
ليس دفاعًا عن الزعيم
في توقيت لا يخلو من دلالة، عاد تسجيل نادر منسوب للرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى السطح، يوثّق حوارًا صريحًا مع الزعيم الليبي معمر القذافي في أغسطس 1970. وقد أُعيد تداوله مؤخرًا عبر “قناة ناصر” على يوتيوب، رغم أنه سبق أن نُشر ضمن موسوعة وثائقية بعنوان “ناصر 67 – هزيمة الهزيمة”، ما يطرح تساؤلات حول الهدف من إثارة التسريب في هذا التوقيت بالذات.
في المقطع، يقول عبد الناصر بوضوح: “لن نحارب… ومن يريد أن يحارب فليأتِ ويحارب”، وهو تصريح استُغلَّ لتقويض صورته التاريخية، وكأن الرجل سلّم بالأمر الواقع. لكن التأمل في السياق السياسي والعسكري لتلك المرحلة يكشف أنه لم يكن ينطق عن ضعف، بل عن واقعية صادمة نابعة من تجربة مريرة في حرب 1967، ورؤية أوسع لمعادلات القوى العالمية.
كان عبد الناصر يدرك أن استرداد ما فُقد عام 1967، بل وما فُقد في نكبة 1948، ليس مجرد إعلان حرب أو تلبية لخطاب حماسي. قالها بمرارة: القوى الكبرى، من الغرب إلى روسيا، تقف خلف إسرائيل. ما الخطأ في ذلك؟ أليست هذه حقيقة تاريخية أكدتها الوثائق والدعم العسكري والسياسي الغربي لتل أبيب حتى اليوم؟
الحقيقة أن الزعيم، رغم الانكسار، أعاد بناء الجيش المصري، وأطلق حرب الاستنزاف، ومهّد الطريق لعبور 1973. لم يكن مُحبَطًا بل متبصرًا. وكان يعرف أن شعارات النصر لا تصنع انتصارات، بل العمل الطويل النفس.
ليس دفاعًا عن الزعيم. بل إنصافًا له، في زمن تُقطع فيه الجمل من سياقاتها، وتُبعث الوثائق لأغراض غير بريئة. فعبد الناصر كان رجل مرحلة، حمل همّ أمة، وواجه وحده قوى أكبر من أن تُستهان. ومن الظلم محاكمته بجملة مقتطعة، لا بخياراته التاريخية الكبرى.
لقد دعم حركات التحرر في الجزائر واليمن وأفريقيا، وأسهم في إنهاء الاستعمار بأشكاله القديمة.
وفي الداخل، بنى المصانع، وأوجد طبقة وسطى قوية، وأتاح التعليم المجاني، وأسس قاعدة اقتصادية ما زالت بعض ملامحها قائمة.
فهل بعد كل هذا نختزله في عبارة مقتطعة من جلسة خاصة؟
في النهاية لمن يريد أن يعرف الحقيقة، إن محاولة تأويل ما ورد في هذه المحادثة بين الرئيس جمال عبد الناصر والعقيد معمر القذافي على أنها تمثّل مجمل موقف عبد الناصر من قضية الصراع مع إسرائيل، تُعدّ تزويرًا للتاريخ وتزييفًا للحقائق.
أولًا، هذه المحادثة جرت في أغسطس عام 1970، ومن الضروري التأمل في توقيتها. ففي ذلك الوقت، كانت القيادة المصرية قد قبلت بمبادرة روجرز، وذلك بوصفها غطاءً سياسيًا لتمرير خطوة استراتيجية مهمة، وهي بناء حوائط الصواريخ في عمق سيناء، وهي الخطوة التي لم يكن العبور ممكنًا بدونها لاحقًا.
بمعنى أدق، كان عبد الناصر قد وافق على المبادرة، بينما كان في الواقع يُجري عملًا حربيًا تمهيديًا بالغ الأهمية. ومن غير الوارد، بطبيعة الحال، أن يكشف هذه الحقيقة للقذافي في حينها.