خرجت من الحفلة عند الساعة السابعة، بعد مشاهدة فيلمٍ لم تقرر بعد إن كانت أحبّته أم لا. في الطريق، لاتزال أضواء المتاجر متوهجة، لفت انتباهها أن عدد المارة بدأ اقل من المعتاد في مثل هذا الوقت.
عبرت الشارع، دخلت زقاقًا فرعيًا دون تخطيط. مشاعرها تلك اللحظة ما تزال مثقلة بتأثير الفيلم الذي انتهى للتو. بدأ المطر يتساقط—قطرات ناعمة.. مطر ربيعي لا يخيف، لكنه يبلّل أطراف خصلاتها. لفّت رقبتها بياقة معطفها، ومشت بخطى بطيئة… كأنها تتبع شيئًا لا تراه.
بعد بضع خطوات، لاحظت صالة بواجهة زجاجية، أناس يدخلون ويخرجون، رائحة مخبوزات ساخنة مختلطة برائحة قهوة شهية، تسرّبت إلى أنفها بقوة جذبتها للدخول. لم تدقّق ما هو المكان. لأول مرة تدخل هذا الزقاق أساسًا، وظنّت أنها تدخل مقهىً صغيرًا للاتّقاء من مطر أبريلي لطيف.
حينما فتحت الباب، لم تجد طاولات، ولا قهوة، بل صمتًا جعل للمكان رهبةً، ورأت جدرانًا تتدلّى منها لوحات. يبدو معرضًا!
كانت الرائحة لا تزال هناك، رغم أن لا ماكينة قهوة تُرى، ولا فرن فيه مخبوزات طازجة، لربما كانت قرصة جوع هي من استدعت تلك الذكرى، أو الحنين إلى ما يمنح هذه اللحظة شيئًا من الدفء: قهوة، كرواسان، أو رائحة تشبه الإحساس بالطمأنينة.
تقدّمت بخطوات بطيئة مستكشفة. الصالة مستطيلة، ممتدة بلون بيج مطفأ، والإنارة خفيفة… لا تشبه إضاءة معارض رسمية، بل كما لو أن الضوء ينبعث من داخل اللوحات ذاتها. اقتربت من أول واحدة. توقفت. جفلت. ثم ابتسمت مخفية أرتباك مفاجئ اعتراها.
– “هذا الوجه… أعرفه.”
همست كأنها تخاطب أحدًا غير مرئي.
اللوحة عبارة عن بورتريه لسيدة في بداية الأربعينيات، رُسمت بأسلوب انطباعي، ضربات فرشاة سريعة، شفاه نصف مفتوحة، عينان فيهما نظرة تُشبه تمامًا تلك النظرة التي تراها في مرآة المصعد حين تكون وحدها. همست هذا العمل يستنسخ روح مونيه.
تذكّرت حينها كيف علّقت صديقتها على لوحات مونيه ساخرة:
“نساءه المكتنزات إذا نظرت إليهن من بعيد يبدون أكثر جمالًا، كلما اقتربت منهن فاجأتك تلك التفاصيل القبيحة.”
مضت قليلًا. لوحة ثانية. أسلوبها تغيّر، ألوان مشتعلة، خطوط متكسّرة—أسلوب بيكاسو، لا شك. لكن الوجه… ما زال وجهها. أكثر توتّرًا، أقل وُدًّا، كأن الرسّام انتزع منها شيئًا كانت تُخفيه عن الجميع… وعن نفسها. تراجعت خطوة. تأملت المكان حولها، ولا أحد التفت لارتباكها.
فجأة لمحت في الزاوية، رجل مسنّ يقف أمام لوحة ثالثة، ثم يستدير نحوها يقول بابتسامة خافتة:
– “يبدو أن القصص بدأت تتحدّث.”
لم تفهم. فقال، مشيرًا إلى قلبها:
– ” اللوحات لا تُرسم فقط بالفرشاة… أحيانًا تُستدعى من حيث لا تدري” نظر إليها بعينين كأنهما رأتا اللوحات قبل أن تُرسم، ثم اختفى خلف الزاوية.
تابعت سيرها لتقف أمام لوحة أخرى. الضوء فيها شحيح… نافذة مفتوحة على شارع فارغ، امرأة تجلس على كرسي خشبي، تضع يدها على ركبتها، تحدّق نحو الخارج. النظرة لا تشف عن حزن مقيم، وبذات الوقت لا تنبئ عن سعادة ظاهرة أيضاً، أسلوب إدوارد هوبر.
قالت همسًا:
– “هذه أنا بعد الخذلان العاشر… حين قررت ألا أُبقي أحدًا منتظرًا في القلب.”
تابعت السير. لوحة بألوان ذهبية، الجسد الأنثوي متداخل مع زخارف نباتية، كأن الجسد يتلاشى في الطبيعة، أو الطبيعة تقرر أن تتكلم بجسد امرأة.
بصوت خافت نطقت: أسلوب كليمت. ومن غيره يروق له لوي رقاب النساء؟ شفاهها مضمومة، وعينيها يخفيان فيهما شيء لا يشبهها. قوة؟ سلطة؟
همست:
– “هذه أنا مرة أخرى… كما رآني من لم يعرفني.”
ثم تلتها لوحة مشتعلة، ضربات فرشاة حادّة، ودوامات ضوء وظلّ. وجهها في منتصف المشهد، تفاصيله مضاءةباللون الأصفر بطريقة غريبة، كأن الضوء لا يأتي من الخارج… بل من الداخل. فان كوخ.
قالت:
– ” ما هذا؟ يا إلهي! … حين كدت أن أختفي في يوم صعب، لا أدري كيف مرّ وتجاوزته.”
ثم، توقفت أمام لوحة غريبة التشكيل والانحناءات، الزمن فيها مائع، كأن التفاصيل هاربة، والملامح تذوي، والعينان ذائبتان في شيء يشبه الحلم أو الذكرى المشوّشة. خلف الوجه، ساعات ملتوية، أطياف تتداخل، وجدار ينكمش كما لو أن الذاكرة نفسها تنهار على ذاتها.
أسلوب دالي؟ بالتأكيد. ومن غيره عادت تمعن النظر

- “هذا وجهي… على وشك فقدان تعابيره، يشبه الذكرى حين يساورها الشك. لحظةٌ راودني فيها السؤال: هل أنا ما أراه؟”
ثم استدارت إلى لوحة أخرى، ألوانها فرحة بشكل مربك، خلفية من زهور، والمرأة مستلقية على كرسي وثير، ثوبها خفيف، عينها نصف مغمضة، كأنها تسترخي في لحظة خارج كل ما هو مؤلم.
أسلوب ماتيس، دون شك.
هزّت رأسها وطيف ابتسامة يرتسم على ملامحها:
– آه يا ماتيس … كم تُغريني ألوانك المبهجة، تلك التعبيرية الفجّة، المباشرة، التي لا تعرف المراوغة.” … أجل حين أردت أن أصبح خفيفة، أن أرقص… بلا ذاكرة.”
أثناء تجوالها بين الممرات والفواصل في الصالة، تصلها وشوشات، تحسّها قريبة من أذنها، وكلما التفتت تجدهم اختفوا فجأة…
تتساءل: هل أهتم بالزوار غريبي الأطوار، أم أتابع سيري لاستكشاف هذا العرض المجنون والمبهر؟
ربما عثرت على الفنان الذي سرقني دون أن أدري، فنان مصاب بلوثة جعلته يقتفي أثري، لا بد أنه عاشق سرّي تسنّت له فرصة للغوص عميقًا داخلي…
يا الله، ساعدني بالعثور عليه، أين هو؟ ومن يكون؟ لطالما بحثت عن رجل مثله، يهتم لأمري وها هي الصدفة قادتني كي ألتقي آثاره… بل آثري عليه!
هل يعقل أن اللوحات تردّ عليها؟
أم أن المعرض كلّه، ليس إلا مرآة تنطق؟
ثم لوحة أخرى، هادئة، تشي للمتلقي بالصمت. وجهها طويل، الرقبة مائلة، العينان فارغتان. موديلياني.
ذلك التمثيل الصامت، المهارة التي تتقنها كل امرأة قرّرت ألا تثقل على من تحبّه.
ارتفع صوتها دون حذر :
– ” من يعلم كيف أبدو قبل بداية جديدة؟ على حافة قصة فاشلة، لا أحد يملك تخمين حكايتي أو ردة فعلي تلك اللحظة التي أخشى فيها الانهيار… هكذا أبدو تماماً، حينما قررتُ أنني بخير .”
ثم، أخيرًا… فريدا كالو. ألوان صاخبة، رموز، قرون غزال، قرد صغير على كتفها. جسدها مغروس في الطبيعة. لحظات طويلة، الألم العصيّ على الإخفاء. تتأمل اللوحة وأنفاسها تصعد وتهبط متأثرة بالمشهد…
– ” هذه أنا، في أكثر لحظات جنوني وعنادي وتمردي… كما لم أرني من قبل.”
اللوحة جلبت لها بعض من مشاعر الآسى، ربما. لا تتذكر أنها لعبت دور الضحية يومًا. بل هي شجرة، جذورها تمتد عميقًا، وعاصفة حينما تثور، وتميمة لمن تحب.
تمتمت: - “بلى، بصدق تشبه تلك الليلة التي بكت فيها طويلًا، ثم نزلت لتحادث الغرباء في مقهى، وتضحك. كأنها اختارت أن تعيش… رغماً عن كل شيء.”
ثم بدأت تمشي داخل الصالة، تحتكّ بتجمّعات من الغرباء الواقفين أمام اللوحات. كلما اقتربت لتسأل، أو تقول شيئًا… تسلّل الصمت فجأة بينهم. لا أحد يلتفت. لا أحد يجيب. أصواتهم تتلاشى، تنظر في الفراغ الذي شقه انعكاس ضوء غريب، يسمح لها بالمرور دون أن تُرى. أو ربما تُرى… لكن لا تُلمَس.
في الزاوية المقابلة، ثلاثة أشخاص يلوّحون بأيديهم، وكأنهم يتحدثون عنها، أو إليها. هرولت نحوهم، عيناها تلمعان بأسئلة كثيرة.
أرادت أن تعرف: من رسم هذه اللوحات؟ من التقط روحها بهذا الشكل؟ هل هي… حقًا، هنا؟
حين وصلت، لم تجدهم. فقط هناك باب زجاجي معتم، ينعكس عليه ضوء خافت، وصور أشخاص يمرّون في الخارج.
مدّت يدها ودفعته بلطف. انفتح الباب. سمعت صوت المطر يلمس الأرض، بقطرات صغيرة تتساقط من حافة المظلّة فوق مدخل الصالة.
تلك القطرات كافية… لتخرج من المشهد.
مشَت… والضوء خلف الزجاج ما زال يرتجف.
مشت… تركت وراءها شيئًا منها، خرجت بكامل حضورها على الجدار. وغيابها في هذه المدينة.
لم تلتفت. سارت في الشارع، وسط الزحام، بين أصوات المارّين، وصخب المدينة المفاجئ، عودة المارة، ومع هذا كل ما فيها يوحي أنها غادرت…
لكن داخلها، بقي شيءٌ صغير منه، معلّق على جدارٍ لم يره أحد.
3 إبريل 2021
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي