الفنانة التشكيلية والشاعرة العراقية بشائر الشرّاد لمجلة أزهار الحرف
حين تمتزج الألوان بالكلمات، وتتماهى القصيدة مع تفاصيل اللوحة، تُولد أنثى استثنائية ترى العالم بعينين من شغف ووعي.
بشائر عبد الجبار أحمد الشرّاد، ابنة البصرة بروحها، والرمادي بجذورها، عراقية الملامح، عربية الحلم، تكتب كما ترسم، وترسم كما تُحب.
فنانة تشكيلية وشاعرة وأكاديمية، تشغل منصبًا أكاديميًا في كلية الإدارة والاقتصاد – جامعة الأنبار.
تحمل في رصيدها الأدبي كتابًا فكريًا بعنوان “أعطني عقلك”، ومجموعة شعرية ناعمة بعنوان “عِشْ وعشرون حمامة”، وأخرى تنتظر النور بعنوان “بورتريه لوجهٍ مذكّر”.
ومن هنا كان لمجلة أزهار الحرف معها هذا الحوار، حيث نقترب من بشائر الإنسانة، والفنانة، ونفتح معها نوافذ الضوء على رحلتها بين الألوان والحروف.
حاورتها من لبنان: جميلة بندر
—
1- لنبدأ من اللون قبل الحرف… كيف بدأت رحلتكِ مع الفن التشكيلي؟ وهل كنتِ ترسمين قبل أن تكتبين؟
ج1 نعم، اللون أول من همس لي في سري أبجدية الضوء، وأصغيت له ليدخل الهواء، لتدخل الشمس وتلعب مع الأطفال في حوش دارنا وساحات مدارسنا، ويكون للأشكال شكلٌ ومعنى. فبفضل اللون وروعته صار العالم يبتسم حينما يُلقي التحية.
2- ما الذي يغلب على لوحاتك: التأمل الهادئ أم الصراخ الجريء؟ وأي المدارس الفنية تُعبّر عنكِ أكثر؟
ج2 لوحاتي لا تنتمي إلى الحياد والصمت، فهي تصرخ وتُصلي وترقص، وأحيانًا كثيرة تطير. غالبًا أنتمي إلى التجريدية التعبيرية، وأميل إلى الحركة التكعيبية الحديثة ذات الأنف المفلطح، والرؤوس المربعة، والخواصر المستقيمة. أتطفل عليها وأقترب بدافع الشغف، فكلما أمسكتُ فرشاة نسيت النظر إلى ساعتي، وأكاد لا أنتهي حتى تنتهي مني.
3- كيف ترين العلاقة بين الشعر واللوحة؟ هل القصيدة عندكِ تُولد من فرشاة أم من فكرة؟
ج3 القصيدة لوحة شفيفة تُلون الفراغ بين المعنى والمعنى.
ليوناردو دافنشي قال وصدق: إن الألوان من الممكن أن تختفي ويبقى الرسم.
إذن فلا بد من أساس: يكون فيه اللون فكرة أو قصيدة.
أجل، الفن يمسح عن الروح غبار الحياة، ولكن الشعر – يا بيكاسو – يمسح عن جسد اللوحة غبار اللغة.
4- حدثينا عن معرض فني أو لوحة قريبة جدًا إلى قلبك… وما قصتها؟
ج4 هناك لوحة رسمتُها بعد عتمة شديدة، لم أُعنونها.. كانت صورة امرأة ترقص على الماء، أعني أنها فضّلت الغرق في الموج على الاحتراق.
الآن، وقد فهمت سرها، أظنها يا جميلة تستحق النجاة.
5- في إصداركِ “عِشْ وعشرون حمامة”، كيف تصفين تجربتكِ الشعرية في هذه المجموعة؟
ج5 في هذا العُشّ، خبّأتُ الريح اسمي، وفي هذا السرب، حملتُ ملامحي.
عشرون حمامة تغفو بهدوء، وكلّما مرّ بها أحد، تتراقص وتُغنّي.
مجموعة شعرية ناعمة، حلّقت حمائمها في الأزقة، وعرفت أن الحب يُكتب لأول مرة على حصاة، أو على نخلة سمراء سقاها شطُّ العرب، وتزاحم حولها الصبيان يتناولون الرُّطب والبرحي.
حتى أصغر فخّاتيها ضمّت تحت جناحيها وَبرًا لوطنٍ كبير أبناؤه يتوحّدون، يتلاقون، يُذبَحون، يتعفّنون، ويُدفنون جنبًا إلى جنب.
6- وماذا عن “بورتريه لوجهٍ مذكّر”؟ لماذا هذا العنوان، وما الذي يميّز هذه المجموعة عن سابقتها؟
ج6 “بورتريه لوجهٍ مذكّر” مساءلة لملامح الرجل في وجدان الأنثى.
الوجه في العنوان ليس وجهًا واحدًا، بل هو كل وجهٍ أحببناه وترك بصمته.
هذه المجموعة أكثر جرأة ونضجًا من سابقتها، كما أنها نمذجة للرسم في كلمات وغرفة للكتابة الحديثة.
أرسم الكلمات بالجرافيت وأُلوّنها بألوان المجاز الخاصة، فتتكوّن لديّ صور شعرية يتعانق فيها الفن بالشعر.
7- كتابكِ “أعطني عقلك” يحمل بُعدًا فكريًا مختلفًا عن الشعر والرسم… ما الرسالة التي أردتِ إيصالها من خلاله؟
ج7 أردتُ أن أقول: دعونا نفكر قليلاً ونفهم قبل أن نحكم.
هذا الكتاب محاولة جادة لفهم العقل البشري في علاقاته وسلوكياته، وهو صرخة ضد السطحية والنمطية والعشوائية.
لم يكن خروجًا عن الشعر، بل نوعًا آخر من الشعر منطقيّ الإيقاع، ينتمي إلى الوعي بكل لغاته الجمالية والفلسفية.
8- يُقال إن العراق يسكن تحت كل قلم شاعرة، وتحت كل لوحة فنانة… ماذا يعني لكِ العراق؟ هل تُلهمكِ الصحراء كما تُلهمكِ ضفاف شط العرب؟ وكيف تنظرين إلى البصرة، المدينة التي وُلدتِ فيها، بعين الفنانة والشاعرة؟
ج8 إنني قلقة من الإجابة على هذا السؤال، يا صديقتي.
ما أنا إلا قرية طين سمراء، صبغتها شمس البصرة، تجثو على منكبيها.
وُلدتُ مملحة مثل شط العرب، وقلبي ناعور هيت الدوّار، يتطافر الماء على وجنتيه، يجمعه بين راحتيه، يتوضأ فيه ويُصلي على خشخشة الدرفات.
من أجل هذه اللحظة، كان العراق كله قصيدتي، صدرها تطحنه رحى الجنوب، وعجزها يدور على ضفاف الفرات.
9- كيف تنظرين إلى واقع الفن التشكيلي النسوي في العراق اليوم؟ هل المرأة الفنانة تُنصف؟
ج9 المرأة العراقية، بعد تعريفها كإنسانة قبل كل شيء، وُلدت وهي سليلة المجد، مقاتلة، مثابرة، وجميلة.
وإنها كفنانة لم ترضَ بالتكرار، وكافحت لتكسر قيد النمطية، ورغم كل شيء خلقت، وأدهشت، وأثبتت أنها جزء من هذا المدى الحضاري.
فكانت سومر تتكحل بعينيها، ودجلة تتهادى في أنفاسها، وبابل تقرأ على شفتيها.
أما الإنصاف يا سيدتي، فليس منحة من المؤسسات، بل من تاريخ كتبناه بأنفسنا، فكانت الفنانة العراقية سطرًا في دفتر هذا الوطن.
10- هل أضاف انتماؤكِ إلى نقابة الفنانين العراقيين وملتقى الشعراء العرب إلى مسيرتكِ الفنية والأدبية؟
ج10 الانتماء إلى هذه الفضاءات منحني اعترافًا رسميًا، لكنه أيضًا وسّع آفاقي، وفتح نوافذ حوار مع تجارب مختلفة، ووفّر الدعم الكافي لمسيرتي الفنية والأدبية.
والأهم أنه جعلني أرى نفسي من خلال عيون الآخرين، وهذا ضروري للفنان كي لا ينغلق على مرآته فقط.
11- هل تفكرين بإقامة معرض فردي يجمع بين لوحاتكِ ونصوصكِ الشعرية في تجربة تفاعلية؟
ج11 نعم، أحلم بمعرضٍ يقرأ فيه الزوار والهواة اللوحة كما يقرؤون القصيدة.
أن يكون محاصرًا بين ضجيج الألوان والكلمات، وعلى شفتيه ترسم ابتسامة جميلة توثق عبق المشهد.
12- أين تجدين ذاتكِ أكثر: بين طلابكِ في الجامعة، أم بين لوحاتك، أم بين دفاتر القصائد؟
ج12 لا أدري على وجه التحديد، إنني أتشظّى بين الثلاثة:
في الجامعة، أنا العقل الذي يسعى لتنوير العقول، وفي كل وجه من الوجوه مرآة صغيرة تُعيد إليّ وجهي من جديد.
وفي اللوحة، أكون اليد التي تهمس للألوان: هذا العالم شاحب، دعينا نلوّن الفراغ وننسى الوقت أمام قماشته البيضاء.
أما بين دفاتر القصائد، فأنا امرأة تُحاول أن تُعيد للعالم براءة المطر ودهشة الورد، وتجد نفسها عالقة بين لهفة الحب ولهيب الغياب والاشتياق.
وأفضل أن أبقى عالقة على كرسي في القاعة، أُبوح بأسرار القماش والسطور.
13- لفتني أنكِ نشرتِ نصوصكِ في مجلة وموقع أزهار الحرف، كيف كانت تلك التجربة؟ وماذا يعني لكِ أن تُزهِر كلماتكِ في فضاء أدبي يحمل هذا الاسم؟
ج13 “أزهار الحرف” ليست مجرد مجلة، بل حديقة من الزهور تحتفي بالكلمات والشعور.
وقد عاملت نصوصي ولوحاتي بعناية، وقدّمتها كأزهار تُشم وتُقطف وتُهدى للقراء.
فهي ليست نافذة لهذا العالم وحسب، بل شرفة كاملة بنافذتها ودهشتها.
14- عضويتكِ في ملتقى الشعراء العرب، تحت رئاسة الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد، كيف أثّرت في تجربتكِ الشعرية؟ وهل ترين أن مثل هذه الفضاءات الأدبية تمنح الشاعرة مساحة أوسع للتعبير والانتشار؟
ج14 الملتقى فضاء محبّ يحتضن الكلمة ويكرّمها، وهو أكثر من منصة للنشر، بل بيت وجودي.
فيه أضاف لي أصدقاء روح، وقرّاء من ضوء، وجعلني أُدرك أن القصيدة حين تُكتب بحبّ، تصل أسرع.
15- كلمة أخيرة تحبين أن توجّهيها لكل فتاة تحمل شغفًا ما لكنها لا تعرف من أين تبدأ؟
ج15 ابدئي من قلبكِ، لا من خارطة الآخرين.
لا تنتظري الضوء، كوني أنتِ الموقد والشمس.
الشغف لا يحتاج إذنًا، بل يحتاج خطوة.
اكتبي، ارمي باللون، قولي: أنا، وسترين كيف أن العالم يُنصت.
حاورتها من لبنان جميلة بندر
عضو ملتقى الشعراء العرب
محررة بمجلة أزهار الحرف
