
نبض القصيدة… نبض الحياة
قراءة نقدية في ديوان “نبض آخر” للشاعرة بلقيس بابو
مدخل عام
يشكّل ديوان “نبض آخر” للشاعرة والطبيبة المغربية بلقيس بابو صوتًا أنثويًا حارًا، يتجلى فيه التواشج بين الخاص والإنساني، بين الحب الفردي والهمّ القومي، بين خيبة الذات وخذلان الواقع. الشاعرة القادمة من حقل الطب تمارس دورها في الشعر كما في الحياة: تكشف، تُشخّص، وتضمد بالجمال جراحًا لا تُرى. في هذا الديوان المؤلف من عشرين قصيدة، توزعت نصوصه بين الحب، الحلم، الفقد، الهوية، والوطن، وظهر صوت الشاعرة واضحًا في التعبير عن المرأة ككائن يشعر، ويقاوم، ويأمل، وينتظر.
يأتي عنوان الديوان “نبض آخر” محمّلًا بدلالة مزدوجة:
“النبض” هنا يشير إلى الحياة، إلى استمرارها رغم التمزقات، وإلى تلك الحركة الدؤوبة التي تحرّك الشاعرة داخليًا تجاه الكلمة.
أما “آخر”، فتوحي بعتبة جديدة، أو بفرصة أخيرة للبقاء، أو حتى بصوت شعري مختلف ينهض من رماد التجربة.
هكذا يفتح العنوان الباب أمام القارئ ليقرأ القصائد بوصفها محاولةً لإعادة تعريف العلاقة بين الذات والعالم، وكأن كل نص هو “نبضٌ” يأتي بعد توقف أو انقطاع، نبضٌ يعيد إحياء ما كاد أن يُمحى. وهو أيضًا عنوان صادق مع المضمون، حيث نلمح في القصائد نداءات الحب، وتوجعات القلب، وأنين الهوية، والبحث عن معنى في زمن خائب.
بين الوجدان والمعرفة: شعرية التشخيص
تستعير بلقيس بابو من الطب طريقتها في الاقتراب من الإنسان. فهي الشاعرة-الطبيبة التي ترى في الشعر ممارسة علاجية، لا تختلف كثيرًا عن الكشف على المريض. في قصائدها، يتحول الجسد إلى دفتر أحوال روحية، وينقلب القلب إلى مسرح يتصارع فيه الحب والخوف والخذلان. وهذا واضح في العديد من الصور الشعرية حيث القلب يُغتال، أو الجسد يُصفّد، أو الزمن يفاوض الفرح على حساب الألم.
يأتي الحب في هذا الديوان كقيمة مركزية، لكنه حب مجروح، غالبًا ما ينهزم أمام خيبات الواقع، وأمام هشاشة الأمل. تقول الشاعرة:
“يا من قضى خافقي في حبه عمرا
وقد رأى ناظري في وجهه قمرا”
هنا تلمع الصورة الرومانسية الكلاسيكية، لكن مع التطور المعاصر: الحب لم يعد خلاصًا مطلقًا، بل هو أيضًا مصدر ألم. من خلال مثل هذه الصور، تعيد بلقيس تشكيل المعجم الغزلي العربي، بمنظور أنثوي حاد وشفاف.
ثانيًا: المحاور العامة في الديوان
يتضح من فهرس القصائد أن الشاعرة اعتمدت أربع ثيمات مركزية:
- الحب بوصفه خلاصًا وجرحًا:
مثل “لمسة يد”، “دوماً وأبداً”، “خذ بيدي”، “دمت أهواه”، “كف الهوى”. - الخيبة والفقد والزمن:
مثل “تشيخ الليالي”، “ظننتني لا أغار”، “ماذا إذا جار الحبيب”، “الوداع”. - الهوية والانتماء والهمّ القومي:
مثل “شريعتي”، “لنا أن نفتخر”، “وهج الحياة”، “بوابة الإركاب”. - المرأة والذات الكاتبة:
مثل “دموع القلب”، “دمع القصيدة”، “شوق”، “نبض آخر”.
نماذج من القصائد وتحليلها
- قصيدة “يقول لي تعالي”
“يباغتني سناه في الأعالي
كما نجمٍ يناديني تعالي
على باب الهوى فجرًا تغنّى
ونُعصر في رحى العمر الدوالي”
قراءة نقدية:
تبدأ القصيدة بنداءٍ سماوي، حيث يتخذ الحب هيئة النور والنجم، ما يمنحه طابعًا قدريًا يتجاوز الواقع. تحضر مفردات الفجر، والعُمر، والرحى، لتؤسس لحوار داخلي بين الرغبة والخذلان. النبرة الشفيفة تصنع إيقاعًا هادئًا ومؤلمًا، يعكس شغف الذات واستسلامها الجميل.
- قصيدة “دوماً وأبداً”
“في خاطري نغم يجتاحني أمدًا
لما سرى بدمي واغتالني بطرا”
قراءة نقدية:
القمر رمز مثالي للحبيب، والنغم الممتد في الدم إشارة إلى عشق غير منتهٍ، تجاوز المدى، وتحول إلى طوفان داخلي. حضور الفعل “اغتالني” يضفي مسحة مأساوية على الحب، فيمسي العشق ألمًا مقيمًا.
- قصيدة “دروب الحب”
“ندوب الخد داواها طبيب
وندب القلب داهمه المشيب
أيا أسفي على الأزمان تمضي
يساوم فرحنا أمرٌ غريب”
قراءة نقدية:
تزاوج القصيدة بين التجربة الطبية والوجدانية، حيث تحضر مفردات “الندب”، “الطبيب”، “المشيب”، لتعيد تشكيل صورة الجسد كمرآة للروح. الزمن هنا عدو خفي، يفاوض الفرح، ويختطف الحلم دون رحمة.
- قصيدة “شوق”
“أحلامي تُصفّد قهرًا
تحيا بدعاء المحتسب”
قراءة نقدية:
يتجسد الحب بوصفه قدرًا لا يُرد. القصيدة تصور عالمًا معطوبًا حين يُفقد الحب، حيث لا يبقى للإنسان سوى الحلم المقيد والدعاء الصامت. تختلط لغة العاطفة بمفردات روحية صوفية، لتمنح النص بُعدًا إنسانيًا عميقًا.
الملامح الأسلوبية في شعر بلقيس بابو- المعجم الشعري:
تستخدم بلقيس مفردات تنتمي إلى العاطفة والصورة البصرية والوجد الروحي (النور، الشوق، القمر، الدموع، المحتسب).- الاستعارة الطبية:
كطبيبة، تزاوج بين الطب والشعر، فتستخدم استعارات الجسد والتداوي لتصف العاطفة.- الإيقاع الموسيقي:
يتنوع بين العمودي والتفعيلي، لكنه يحافظ غالبًا على رنة موسيقية متجانسة تُسند المعنى وتعززه.
- النبرة الوجدانية:
تميل إلى الشفافية، حيث تتحدث الشاعرة عن تجربتها بصدق عاطفي لا يختبئ خلف الزخرفة اللفظية.
في النهاية : الشعر بوصفه طبًّا وجدانيًا
ديوان “نبض آخر” هو سجلّ وجدانيّ مكثف لحياة تمور تحت السطح بالشوق، والخذلان، والحلم، والانتماء. تنجح بلقيس بابو في التعبير عن الألم الإنساني بلغة دافئة شفيفة، تستمد حرارتها من صدق التجربة لا من تقنيات التصنع.
هو ديوان يبرهن على أن الشعر لا يزال قادرًا على النبض… وعلى الإحياء.
عن الشاعرة: بلقيس بابو
من مواليد الدار البيضاء بالمغرب.
خريجة كلية الطب سنة 2000، أخصائية أمراض القلب والشرايين منذ سنة 2007.
تكتب الشعر والقصة، ونشرت نصوصها في عدة مجلات عربية وعالمية بباريس وأستراليا.
أعمالها:
- رقص النوارس (ديوان شعر، دار الإخوان السليكي – المغرب).
- يوميات طبيبة (مجموعة قصصية، اسكرايب – القاهرة).
- نبض آخر (ديوان شعر، دار خطوط وظلال).
- أرجوحة الأحلام (مجموعة قصصية، خطوط وظلال).
- خطى عمياء (رواية، السليكي أخوين).