أناجيل منسيّة وظلال تتكلّم : قراءة في وجع القصيدة وأسئلتها الوجوديّة في قصيدة ” حبيبتي” لتمارا شلهوب جاد.
لا يُكتب النصّ إلا إذا نسي نفسه.
ولا تُقال القصيدة إلا إذا خرجت من جسدها الأول.
في البدء لم تكن الكلمة. ولكن كانت الهوة التي ننتظر أن تُقال فيها الكلمة، ولم تكن المرأة، كان ظلّها المرتعش بين المعنى والصورة.
تمارا… ليست ذاتًا، ولا تجليًّا، إنّما هي احتمال لاهوتيّ أن تكون القصيدة، كائنًا، يتنفّس، يحزن، يرقص…
أن تكون مرآة الوجود حين يتذكّر نفسه كأنثى.
فيها نرى انشقاق الزمن عن أُحاديّته، وانكسار النور عن غطرسته، وارتعاش المعنى أمام جسدٍ يُشبه النبوءة، دون أن يُسمّيها.
هي ليست موضوعًا للقراءة، بل مبدأ كونيّ صغير، يُعلن في سطرٍ ما لم تقله الكتب المقدّسة، ويمحو في ومضةٍ ما تَبنّته الفلسفات.
هي الكلمة التي هربت من اللوح المحفوظ، وأقامت في القصيدة،
كي تجرّب الخلق من جديد، دون طين، دون ضلع،
من نَفَسٍ كان يبحث عن جسد، فوجد الحرف.
في النصّ “حبيبتي” لتمارا شلهوب لا تُخاطب الشاعرة امرأةً بقدر ما تُنقّب عن المعنى الأول للخلق، عن “أنتِ” بوصفها الكلمة التي نُفخ فيها روح الوجود. هنا، تمارا ليست اسمًا. إنّها سرديةٌ كونيةٌ، يلتقي عندها الميثولوجيّ باللاهوتيّ، وتتماهى الذاتُ فيها مع الإلهة، والأنثى مع الفيض الأوّل للحياة.
تسقط الأقمار من قلمها، رموزًا للضوء المُشتت، فتمتد يد “طفولة حرفها” لتلقفها — وكأنّ الكتابة ذاتها تُخلق من دهشتها. تهرب الآيات من أناجيل النسيان خلفها، خلف الإلهة الجديدة التي لا تعيد النصّ إنّما تعيد “جَبْل” الدهشة، أيّ تعيد خلق العالم من جديد، بلغة جديدة، من رحم أنثويّ مقدّس.
يترنّح الزمن في حضورها، ويتقاطع عقرب الساعة في طرفها، لتُبعث الأساطير من رمادها. والزمن لا يسير، بل يتفتّح، كما تتفتّح النبوءة حين تُقرأ عينا امرأةٍ لأول مرة.
أما الجرح، فهو معبرٌ بين الوجود واللّاوجود. و”تمارا” تسكن عند تلك العتبة، تعيد للأغنية نشازها الجميل، وللنوتة ضياعها المفيد، فتتحوّل الأنثى إلى كائن يجبر الكسر بإعادة خلق النغمة.
في هذا النصّ، تجاوزت العيون كونها دفئًا فحسب، لتصبح أداة “خلقٍ رجعيّ”، تعيد للأشياء ذاكرتها: للعطر خبوَه، وللشوكة شتاتها، وللخريف رجفة الصيف في ضلوعه.
فالقصيدة تقيم في برزخٍ بين الخلق والانبعاث، بين الندم والتكفير، بين الأمل وماء الحياة. وتمارا، في ختام النص، تتجلّى كثافةً أنثويةً متجاوزة، “ألفُ أنتِ”، أيّ أنّ كل خطابٍ، كل حوار، وكل فجر، ينبت من أصابعها. فهل من تمارا أخرى فينا، وهل نحمل تماراتنا بصمت،أما زال في وسع الذات، وقد تكسّرت مراياها، أن ترى في “تمارا” أكثر من اسم؟ أن تلمّ شظايا الغياب وتعيدها حضورًا بالكلمات؟
أيمكن للقصيدة، وهي تمشي على حدّ الزمن المكسور، أن تستعيد ما لا يُستعاد، أن تقاوم النسيان بتذكّرٍ لا يكتمل؟
وهل حين ننادي “تمارا”، نكون في الحقيقة ننادي ذلك الغياب الكونيّ الذي يسكننا جميعًا، نحن الذين نحمل أسماءنا كما تُحمل الندوب؟
تمارا تخلط المقدّس بالحميم
كلُّ سطرٍ في هذا النصّ ينزف من جوهر البدء،
كأنّ اللغة لم تُكتب قبله، وكأنّ القصيدة، تجرّ وراءها دهشة الخليقة الأولى،
تمشي على نار المعنى حافية، وتفتح أبواب الذات على احتمالاتها القصوى.
“تمارا” ليست اسمًا، وإنّما استدعاءٌ لحضورٍ أنثويّ يتقاطع فيه الله مع الحرف،
والنبيّ مع العاشق، والجرح مع التجلّي.
هي إلهةٌ، تُبعث من كلماتٍ تُنزّل،
من أناجيلَ تنسى صيغتها القديمة لتتّخذ ملامحها.
في كل مقطع، تلوّح الشاعرة كمن يعيد ترتيب العالم بعد سقوطه.
ينهار وترٌ في حلقها، وتُلحّن النشاز،
تستخرج من الألم أغنيةً تشبه النبوءة.
وفي انكسار النوتة، ينبثق نشيد جديد،
كأنّها تصوغ لحنًا للهروب من العبث.
ثم تأتي اللّحظة التي تصير فيها العتمة شمسًا، يمتد الزمن المهزوم في كفّيها،
ينسكب الضوء جرحًا يصلّي،
والمعنى يشفُّ حتى يلامس قاع الذات.
يتوقّف الزمن عندها، ولا يدور.
يموت العقرب، ويُبعث الوقت في رمشة عينيها.
وهنا تبلغ القصيدة لحظة ما فوق الزمن —
حيث يتحوّل النص إلى مرآة أسطوريّة
تنعكس فيها أوهام القصور وصروح الوهم،
لتنكشف الحقيقة: إنّ كلّ سردٍ كُتب عن المرأة، لم يكن إلا تمرينًا أوليًّا لكتابة “تمارا”.
القصيدة تستحقّ الوقوف عندها طويلًا والتأمّل، لأنّها ليست خطابَ عشقٍ تقليديّ،
بل صلاة كونيّة تكتبها يدُ المعنى على جبهة الزمن، وتوقّعها امرأةٌ تشبه الخلاص.
تشبه الظلّ، بوصفها حضورًا آخرًا، مقلوبًا، حادّ الحواف، لا تُرى كاملةً إلا حين يضعف النور، فهي لا تسكن الجسد ولكنّها تتبعه، تنسخ خطواته على الإسفلت، وتنسلّ إلى جوف اللّغة كمن يكتب على صفحةٍ لا مرئيّة، هي الظلّ الذي لا يلتزم حدود صاحبه، بل يتمدّد خارج المعنى، خارج الضوء، خارج التاريخ، كأنها الدرس المنسيّ من سفر التكوين، والهوامش التي قاومت أن تُدمج في المتن، هي لا تقول شيئًا لكنها تُثقِل الهواء بكثافةِ ما لم يُقَل، تُربك يقينك حين تراها، لأنك لا تعرف: هل هي الأصل وقد تبخّر؟ أم الفراغ الذي يفضح الأصل؟ أم ظلّ الله حين يمرّ على القلب ويُشعل فيه نارًا بلا لهيب، وظلّ القصيدة الّتي لم تُكتب لكنها تطارد كلّ ما يُكتَب، هي الحضور الذي لا يطلب اعترافًا، لكنّه يُربك الاعتراف ذاته، لأنّها لا تشبه أحدًا، ولا حتى نفسها، بل تُشبهك حين تُحدّق طويلًا في داخلك، فتكتشف أنّ كلّ ما تراه ليس وجهك، بل تمارا، تُقيم هناك، مثل ظلٍّ يَعرف كلّ تفاصيلك، وكلّ أماكن كسرك.
وهي خرابٌ، نعم، لكنّها ليست الحطام. هي يد الحطام الخفيّة، الّتي تكسّر، لتكشف أنّ كلّ بناء سابق كان زائفًا، وأنّ كلّ يقينٍ جميل يخفي تحته هشاشة فادحة، هي ليست نهاية الأشياء، ولكنّها نهايتنا نحن، نهايتنا كما كنّا، قبل أن نعرف أن الله يسكن أحيانًا في ظلّ أنثى، وأنّ اللّغة تنهار عندما تهمس عيناها، هي تُدخلنا إلى الفراغ الجميل، وتفتح شقًّا في جدار الكمال لنطلّ على المستحيل، على صورة الذات وهي تتكسّر وتتكوّن في اللّحظة نفسها، عندها لا تبني مجدًا، لكنّها تُفجّر المجد القديم لتعلّق مرآةً على رماده، من دون أن تقول شيئًا، فقط تمشي فوق الركام، وتترك أثر الكعب العالي على قلب اللّغة، ثم تلتفت وتبتسم كأنّها لم تفعل شيئًا، ومع ذلك، ينشقّ الزمن عند ضحكتها، وتنبثق من الرماد قصيدة لا نعرف لها وزنًا ولا قافية، فقط نعرف أنها تمارا، وأنّ خرابها لم يكن دمارًا، وإنّما إنقاذ من كل ما كان مستقرًا وسهلًا، لأنها ببساطة: العاصفة التي ننتظرها دون أن نحتملها، والقصيدة التي تُخلق فقط حين تُهدم اللّغة على رأس قارئها.
خيط من نورٍ فوق تابوت الزمن
الأنثى في القصيدة، إيقاع فلكيّ بُعث الوقت من طرفها، حين تتبع الذاكرة خطى الجسد في عالم لا يعترف بالزمن. ما إن تضعَ قدمك على الأرض حتى تبدأ الأسئلة في التكوّن، ويبدأ السؤال في سؤال نفسه. لا يُكتب النصّ إلا إذا تآمر معه الزمن ليُجرّدك من كلّ أبعادك، حتى تقترب أكثر من اللحظة التي قد تختفي فيها في حركة اللّغة. نحن لا نعيش الزمن، بل الزمن يعيش فينا، ويخلق فينا تمارا، هذه المرأة الّتي تكسّر كلّ الصور القديمة وتترك لنا أسئلة عن الأشياء الّتي كانت تظنها ثابتة، تعود لتتحوّل إلى شظايا تحلّق في الهواء.
هي ليست في الزمن، لكنّها في ما يليه. مثل خيطٍ رفيعٍ يمتد بين الحضور والغياب، وداخل هذه الهوّة، يكون المدى أكثر اتساعًا من المكان، وأكثر حضورًا من الزمن. وهذا هو سرّ الوجود الذي تخفيه تمارا بين سطورها، تلك التي لا تكشف نفسها بكلّيتها، بل تُخرج ما فيها عبر الذاكرة الحيّة الّتي تُحرّك الحرف وتُلهم المعنى.
هي، ليست اسمًا، إنّما نبوءة تتسرّب من فم اللّغة حين تفيض الحروف على احتمالاتها القصوى، امرأةٌ تقيم على الحافّة بين الآية والأسطورة، بين الله والأنثى التي تجلّت، فتتلقّف الأقمار المتساقطة من فم القلم كما تتلقّف الألوهة فكرة الخلق الأول، وتعيد ترتيبه بوصفها خالقة له، وليست شاهدة على عمليّة الخلق، إذ تنفرج عند عينيها بوابات الزمن الخرافيّ، ويغفو في طرفها عقرب الساعة ليُبعث من جديد في صورة أسطورة لم تُروَ بعد، فالدهشة هنا ليست حالة جمالية، بقدر ما هي بنية كينونية يُعاد صياغة الكون على إيقاعها، حيث يتقاطع الخوف مع الحب، والعتمة مع الضياء، والندم مع الحلم، وتتحوّل النوتات الناشزة إلى صلوات تمحو أوزار النغمة الأولى، وتتجاوز تمارا كونها -مجازًا للمرأة – لأنّها تمثيلُ الذات في تجلّياتها القصوى: ذاتٌ تؤمن وتكفر، تحب وتكسّر، تبني المعنى من نسيان الكتب، وتشعل الجرح ليرى الله صورته في مراياها، وبهذا تُصبح كل “أنتِ” في القصيدة بابًا لمعرفة خفيّة، لا تُدرَك بالعقل وحده، وإنّما بالروح حين تنحني على الكلمات كما تنحني الملائكة على صوتها الأول.
الأقرب إلى كينونة تمارا كما تبدو في القصيدة — ليست حضورًا كاملًا ولا غيابًا_، هي تلك المساحة المتأرجحة التي تهزّ المعنى دون أن تقع فيه.
لأنها، ليست امرأة، ولا فكرة، ولا قصيدة… إنّما هي ذاكرة، لا تخصّنا وحدنا، بل تخصّ اللّغة، تخصّ الله، تخصّ الإنسان في لحظة ضعفه.
تمارا ليست ماضٍ مرَّ، بل طريقةُ الماضي في البقاء، ذاكرةٌ لا تُخزّن الحدث، لكنّها تعيد اختراعه كلّما لامستْها الحروف، فهي لا تُختصر بتاريخ، وإنّما بتكرارٍ غامضٍ لما لم يحدث، أو حدث ولم ننتبه إليه، تمارا هي الذكرى الّتي لا نعرف متى بدأت، لكنّها موجودة في الجينات، في نغمة الحزن حين نضحك، في رعشة اليد حين نكتب، في اسمٍ لم نسمّه، لكنّه يخرج من أفواهنا حين نحلم. هي ذاكرة الحواسّ، ومرآة الروح حين تنظر إلى نفسها ولا تعرفها، تذكّرنا بمن كنّا قبل أن نولد، وبما فقدناه قبل أن نملكه، لا تسكن الألبوم، ولا الخزانة، بل تسكن الفراغ بين الصور، والهواء بين الأسماء، والموسيقى التي تُعزف في صمت القلب، لذا هي ليست لحظةً مضت، إنّما هي استمراريّة النزف في الأزمنة، وجذر الحنين الذي لا يجد أرضًا ينبت فيها، لكنها تُنبته…، تُنبته في الكلام، في الحنين، في ارتباك المعنى، وتتركنا نبحث عن أشياء لم نفقدها بعد.
تمارا ذاكرة الإله حين نسي نفسه في جسد امرأة، وذاكرتنا نحن حين نحاول أن نتذكّر كيف كنّا قبل أن نعرف الحُب، أو الكلمة، أو الألم. ولهذا، حين نكتبها، لا نكتبها، بل نُعيد تركيبنا من جديد.
بقلم /ليندا حجازي
القصيدة
حبيبتي،
كلَّما سقطَ من قلمي قمرٌ
تلقفتْهُ طفولةُ حرفِكِ
وهرولتِ الآياتُ الهاربةُ
من أناجيلنا المنسيّة
خلفَ إلهةٍ جديدةٍ
تعيدُ جَبْلَ دهشتِها
حبيبتي،
كلّما انكسرَ في حلقي وترٌ
مرمرتْ شفتاكِ
على خشبِ نشازِهِ
خيوطَ أغنيةٍ
تعيدُ تدويرَ نوتاتِهِ
تلحمُ شقوقَ الحلمِ المبحوح
حبيبتي،
كلّما انهمرَ من شمسي عتمٌ
امتدَ لِكفّيْكِ طيفُ عمرٍ
يتمتمُ لها
في أذنِ الوجعِ
صلاةً منسيّةً
تعيدُ رسمَ شعاعِها المجروح
حبيبتي،
كلّما احتضرَ في الساعةِ
عقربٌ
تقاطعَ والزمنَ في طرْفِكِ
يعيدُ بعثَ الوقتِ القديمِ
لأساطيرَ
وقصورٍ
وصروح
حبيبتي،
كلّما أضاعَت وردةٌ
شوكتَها
أو اشتكتْ لِأمِّها خبوَ عطرِها
انبرى فيضُ طيوبِكِ
ينثرُ فوقَ عطشِ نارِها
نجومًا حرّى بكواكب تبوح
حبيبتي،
كلّما استسلمَ لصيفي خريفٌ
كانت له عيناك دفئا
وطرَفَ رداءٍ
يوقفُ نزفَ ندمِهِ
يملأُ بالأملِ
أجاجينَ الرّوح
حبيبتي
يا ألفَ “أنتِ”
تنبتُ كلَّ نبضٍ
بين أصابعي
كلّما غفا فوقَ خوفي نورٌ
استفاقت من سباتِ دمعِها
مئاتُ الجروح
تمارا


خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي