخروج.
لم أطلب منه أن يعيد سؤالي: “هل تقصد الهروب؟” فكرتُ في صوته، الذي صار لا يُفاجئني، لا يُربكني، لا يُربّت على خوفي. هو يقول “نخرج”، وأنا أتذكر آخر مرة وضع فيها يده على يدي… هل كانت في المطبخ؟ لا، قبل الحرب ربما. الآن، نحن نخرج لأن الحرب تريدنا أن نفترق، لا لأننا نريد النجاة معًا.
كان يتحدث عن تبادل أماكننا كأننا صناديق شحن، لا أجساد خائفة. قال: “أنتِ مع أولاد عمتهم، وأنا مع أولاد أخي.” لم يسألني إن كنت أستطيع رعاية ثلاثة في تلك السيارة، لم يختر الجهة الأكثر أمنًا لي، بل الجهة التي يُفترض أن تقبلني. لم يكن الأمر ترتيب نجاة، بل ترتيب نجاة لنفسه أولًا… ثم لأطفاله، ثم لي.
عبرت بوابة الحدود سيارتان من رتلنا، والثالثة توقفت بسبب استراحة ربما تطول. لنصف نهار أو أكثر، كنت مع أبنائي من الناجين، وزوجي مع أبناء شقيقه هناك.
جلست على رصيف البلاد التي رحّبت بالهاربين، مع كوب قهوة حصلت عليه من مقهى شعبي، فتحت هاتفي، تدفقت رسائل القلقة على مصيرنا. آخر رسالة هادي:
“أكره ما تفعلين، لماذا تستعيرين هدوء القتلة؟”
أضغط على الحروف للرد عليه:
“ها أنا أكتب نص سفر النجاة يا صديقي، خلفت ورائي امرأة تشبهني، تحمل اسمي وملامحي وخوفي، جالسة مرعوبة تحدق في الفراغ، وتحلم بالعيش، وعبرت الحدود امرأة أخرى تحمل في ذاكرتها تفاصيل حرب ستعيش برفقتها إلى الأبد.”
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي