الاسم: ملاك بيضون
حين يعبر النّور بين الدّيانات – تأمّلات في رواية “شاهد نور عابر الدّيانات” – للدّكتور صالح إبراهيم:
في زمن ٍتكثر فيه الظّلال ويغيب فيه المعنى، تأتي رواية “شاهد نور عابر الدّيانات” للدّكتور صالح إبراهيم، الصّادرة العام 2024م، عن دار البيان العربيّ للدّراسات والنّشر، والمكوّنة من (169) صفحة، كهمسٍ روحيّ في صخب الوجود، كرحلةٍ داخليّة تنبش الأسئلة الكبرى في قلب القارئ، قبل أن تطرحها على ألسنة شخصيّاتها. ليست الرّواية مجرّد سردٍ لأحداث أو توثيقٍ لحكاية، بل نداء من الأعماق: أن اسلكْ، وتلمّسْ، وفتّشْ، فثمّة نورٌ ينتظر من يعبر نحوه. هي سفرٌ من ظلال الذّات إلى شروق الوعي، من الطّقوس إلى الرّوح، من الانتماء الأعمى إلى الإيمان الحيّ.
العنوان ذاته مفتاح الرّؤية: ف”الشّاهد” ليس راوٍ مُحايد، بل روح حاضرة، اختبرت وعبرت، وتأمّلت ودوّنت النّور في قلب العتمة. و”النّور” ليس ضوءًا سطحيًّا بل معرفة، إشراق، يقظة روحيّة. أمّا “عابر الدّيانات”، فليست عبورًا ثقافيًّا أو سطحيًّا، بل عبور داخليّ، يعبر الإنسان فيه من شكل الدّين إلى جوهره، من الطّقوس إلى المعنى، من الانتماء إلى الحقيقة.
الرّواية تُمسك القارئ من يده وتأخذه في عبور روحيّ عميق تتكشّف فيه الأديان لا بوصفها حدودًا، بل كبوّابات إلى معنى أوسع، حيث تمتدّ محبّة الله لكلّ من ينشد الحقّ. وعبر شخصيّاتها الرّمزيّة الكثيفة، تبني الرّواية لوحة وجوديّة تسائل وتوقظ، وتمنح القارئ شرف الشّهادة على النّور.
كلّ شخصيّة في هذه الرّواية تحمل مقامًا من مقامات العبور، وتُجسّد مرحلة من مراحل السّير نحو الذّات العميقة والله. الكاتب يجعل القارئ شاهدًا آخر، يتأمّل النّور كما رآه”سعد”، ويتعثّر ويسير معه، ويُصغي لصوت الرّوح في كلّ حوار وتجربة.
الهدف الأسمى من هذه الرّواية يتجلّى في إيقاظ الأسئلة النّائمة فينا: من نكون؟ ما معنى الإيمان؟ هل هناك دين واحد يقود إلى الله؟ كيف نعرف أنفسنا؟ وأين يبدأ الخلاص؟
ومن بين هذه الأسئلة الكبرى، تمضي الشّخصيّات… شخصيّاتٌ تحمل أرواحًا تُشبهنا، كلّ شخصيّة كانت مرآة لجانب منّا، من وحدتنا، من صراعاتنا، من عطشنا للنّور. وأبرز هذه الشّخصيّات كان “سعد” و”الرّجل الأخضر”، اللّذان جسّدا أعمق مراحل الرّحلة الرّوحيّة.
سعد – السّائل العابر: هو الشّخصيّة المركزيّة؛ بطل الرّواية وجسرها بين العالميْن: عالم المادّة وعالم الرّوح، يُمثّل الذّات الباحثة، التّائهة، المستنيرة في آن. هو سؤال الرّوح حين تضيق عليها قوالب المألوف، وتشتاق للمعنى خلف المعنى. في “شاهد نور عابر الدّيانات”، يُجسّد سعد رحلة الإنسان نحو الله، والولوج إلى ظلام الذّات بحثًا عن بصيص الحقيقة.
الكاتب أراد من سعد أن يكون “الشّاهد” لا بمعنى النّقل والرّواية، بل بمعنى الحضور العميق. إنّه شاهد على إمكانيّة عبور الأديان دون أن تُفقد الرّوح نقاءها، شاهد على الألم والخذلان، وعلى الولادة الجديدة الّتي لا تحصل إلّا بعد أن ننهار أمام أنفسنا. رسالته أنّ الطّريق إلى الله لا يبدأ من خارجنا، بل من أعمق نقطة داخلنا، وأنّ السّير على درب النّور لا يكتمل إلّا بمواجهة الظّلام الكامن فينا.
سعد يتنقّل في الجغرافيا، لكنّه في الحقيقة يعبر تضاريس الذّات البشريّة، من الطّفولة الرّوحيّة إلى النّضج الإيمانيّ، من السّؤال المربك إلى التّجلي الصّامت. لا يتلقّى دروسًا، بل يعيش التّجربة؛ لا يُلقّن، بل يُوقَظ. وكلّ دين يعبره، هو مقام روحيّ يُضيء له زاوية أخرى من الحقيقة، حتّى تكتمل لديه رؤيا لا تتعلّق بدين معيّن، بل بارتقاء الإنسان إلى مستوى أرقى من الوعي والرّحمة والسّلام.
عبر شخصيّة سعد، يطرح الكاتب سؤالًا وجوديًّا كبيرًا: هل الحقيقة واحدة رغم اختلاف الطّرق المؤدّية إليها؟ وهل النّور الّذي يبحث عنه الإنسان محصور في شكل واحد من الإيمان، أم أنّه يسكن في جوهر الرّوح أينما وُجِدَ الصّدق؟ ومن خلاله يُوجّه رسالة شُجاعة وعميقة: إنّ الأديان ليست جدرانًا تفصل، بل جسورًا تُوصل، وإنّ كلّ تجربة صادقة في البحث عن الله، هي طريق صالح إليه. ف”سعد” هو جسر روحيّ، ورحلة من الانقسام إلى الوحدة، من الانتماء الضّيّق إلى الأفق الواسع للرّحمة الإلهيّة الّتي تسع كلّ الباحثين الصّادقين، مهما كانت لُغاتهم أو تسمياتهم.
الرّجل الأخضر: هو شخصيّة رمزيّة كثيفة؛ المعلّم، العارف، ومرشد الرّوح، مَّن لا يُلقِن بل يوقظ، مَن يظهر فقط لمن تاقت نفسه إلى النّور، ومَن تخلّى عن الأجوبة الجاهزة وبدأ رحلة الدّاخل. هو التّجلّي الحسّيّ للّاوعي الّذي كان ينتظر أن ننتبه له، وجوده يرمز للحكمة النّبويّة، للرّوح الإلهيّة الّتي تُرافق السّائرين إلى الحقيقة. حين وعى سعد نوره تلاشى الرّجل الأخضر… لأنّه ببساطة قد عاد إلى مصدره الأصليّ: داخله.
الدّكتور صالح إبراهيم لا يكتب رواية تقليديّة، بل يُؤسّس لنمط أدبيّ يجمع بين التّصوّف والفلسفة والواقعيّة الرّمزيّة. الرّواية تأخذ شكل رحلة، ليس فقط في الجغرافيا بل في أعماق النّفس البشريّة. رحلة سعد، بطل الرّواية، تتقاطع مع رموز دينيّة وفكريّة، ويصحبه فيها “الرّجل الأخضر”، كشخصيّة ملهمة ومرشدة.
السّرد في الرّواية يتعدّد بين الواقعيّ والتّأويليّ، الحواريّ والتّأمّليّ، بحيث تصبح كلّ محطّة في الرّحلة، فرصة للسّؤال، للشّك، للغوص في المجهول.
تطرح الرّواية عبر حوارات سعد مع شخصيّات متعدّدة أفكارًا وجوديّة عميقة:
هل القرب من الله يكون بالزّهد والتّقشّف، أم عبر الصّفاء والإخلاص؟
هل الطّقوس الدّينيّة ضرورة، أم يُمكن الاستغناء عنها حين تنبع المعرفة من الدّاخل؟
ما الفرق بين صورة الله في الأذهان وحقيقته المطلقة؟
هل كلّ فرقة تملك الحقيقة؟ أم أنّ الحقيقة موزّعة بين الأفراد بحسب صدقهم وشوقهم الرّوحيّ؟
كلّ هذه الأسئلة لا تُجاب بشكل مباشر، بل من خلال الحوار، التّأمّل، والانفتاح على الآخرين، في رحلة روحيّة يكتشف فيها الإنسان أنّ الله لا يُختصر في صورة، وأنّ الطّريق إليه ليس واحدًا، بل بعدد القلوب السّاعية إليه.
الرّواية أيضًا تُحاور الجسد والرّوح، الحبّ والموت، وتُعيد تعريف هذه المفاهيم. الموت ليس فناء بل عبور… الحبّ ليس شهوة بل شراكة الجسد والرّوح… الرّوح هي الحقيقيّة، والجسد مجرّد هيئة مؤقّتة.
في النّهاية، تُؤكّد الرّواية أنّ كلّ الأديان تفضي إلى الله، وكلّ إنسان يمكنه أن يعرفه بطريقته إن صدق.
حين تُنهي رواية “شاهد نور عابر الدّيات”، تشعر وكأنّك أغلقت الكتاب، لكنّك فتحت بابًا داخليًّا فيك. رواية لا تُقرأ لتُنسى، بل تُرافقك في محطّاتك، ولتوقظ السّؤال داخلك في كلّ حين: هل أبحث عن الله… أم أبحث عن ذاتي الّتي بها ألقاه؟ إنّها رواية تسكن القارئ، وتُعيد تشكيل أسئلته عن نفسه، عن الله، عن معنى أن تُؤمن وأن تبحث وأن تكون إنسانًا. إنّها شهادة حيّة على أنّ النّور ممكن، وأنّ الطّريق إلى الله يبدأ من داخل الإنسان، عبر القلب، عبر المحبّة، وعبر المعرفة. كلّ شخصيّة فيها تحمل إشعاعًا من النّور، وكلّ لحظة هي تذكير بأنّنا نُوجد لنعرف، نُولد لنستيقظ، ونمضي لنعود إلى جوهرنا. في زمنٍ يمتلئ بالانقسام والتّعصّب، تأتي هذه الرّواية لتقول لنا: النّور واحد، وإن اختلفت طرق الوصول إليه. هكذا تشهد الرّواية على نور الإنسان، وتدلّنا على أنّنا لسنا إلّا شهودًا على النّور الّذي فينا منذ البدء.
الكاتب لا يقدّم أجوبة مغلقة، بل يترك لنا النّور مفتوحًا، ويقول: ها هو الطّريق… فهل أنت مستعدّ أن تعبر؟

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي