بقلم القاص والناقد الأدبي المتميز عبد الرحيم التدلاوي
ماذا لو كان العشق لغزا كونيّا تحاول الذات فكّ شفرته بلغةٍ لم تخترَع بعد؟ هكذا تطل “رسائل من رحم العشق” كـ “مختبرٍ شعريٍّ” تجرى فيه تجارب تحويلِ الكلمات إلى ذراتٍ تنبض بالوجود. ليست القصائد هنا نصوصا تقرأ، بل “انفجارات ميتافيزيقية” تعيد تشكيل الذات من رماد المشاعر العابرة إلى كائنٍ ينسج أكوانه بخيوط الروح. الشاعرة لا تناجي الحبيب، بل تحاور “اللامرئي” في الكون: القمر يصير شريكا في الكتابة، والزمن يذوب كلحظة سرمدية، واللغة تتحول كائنا غريبا يمشي على حافة التناقضات. هنا، تولد الكلمات من رحمِ صمت مدوٍ، وتصبح الرسائل نوافذ يطل منها القارئ على عوالم لم يدركها إلا من جرب أن يكتب دمه بحبر النجوم.
يأتينا ديوان “رسائل من رحم العشق” لهناء ميكو كنافذة مشرعة على تجربة وجدانية عميقة، تنبع من داخل الذات وتفيض بالعاطفة والرمز والتأمل. هذا الديوان هو مجموعة من النصوص الشعرية، وفضاء خاص تخلقه الشاعرة لتبوح من خلاله بتجربة أنثوية وإنسانية نابضة. في هذا التحليل، نقترب من تفاصيل هذا العمل الأدبي، متتبعين إشاراته العاطفية والرمزية، متوقفين عند الغلاف والعنوان والمضمون.. لفهم هذا العمل الذي يتجاوز الشعر التقليدي نحو الشعر الكوني الداخلي.
عتبة العنوان:
يتجاوز العنوان “رسائل من رحم العشق” التوليفة اللفظية الموفقة، ليصير اختزالا لفلسفة كاملة تسكن العمل. الرسائل هنا ليست رسائل عابرة، بل كتابات ولدت من ألم المخاض، من عمق التجربة، من باطن الحلم والجرح، ومن حرارة الانفعال الداخلي. أما “الرحم”، فلا يحيل إلى الجسد الأنثوي فقط، بل إلى “الذات” التي تَخلق وتَكتب وتنبض وتنزف، فيما يتحول “العشق” إلى طاقة جوهرية، ت
عيد ترتيب الكون وتمنحه اسمه الحقيقي. بهذا المعنى، نحن لسنا أمام ديوان عن الحب، بل أمام تجربة شعرية تكتب من موقع الخلق ذاته، من هناك حيث تبدأ اللغة وتتشكل الهوية.
عتبة الغلاف:
يترجم الغلاف ذلك بصريا بطريقة بليغة. اللوحة المركزية تبدو كتجسيد بصري لتشظي الذات في لحظة انفعالها الكوني. وجه أنثوي يطل من بين مربعات لونية، تحاكي التشظي والانبعاث في آن. الألوان ليست زخرفية، بل تتحدث: الأحمر والبرتقالي يحاكيان حرارة العاطفة، الأصفر إشعاع الوعي، الأزرق بعد التأمل، في حين تحيل الخطوط المتموجة إلى حركة داخلية، إلى نبض أو ارتعاش داخلي لا يهدأ. هو غلاف يعكس تمامًا ما في النصوص من توتر بين الرهافة والانفجار، بين السيطرة والاندفاع، بين الولادة والاحتراق.
تحليل عتبة الغلاف:
عتبة الإهداء:
في الإهداء تقدم الشاعرة كلمات موجهة إلى من حولها، لكنها تحمل في داخلها إشارات عميقة. تذكر أمها وأباها ورفيق دربها وأبناءها وإخوتها، ولكنها أيضًا تهدي لطفلة لم تولد بعد، ولشخص مجهول لا نعرفه، مما يفتح النص على احتمالات واسعة من التخييل والتأويل. الطفلة ترمز إلى الأمل أو الحلم أو المستقبل، أما المجهول فهو تجسيد للغموض أو للرغبة في مخاطبة من لا يُعرف أو لا يُقال اسمه. هذا التعدد في الجهات يعكس تعدد الأصوات داخل القصائد نفسها.
تتشكّل نصوص ديوان “رسائل من رحم العشق” ككونٍ شعريٍّ متكامل، حيث يُعاد تشكيل العشق من حالةٍ وجدانيةٍ إلى فلسفة وجودية تُعيد تعريف الذات واللغة والزمن. فالعشق هنا يتجاوز ذلك الشعورٍ بين شخصين ليصير قوة كونية تُعيد ترتيب عناصر الوجود، كما في نص “صباح الورد”:
“أينعت حدائق العشق في محرابي / والنور يلازمها”.
المحراب – في الانزياح الدلالي – ليس مكانًا للعبادة التقليدية، بل فضاءٌ داخلي تُزرع فيه بذور الذات، حيث “الحدائق” ليست نباتات، بل كياناتٌ روحية تُزهر بالكلمات. القمر، بدوره، يصير شريكًا في هذا الخلق: “يُحب أن ينفذ إلى قلبها متوهجًا”، وكأن النور الكوني أداةٌ لاختراق المادي وصولًا إلى الجوهر، تمامًا كما تفعل الرياح العاتية بأمواج البحر: “لتخرج مَكْنون عُمقها بلسماً”، حيث يصير العنفُ الطبيعي فعلَ كشفٍ عن الحقيقة المختبئة.
اللغة في الديوان تتجاوز كونها وسيلة للتعبير لتصير مادة خاما تعاد تشكيلها ككائن حي ينبثق من التوتر بين المادي والميتافيزيقي. في نص “سقيت نبتة الحب في ذاتي…”، تتحول الذات إلى شمسٍ تضيء المستقبل:
“أصبحتُ شمسًا تنير ليل ما هو آتٍ”.
هذا الانزياح من “السقي” الزراعي إلى “الإشعاع” الكوني يعكس تحول الأنثى من كائن يزرع المشاعر إلى خالقةٍ للوجود، حيث تدمج بين الخصوبة البيولوجية (النبتة) والقدرة النبوية على الاستشراف (الشمس). هذا التحوُّل يتكرر في نص “اكتبني في عمرك كلمة…”:
“اعزفني في قلبك ضمةً / يسمعها النبض بالرنين”.
هنا تتحول الكلمات إلى “ضمة” و”رنين”، أي إلى أصوات جسدية تلامس حدود اللغة، وكأن الشعر محاولةٌ لترجمة اللاّمسموع إلى إيقاعٍ ملموس.
الذات الأنثوية تبنى خارج الإطار النمطي عبر حوار دائم مع التناقضات. في نص “نعم أنا متمردة…”، يصير التمردُ هويةً وجودية:
“أعشق تمردي حينما يجعلني جوهرةً مرصعة على تاج مملكتي”.
“التاج” هنا لا يمثل رمزا للسلطة الذكورية، بل يشير إلى السيادة الداخلية التي ترفض أن تكون الأنثى ظلّا للآخر. هذه الفكرة تتجلى في نص “في داخلي طفلة…”:
“وفي واقعي أنثى لا تقبل أن تضعف”،
حيث تتعايش البراءة مع القوة في ذاتٍ واحدة، وكأن الأنثى تحمل في داخلها كلَّ أعمارها دفعةً واحدة: الطفولة (الحلم الأبيض)، والأنوثة (الكبرياء)، والشيخوخة (الروح المبتلة بالأمل حتى فناء الكون).
الزمن يفقد خطيته ليصير سائلاً يحمل الماضي والمستقبل في آن. في نص “أحبك لليوم، للغد، للعمر الذي لا يُعد…”، تذوب الحدود الزمنية لتصير اللحظةُ أبدية، بينما في نص “ويستمر الحب وسط إبداع الإرادة…”، يصير الحبُّ عمليةً دائمة من “الأخذ والرد”، حيث الماضي لا ينفصل عن الحاضر، والمستقبلُ جزءٌ من نبض القلب الآن:
“عمليةُ أخْذ وردٍّ / تشارُك والوِّد / تسامحٍ والورد”.
هذا الانزياح الزمني يذكر بفكرة “الزمن الدائري” في الفلسفة الشرقية، حيث كلُّ لحظةٍ تحمل بذرةَ الأبدية.
العشق هنا مادةٌ سائلة تذوب فيها التناقضات. في نص “ما بيننا جنون عاقل…”، تتحول المفارقات إلى مصدر
لغة الحوار واستكششاف الذات في ديوان “رسائل من رحم العشق” للشاعرة حنان ميكو.
**
يتميز ديوان “رسائل من رحم العشق” بتجربة شعرية فريدة تغوص في أعماق العشق الإنساني، وتقدم رؤية خاصة للعلاقة بين الذات الشاعرة والآخر. يتجلى ذلك في عدة جوانب:
لغة العشق المتجاوزة:
يستخدم الديوان لغة عشق تتجاوز المألوف، حيث لا يقتصر العشق على كونه عاطفة بين حبيبين، بل يمتد ليشمل مفاهيم أعمق مثل الروح، والذات، والكون. تصف الشاعرة العشق بأنه “عشق الروح” ، وأنه يصل إلى “منزلة النبض” ، مما يعكس رؤية للعشق كقوة حيوية ووجودية.
“عِشقُ الرُّوحِ لا يَفتُرْ”
“لقد بلغْتَ في الحُبِّ مَنْزِلةَ النَّبضِ”
الحوارية والتخاطب:
يبرز في الديوان أسلوب الحوار والتخاطب، حيث تتجه الشاعرة بالحديث إلى المحبوب الغائب أو الحاضر، مما يخلق دينامية تفاعلية في النص. هذا الأسلوب يضفي على القصائد طابع الرسائل الحميمة، ويعزز فكرة البوح والمشاركة الوجدانية.
“هل يَصِلكُ حديثي؟”
“قُل لي كيفَ يُمْكن تصريف كل ذلك”
استكشاف الذات الأنثوية:
يقدم الديوان استكشافًا عميقًا للذات الأنثوية في علاقتها بالعشق. تصف الشاعرة نفسها بأنها “أنثى لا تقبلُ أن تَضْعُف” ، وتعبر عن قوتها ورغبتها في النمو والتجدد. هذا الاستكشاف يمنح الديوان بعدًا نسويًا خاصًا، حيث يتجاوز الصورة النمطية للمرأة في الشعر.
“وفى واقعي أنثى لا تقبلُ أن تَضْعُف”
“أَصْبحتُ سَيِّدةَ اهتماماتي”
الطبيعة والإبداع:
تتداخل في الديوان عناصر الطبيعة والإبداع بشكل وثيق. تعتبر الشاعرة الطبيعة مصدرًا للإلهام والتجدد، وتربط بين العشق والإبداع كقوتين متلازمتين. الصور الشعرية في الديوان غالبًا ما تستوحي من الطبيعة، وتعكس رؤية جمالية للعالم.
“إلا يَراعُ الطبيعةِ”
“يُنْعِشَ حِبْرَ روحي”
التناقضات والجدل:
يتميز الديوان بقدرته على استيعاب التناقضات والجدل في تجربة العشق. تعبر الشاعرة عن مشاعر متضاربة مثل الفرح والألم، والقوة والضعف، والوصل والفراق. هذا الجدل يثري الديوان ويجعله أكثر عمقًا وصدقًا.
“حالةٌ من التَناقُضِ ولا أروع”
“ما بيننا جُنون عاقلٌ… وموجٌ هادئ….ونار باردة واشتياق لا يُقاومُ…”
بصفة عامة، يمكن القول: إن ديوان “رسائل من رحم العشق” يشكل إضافة مميزة للشعر العربي، حيث يقدم تجربة شعرية فريدة في استكشاف العشق والذات والوجود. يتميز الديوان بلغته المتجاوزة، وأسلوبه الحواري، واستكشافه العميق للذات الأنثوية، وتناغمه مع الطبيعة والإبداع، وقدرته على استيعاب التناقضات. هذه السمات تمنح الديوان هوية خاصة وتميزه عن غيره من الدواوين..
“رسائل من رحم العشق” ليست رسائل بالمعنى التقليدي، بل هي شذرات من سيرة شعرية، وتكوين وجودي في طور التجلّي. نصوصها تتعدد نبراتها، وتتشظى أصواتها، لكنها تصدر دومًا عن يقين شعري بأن الجرح هو مولد المعنى، وأن الذات لا تتكوّن إلا عبر فَقدها، ولا تُكتب إلا عبر مقاومتها لصمت اللغة.
هذا الديوان يضع قارئه أمام تساؤلات وجودية جذرية: ما حدود الحب؟ ما هو أثر اللغة حين تعجز عن الحب؟ ما العلاقة بين الجسد والغياب؟ وهل نكتب كي نُشفى أم كي نُخلّد الجراح؟ أسئلة لا تجيب عنها النصوص، لكنها تضعها في القلب، دون ادعاء، ودون خاتمة.


