من جدار اليسار إلى سقف اللّغة: تأويل كونيّ في مجرّة النبض ل “كامل صالح” بقلم الباحثة ليندا حجازي
1_ليس سقوطًا،
إنّه انحناءة ضوءٍ على كتف المجاز. لحظة تتداخل فيها الأزمنة، يتدلّى فيها العاشق من سقف اللغة، وليس من أغصان القلب، وتنكسر الجاذبيّة لتعيد ترتيب الكينونة على هيئة وشوشة.
الصورة، توقيع الحنين على لوحٍ كُتب قبل أن يُخلق الورق. والجدار، قشرة كوكبٍ هشّ، عُلّقت عليه بقايا الانفجار الأوّل، حين اختار النبض أن يتجلّى .في هذا النصّ، يتجدّد العاشق، ويُعاد تشكيله كضوءٍ تائهٍ يجد مساره في ذبذبة المجاز. “خذ صورة ملوّنة”، أمرٌ وجوديّ: وثّق حضورك في كيمياء الذاكرة، علّها تبقى حين تتبخّر التفاصيل. فالصورة أثرٌ كونيّ، شيفرة ضوء، ثُبّتَت في جدار اليسار كما تُثبّّت النجوم في سماء البدء.
و “جدار اليمين”، شقٌّ في جسد المعرفة. من هناك يُطلّ النور على ذاته بعد أن فقد شكل الانعكاس. “قف طويلًا” ليست توصية، بقدر ما هي توقّفٌ للزمن: لحظة مواجهة بين الكائن وصورته حين تتشظّى المرآة وتبقى الحقيقة بلا إطار… فاليمين! هو ضوء الخلق حين التفتَ إلى ظلاله، ووقف يشاهد نفسه في مرآةٍ مهشّمة من فرط ما انعكست عليه كائناته.
لأنّه في المخيال الصوفي والفلسفي، هو جهة النور، جهة المشاهدة.
والوقوف أمام مرآة مهشّمة، لا يعني التأمل في ملامح ذاتيّة، إنّما الانخراط في تفكّك الكينونة: الشظايا تُفصح، الذات ترى تشقّقاتها كأثرٍ لملاقاتها مع الآخر/النص/المطلق.
ثمّة ما يتشظّى، ليتذكّر.
المرآة هنا تفتح مجازًا عموديًّا على الداخل: على الذات حين تُفتَّت لتصير قابلة للمعرفة.
“مرآته المهشّمة”. إنها لحظة اصطدام الذات بتشظّيها. لا تُرى الحقيقة في مرآةٍ سليمة، بل في تلك المتكسّرة، حيث تُفكّك الملامح وتظهر الندوب والخطوط الممحوّة. إنّها مرايا الذات المتعدّدة، تلك التي لا تعكس شكلًا وإنّما تواريخ مخفيّة وأصواتًا منسيّة.
النبض يتبعثر كأنّه المادّة السوداء التي تُمسك المجرّات في اتساقها، كأنّ الحبّ هو اللّا-مرئيّ الذي يُبقي كلّ شيء ممكنًا دون أن يُرى. حيث يتخلّى الجسد عن مادّته ليلتحق بالمجال الطيفيّ لسقف اللّغة.
نيوتن يمرّ من هنا.
لكنّه لا ينظر إلى التفّاحة، ينظر إلى النصّ وهو يسقط إلى أعلى.
ليرى أنّ الجاذبيّة ما يرفع المعاني حين تشتدّ كثافتها، وليست ما يُسقط الأجسام.
ويفهم، أخيرًا، أنّ القلب لا يُطوى لأنّه تجاوزٌ، ومدارٌ، من سكنه أدار الكوكب حول نفسه.
هذا الذي يُبعثر النبض لا يُغادر، إنّه يسكن، يتوزّع في الذبذبات، في الغلاف الجويّ للقصيدة في جدران العاطفة المهجورة .“بعثر ما تبقّى من نبضي”، هنا يبلغ النصّ ذروته الأنطولوجيّة: حيث يتحاوز النبض كونه حالة شعوريّة، ليصبح معمارًا كونيًّا، يُبعثر، ليُعاد ترتيبه بوصفه لبنة في بناء المعنى الجديد. إنها عمليّة تفكيك تؤدّي إلى كشف البنية الأصليّة للكائن: كيف يتشكّل من نبض، وكيف يُعاد ترتيبه حين يمرّ به الآخر.
والصعود، لم يعدْ انتقالًا من أسفل إلى أعلى. لأنّه نزعٌ للكتلة عن الحرف، تصعيدٌ للمعنى عبر نار التلقّي، وعبورٌ من فيزياء اللغة إلى ميتافيزيقا الشعور… ثمّ “اصعد”، دعوة إلى الانبعاث. الصعود هو تحوّل الحالة: من الجاذبيّة إلى الضوء، من الطين إلى اللمعان، من الصدى إلى الأصل. لأنّ الجاذبيّة ذاتها تخلّت عنه حين تجاوز كتلتها
فالقلب، في عليائه، لا يُقفل، لأنّه من البدء كان بوّابة لا غرفة،
نجمًا لا تجويفًا.
2_حين يبعثر النبض مجرّته
النصّ انبثاق لا يُدرك بالحواس، لكنّه يُحدِث فيها تصدّعًا.
يمرّ عبرك كوميض المجرّة، ينفذ من شقوقك، ينقّب فيك عن البدايات الدفينة، ويعيد تشكيلك بكلمات من طينٍ ونارٍ ونور.
تتجلّى القصيدة في قارئها كما تتجلّى الأزمنة لمن انكسر في داخله التوقيتُ، فصار يقرأ الزمن من ارتعاش الظلّ، حيث تنقلك من الأرض إلى مدار لا جاذبيّة فيه إلا تلك الّتي للمعنى حين يشدّك من لُبابك.
في مجرّة النصّ، تتجاور الفيزياء والمجاز
تتبدّد الفواصل بين “السقوط” و”الصعود”، بين “الصورة” و”المرآة”، بين “النبض” و”الكون”.
القصيدة تُعادِل الانفجار العظيم، والانفعال يوازي فعل الخلق.
مرآة الذات تتكشّف. النبض يُسكن من الخارج. والمتلقّي لا يعيش القصيدة، لأنّه يتحوّل إلى عنصر من عناصرها.
ما بعد القصيدة:
هنا نكون في نصّ لم يقع بعد. _ لأنّه مستمرّ في الكتابة —
كل قارئ يُسهم في بعثرة النبض، كل شعور يضيف شظيّة إلى المرآة، كل تأويل يعلّق صورة جديدة على الجدار.
وهكذا، تنتهي القصيدة عند القارئ الذي “يشفّ” حتّى يصير هو أيضًا صدًى معلقًا في سقف اللغة.
فالنصّ هنا، كما كتبه الشاعر ، أصل التكوين حين لم تكن اللّغة بعد قد اتّخذت شكلًا أو صوتًا أو فمًا،
حين كانت ارتعاشة خَلْق، لمست جدار الهاوية فانبثقت منه الكواكب والمجازات.
والعاشق، تلك الكينونة الّتي تتكوّر في القلب كجنينٍ في رحم الدهشة.
والسطر الشعريّ هو ما يأوينا، ما يُعيد ترميزنا بِلُغةِ النبض الأوّل، حين كان الوجود يُفكَّر به كنغمة وليس كمعادلة.
الكلمات تجاوزت كونها أوعيةً للمعنى، لتصبح كائناتٍ حيّة تُحدث أثرها كما تفعل الأشجار حين تميل نحو الشمس،
والأنهار حين تتذكّر ينابيعها فيجرفها الحنين إلى الأعلى.
هكذا، تُلامس القصيدة فيك ما كان صامتًا منذ البدء، وتُشعل في أعماقك ذلك الحنين القديم للمرّة الأولى.
كأنّك تعبر من اللغة إلى المعنى، لا لتفهم، ولكن لتتّسع.
تعبر فيك كوميض خاطف،
توقظ الذكرى النائمة في ذرّاتك، وتعيد ترتيبك على هيئة نجمٍ يتذكّر لحظة اشتعاله الأولى.
أما “كامل صالح”،
فقد رمى حجرًا في ماء الوجود، فاهتزّت دوائر الإدراك كلّها،
أشعل شمعة في كهوف اللّغة الأولى،
فأفصحت الكلمة عن نسبها السماويّ،
وأقرّت القصيدة أنّها لا تُنجَب إلا في لحظة جنونٍ معرفيّ،
حيث الشعر فلسفة مشتهاة،
والفلسفة شعرٌ يرتدي قميص الضوء.
لهذا نستطيع القول إنّ كامل صالح تذكّر، ولم يكتب؛
تذكّر القلب حين كان مجرّة،
والكلمة حين كانت انحناءة ضوء على كتف الوجود،
والقصيدة حين كانت طقسًا من طقوس الخلق.
***
النص
وأنت تسقط في قلبي
خذ صورة ملونة
علقها على جدار اليسار
وعند جدار اليمين
قف
قف طويلا أمام مرآتك المهشمة
بعثر ما تبقى من نبضي
ثم اصعد
لا أقدر على طي قلبي وأنت فيه.
#كامل_صالح
kamel_farhan_saleh #كاملفرحانصالح

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي